اللون الأحمر.. والعدل

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مسرحية من مشهدين  

المشهد الأول :

مجموعة من التجار مجتمعين في الخان الكبير في المدينة  يراجعون أعمالهم ويتشاورون في أمر تجارتهم بمودة ومحبة .

التاجر ابو نجم : إني أستعدّ لأذهب بتجارتي إلى بلاد الهند , وخلال الأيام العشرة القادمة سأكون قد أنهيت استعداداتي وسوف أودعكم وأنطلق إنشاء الله .

التاجر ابو هندية : إذن فأنت ذاهب مع القافلة المنطلقة شرقا والتي أعلن عنها شيخ التجار .اللهم يّسر

أبو نجم : نعم..نعم  إنشاء الله ويسّر  أدع  لي بالتوفيق .

التاجر ابو السكر : وماذا تحمل معك من بضاعة ياابو نجم ؟

ابو نجم : جمعت بضاعة متنوعة  من بلاد السودان, ومن بلاد العرب ,ومن مصر حبوب  وجلود وتحف ومما هو مرغوب في بلاد الهند .

ابو هندية : وأنا بإذن الله سوف أتحرك بعدك إلى بلاد السند ببضاعة متنوعة أيضا .

ابو نجم : على بركة الله .. على بركة الله .

أبو السكر : وأنا سأنطلق إلى يلاد التركمان ببضاعة   أغلبها زيوت وتمور .

ابو نجم : لاتنسوا يا إخواني أنكم في البداية والنهاية تجار خير ورسل محبة وسلام تحملون هذا الدين(     الإسلام ) بضاعة أيضا بأخلاقه  وقيمه  ومبادئه إلى تلك الشعوب الغارقة في الجهل والوهم والوثنية , فلا تتخلوا عن هذه المهمة وتنشغلوا بالدرهم والدينار .

ابو هندية : بارك الله فيك   ونعم الوصاة  وصاتك .

ابو السكر : حقا  وصدقا   وأنتم تعلمون أن من قبلنا من التجار نقلوا الإسلام إلى أصقاع الأرض البعيدة بأخلاقهم  وحسن معاملاتهم   وصدقهم فحققوا ما لم تحققه الجيوش الجرارة .

ابو النجم : إن شريعة الإسلام السمحة فتحت لنا القلوب قبل البلدان  وأن صدق تجارنا  وحسن معاملاتهم مكنت الإسلام ـ مثلا ـ في أندنوسيا البعيدة عنا  وما حولها من الجزر والبلدان .

ابو السكر : يقولون أن أهل تلك البلاد من محبتهم للتجار المسلمين دخلوا في الإسلام أفواجا وأشادوا المساجد والجوامع وصاروا يهتمون باللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم .

ابو هندية : كل ذلك ببركة تجارنا الأفاضل وحسن معاملتهم , وأخلاقهم السمحة الحميدة , حتى أن أهل تلك البلدان ــ على ما ذكر ــ ما إن يلمحوا عربيا مسلما حتى يجتمعون حوله ويتمسّحون به تبركا ومحبة , ويتعلمون الدين الجديد منه .

ابو السكر : فلنحافظ على هذه المزية التي خصنا الله بها " كنتم خبر أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ... "" صدق الله العظيم

ذهب التجار ببضاعتهم كل إلى وجهته يحملون البضائع النادرة في قوافلهم والأخلاق والقبم في قلوبهم طاعة لله ونشرا لفضائل الإسلام الحنيف .

المشهد الثاني :

بعد شهورعاد التجارمن سفرهم سالمين غانمين . وضمهم الخان الكبير مرة أخرى في جلسات أنس ومحبة  يحمدون الله ويشكرونه على توفيقه

ابو هندية : مفاجأة ... سوف نحتفل اليوم يا إخواني بعودة أخينا التاجر أبو الورد من الصين سالما غانما والحمد لله .

ابو السكر : الحمد لله على سلامتك يا أبو الورد .

ابو الورد : سلمك الله   وشكرا لك .

ابو نجم : الحمد لله على سلامتك  كيف كانت رحلتك إلى الصين ؟

ابو الورد : بحمد الله كان التوفيق حليفنا  وعناية الله تكلأنا  فله الحمد والمنة .

ايو هندية : لا شك أنك صادفت أمورا غريبة , ورأيت أو سمعت قصصا عجيبة , في رجلتك إلى الصين , إذ يقول الناس أن الصين بلاد الغرائب والعجائب لاتساع رقعتها وكثرة سكانها .

ابو الورد : هو كما ذكرت يا أخي , فأنتم كما تعلمون أن بلاد الصين بلاد واسعة وهي ذات تاريخ وحضارة منذ قديم الزمان .

ابو النجم : إذن حدثنا يا ابو الورد عن أغرب ما رأيت أو سمعت في سفرك هذا لعلنا نستفيد .

ابو الورد: قد تعجبون من قولي أو تستغربون , ولكن هذا الذي رأيت وسمعت !!

ابو السكر : وما رأيت وسمعت ؟

ابو الورد : كنت أتجول في شنغهاي ــ لا بدّ أنكم سمعتم بشنغهاي ــ فسمعت مناديا يجول في السوق وهو يحمل طبلا علقه على كتفه يقرعه وينادي : يا ايها الناس .. يا أهل المملكة .. اسمعوا..  وعوا  إن الملك حفظه الله ورعاه يأمر بما يلي :

أبو السكر : لابدّ أنه أمر هام يخص المملكة وأهلها

ابو هندية : دع أبو الورد يكمل لنا وكفّ عن مقاطعته يا ابا السكر , أكمل أخي ابو الورد بماذا أمر ملك البلاد ؟ 

ابو الورد : قال المنادي : إن الملك حفظه الله ورعاه يأمر أن يلبس لباسا أحمر اللون كل صاحب حاجة , أو مظلمة , أو شكاية, كي يراه  الملك وينصفه بذاته أثناء جولاته في المدينة ....

ايو النجم : فعلا حكاية عجيبة  غريبة  لباس أحمر يلبسه كل من له شكاية أو مظلمة أو حاجة  !!؟ ولماذا هذا كله ؟

ابو الورد : أنا مثلك استغربت في البداية فسألت واستقصيت فقال لي أهل البلاد أن ملكهم  هذا مرض مرضا شديدا حتى كاد أن يهلك

ابو هندية : أكيد أن أهل المملكة فرحوا واستبشروا بمرضه وأيقنوا بقرب الخلاص منه .

ابو الورد : هذا يحدث عندنا في بلادنا يا أبا هندية لظلم حكامنا وجورهم في الأغلب

أما أهل تلك المملكة فقد عمهم الحزن والكآبة على ملكهم لأنهم يحبونه حبا شديدا لعدله ورحمته بالرعية وعطفه عليهم وعلى الأخص الفقراء والضعفاء منهم

ابو النجم : والله إن كان كذلك فهو يستحق أن يبكوا عليه دما وليس دموعا .

ابو الورد :  لهذا كانوا يجتمعون في الساحات , وفي أماكن العبادة يبتهاون ويتضرعون لشفائه ومعافاته وهم يبكون وينوحون , كبيرهم وصغيرهم .

ابو السكر : والأطباء .. ألا يوجد أطباء !؟ إن بلاد الصين مشهورة بطبها ودوائها 

ابو الورد : طبعا .. فعل الأطباء أفضل ما يستطيعون , وبذلوا له كل ما توفر لهم من دواء حتى برىء من مرضه وتعافى , فعمت الأفراح , وابتهج السكان , وحمدوا الله على شفائه وسلامته

ابو النجم : عجبا يحبونه كل هذا الحب ويفرحون لشفائه كل هذا الفرح !!

ابو الورد : لاتعجب يا أخي فعندما يكون الملك رفيقا بمدار سلطانه , بصيرا بأهل زمانه , باسطا للعدل في رعيته , تسكن إلى كنفه , وتأنس بعفوه , وتثق بحلمه , فليس عنده في الحق هوادة , ولا إغضاء , ولا مداهنة , أثرة للحق , وقياما بالعدل

وأخذا بالحزم فإنه سيكون محبوبا لاريب في ذلك .

ابو هندية : ألا تذكرون موقف سيدنا عمر الفاروق الخليفة العادل عندما رأى في إحدى جولاته في سوق المدينة شيخا هرما يتسول في طرقات المدينة فسأل عنه فقالوا له : إنه يهودي من يهود المدينة فقير ,لايملك شيئا , وليس عنده شيئا ,  فقال

عمر : هذا لايجوز , هذا ليس عدلا ولا إنصافا , نأكل شبابه , وننساه في شيخوخته

ثم فرض له ولأمثاله راتبا من بيت مال المسلمين . رضي الله عن غمر ورحمه رحمة واسعة .

ابو السكر : هذا عمر من مثله ؟   ولكن ما قصة اللون الأحمر ؟ لماذا أمر الملك باللباس الأحمر ؟ ما الحكمة من ذلك يا أبا الورد ؟

ابو الورد : ذكروا لي أن الملك برىء من مرضه إلا أنه فقد سمعه, فلم يعد يسمع الأصوات .

ابو النجم : يا لطيف .. والله إنها لمصيبة ! إذ كيف يتمكن من تدبير أمور المملكة وهو أصم لا يسمع !!؟

أبو الورد : سألت نفس السؤال , فقالوا لي : أن الملك ظلّ يبكي ليالي وأياما حزنا , ولما راجعه وزراؤه ومحبوه وهونوا عليه الأمر قال :

ابو السكر : وماذا قال؟

ابو الورد : قال والله لا أبكي لنفسي , إنما أبكي لصاحب الحاجة , و للفقير والمظلوم لا أسمع شكايتهم   لهذا السبب أبكي .

ابو هندية : هذا حق .. وهذا موقف من يخشى العاقبة في رعيته , ويعرف معنى المسؤولية وثقل الأمانة .

ابو الورد : سبحان الله الموفق للخير والمعين عليه .. اعلموا يا أخوتي أن في كل قوم حكمة , ولكل زمان سياسة  ., وفي كل حال تدبير , فكان من حكمة الملك وتدبيره  أن قال : لئن فقدت سمعي فإني لاأزال أبصر , فإن كنت لاأسمع فأنا أرى

وأبصر والحمد لله .

ابو النجم : ها..ها..ها..لهذا السبب أصدر أمره بأن يلبس كل من لة حاجة أو مظلمة لباسا أحمرا  فيميزه الملك من بين الناس ويحل مشكلته !!

هذا بالضبط ما حدثني به الناس هناك .

ابو هندية : تدبير ذكي وحكيم , فمن أراد العدل والإنصاف لا تعجزه الحيلة ولا تفوته الوسيلة .

ابو النجم : فكان اللون الأحمر شعار العدل والإنصاف في تلك البلاد أليس كذلك ؟

إنها عبرة وعظة لمن أراد أن يتعظ ويعتبر .

ابو السكر : يا حسرة علينا عندنا اللون الأحمر شعار لزهق الأرواح , وقتل الناس , وتمزيق الأجساد بالتعذيب والتنكيل , نرجو من الله العافية .

وسوم: 640