حوار مع الكاتب شكري الباصومي

الشذرات لون وجدت فيه توازني

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

عرف القارئ شكري الباصومي صحفيا ناقدا ساخرا . و عرفه بتميزه في كتابة التعاليق الصحفية المقتضبة التي تسلط الضوء على مواطن الخلل في مختلف المجالات ، ولكن شكري الباصومي الدارس للأدب كان يتمعن في الأدب القديم والحديث على حد السواء ويكتب شذراته الأدبية في هدوء وتأن ليفاجأ القارئ بإصدار كتاب عنونه ب " مراسم الكذب " .

وقد وظف الكاتب شكري الباصومي في هذا الكتاب بعض النصوص التراثية التصديرية لإنتاج نصوص جديدة على سبيل " المرآوي العاكس " ، و بنى نصوصه بطريقة فنية تستجيب لتشكيلاته الإبداعية الخاصة ، ولحركة الذات الإبداعية التي نستشف أنها تعيش دهشة الاكتشاف وهي تتجاوز الصور التي فقدت حركتها ومعناها ، وتجمدت داخل صورة تحيل إلى عالم الموت .

حول هذا الكتاب وحول خاصيات الكتابة عند شكري الباصومي كان للملحق الثقافي معه هذا الحوار :

تقوم بتصدير نصوصك – وهي على شكل شذرات -  في الغالب بنصوص قديمة ، ونلمس من خلال ذلك بحثك في التراث لتنتج الشذرات بروح حديثة ، هل في ذلك خلق دينامكية تواصل بين التراثي والمعاصر ؟

الكتاب مبني على ثنائية واضحة . وأغلب النصوص جاءت مصدرة بنصوص مختارة وتلائم المقام من إبن الأثير إلى أبي حيان التوحيدي ، إلى المعري ، إلى ابن المرزيان ، إلى ابن عبد ربه والغزالي والقشيري وابن قتيبة وأبي ذر الغفاري ، إلى إبن الحداد ، إلى أبي الفرج الإصفهاني ، وأبي سليمان الخطابي وعلي السيستاني وغيرهم .

غير أن الحاضر نال نصيبه من الحضور من خلال شهادات للماغوط والراحل محمود السعدني وبدر شاكر السياب ومظفر النواب ، والبير كامو ، وناصر الدين النشاشي ودريد لحام وأغاثا كريستي وجمال الغيطاني والهادي دانيال ورياض الصيداوي وغيرهم .

 لكن كما تفضلت كان التركيز على النص التراثي الذي لم أجد أي إشكال في التواصل معه .  فروحي ما زالت مشدودة كغيري إلى ذلك الرصيد التراثي الذي نهلنا منه  وما زلنا لنكتشف أننا لا نعيش غربة عنه ، بقدر ما نلمس تواصلا ، وان تغير العصر والمصر . وأعتقد أنه لا يمكن الفصل بين الماضي والحاضر الذي لا ينفك عن المنتوج الثقافي في بعده التاريخي والأسطوري ، ومن هنا يصبح الفصل في " مراسم الكذب " بين الماضي والحاضر ضربا من التعسف ...

يلمس القارئ لهذه الشذرات قراءات عميقة للتراث الأدبي والفكري والأعمال الأدبية التي وظفت التراث وخاصة في الرواية والشعر ، ولكنك خرجت على القارئ بشكل فني هجين ، نجد فيه صدى القصة الحدث وبعض استعارات ورموز وصور الشعر ، هل هو اختيار مقصود ؟ أم بحث عن الشكل ؟ أم تجاوز مسألة الشكل ؟

قال الماغوط : " الفرح ليس مهنتي"

وقياسا أقول:"التصنيف ليس مهنتي" 

ليس المهم في أي شكل نكتب بل ماذا نكتب؟

وحين انطلقت في الإعداد لهذا الكتاب احترت في تصنيفه . البعض اعتبر بعض النصوص تندرج في ما اصطلح عليه بقصيدة النثر ومن بين هؤلاء جامعيون وأيضا شعراء لكني تهيبت الشعر من طلق إيماني بعدم حشر النص في شكل قد يتيه ضمن التصنيف .

شخصيا تجاوزت الشكل حيث كان المعجم المهمل يحاور الحياة اليومية والحارقين ، والغيطاني يحاور بصاصوه الشطار والعيارين، وابن المرزبان صار معاصرا لدريد لحام الساخر من بعض الفكهاجية العرب..

باختصار تكمن طرافة الكتاب في تمرده على الشكل وهذه استوحيتها من الشاعر والفيلسوف سليم دولة الذي شجعني على المضي قدما في الكتابة . كما تأثرت خاصة بكتاب "السلوان" الذي لم ينل حقه من الدراسة والبحث باعتباره شكلا مميزا وأيضا جادا وحارقا .. 

تتنفس نصوصك التراث مع أنها مكتوبة بروح حديثة وبحس الصحفي الساخر الناقد ، فما هي الحدود الفاصلة بين الكتابة الصحفية والكتابة الأدبية في رأيك ؟

حين أكتب للصحيفة أراعي الجمهور الذي أتوجه إليه باعتبار أن جمهورها ليس جمهور الكتاب من ناحية ، وما يسمح به لجمهور المثقفين قد لا يكون مسموحا به للجمهور العريض الذي قد لا يكون لديه الاستعداد لتقبل ما يتحمله قارئ الكتاب..

ومن ناحية أخرى فإن زخات التي أكتبها في "الشروق" غالبا ما تكون آنية وترتبط بحدث معين لذلك لا يمكن التعاطي معها . وقد حذفت بعض الشذرات بناء على نصيحة من الشاعرالكبير آدم فتحي . وقد سمحت لنفسي الخوض في هذا الموضوع دون استشارته ...

مع "مراسم الكذب" وجدت من الصعب أن تفصل نهائيا بين الكاتب والصحفي لكن بالإمكان المحافظة على روحك التي تظل حاضرة نقدا وسخرية وترويضا للحرف.

انطلقت في كتاب " مراسم الكذب " من التعريف المعجمي للشذرات ، فالعديد من المصطلحات اللغوية التي انتهى استعمالها بعد تشويهها وإنزالها إلى الدارجة المرذولة ... فهل ترى أن تلك المصطلحات التي تآكلت بعدما شوهت معانيها كان هدف تشويهها مقصودا لطمس معالمها النقدية ؟ أم للتقليص من استعمالات المعجم اللغوي للغتنا العربية ؟

 تورطت في فتنة المعاجم . ورأيت أن الدارجة التونسية يمكن توظيفها دون أن نتورط في ضرب العربية الفصحى . فعلى سبيل المثال استعملت عبارة " العفاط" وهي العبارة ذاتها المستعملة في الدارجة التونسية . والعفاط لغة هو الألكن الذي لا يفصح ، ونرمز إليه بذاك الذي لا يحسن سوى الضرط وهو أحد معاني فعل عفط . وقد نقل عن الإمام علي قوله:"والله لدنياكم أهون علي من عفطة عنز.

وغير بعيد عن هذا المعنى نجد " العربون " وهو المعنى نفسه المتداول عندنا ، أو فعل " خج " بمعنى ضعف الرأي وقد استعملته للريح " تخج " في الهبوب ، أو " الفشخ " بمعنى الظلم والصفع في لغة الصبيان ، أي " الفشخ " وهو ضرب الرأس : "فشخه" ضرب رأسه بيده ... صفعه باليد كما قال إبن فارس في " مقاييس اللغة " ، أو الزبيدي في "تاج العروس " ، أو ما جاء في باب " حرق " من حديث عن الحراقات أو الماء الحراق أي شديد الملوحة كما جاء في "العين" للفراهيدي . لكن هذه الاستعمالات اللغوية لم تكن اعتباطية ، بل كانت موظفة توظيفا جماليا وضمن نسيج متناغم مع المضامين . وأيضا لأذكر بعظمة هذه اللغة وهوية هذا الشعب ولهجته التي تتناغم مع الفصحى ، بل هي الفصحى ذاتها والتي اخترتها واختارتني من جهة . وحين نحيي هذه العربية فإنما ننتصر للعربية ونذكر بأصول الدارجة المستعملة .

يكتب شكري الباصومي " الزخات " أي التعليقات القصيرة التي تتناول بعض المظاهر المستهجنة بروح نقدية ، هذا على مستوى صحفي ، أما أدبيا فهو يكتب الشذرات الخاطفة ، هل هو اختيار ؟ هل نتوقع منك أن تكتب مطولة شعرية أم رواية مثلا ؟

الشذرات لون وجدت فيه توازني . فأنا لا أحسن قطع المسافات الطويلة . أنا مثل ذلك اللاعب الكسول الذي يقرأ اتجاه الكرة . فيستحوذ عليها بأقل جهد فيما يرهق آخرون أنفسهم بجهد عضلي يشكرون عليه.

لا أعتقد أني سأفلح في كتابة نص شعري مطول مثلا ، أو حتى الرواية . ولكن جربت " الميني قصة " إن جاز التعبير ورأيت أني قادر على ترويضها . وقد أصدر قريبا مجموعة قصصية قصيرة جدا جدا ، وقد يطلق عليها قصة أو نحتار في التصنيف مرة أخرى ...

سأظل في كل الأحوال وفيا للشذرات ...