الأستاذ "محمود محمد شاكر"

لقاء مع الدكتور محمد جمال صقر

عن الأستاذ "محمود محمد شاكر"

د. محمد جمال صقر

[email protected]

حلقة إذاعية في 12/6/2001 م

من برنامج( حديث الفكر)

بإذاعة الشارقة

سجلتها وفرغتها وضبطتها : نهاد مجدي

[email protected]

تمهيدية الماجستير بقسم النحو والصرف والعروض

من كلية دار العلوم ، بجامعة القاهرة

شريف إبراهيم:

أعزائي المستمعين، دَعوني أبدأ هذه الحلقة بهذه الكلمات:

كانَ  ولا شَيْءَ غَيْرَهُ مَلَأَ الْوَهْمَ يَقينًا وَالْحُلْمَ إِقْرارًا.

يُزْهِرُ في حَيْثُ حَلَّ مُرْتَبَعُ الشَّمْسِ بَهِيَّ الْأَنْواءِ مِدرارًا.

يَنْسُجُ ثَوْبَ الْإِبْداعِ مِنْ وَرَقِ الصِّدْقِ وَيَكْسو الْعُقولَ أَفْكارًا.

يَبْني قِلاعَ الْأَرْواحِ مِنْ حَجَرِ الْحَقِّ وَيُعْلي الشُّّّّّّّّّّموخَ إِصْرارًا!

كتب هذه الكلمات- أعزائي المستمعين- واصفا بها أستاذه الأستاذ" محمود محمد شاكر"- رحمه الله !- شيخَ العربية، ضيفُ حلقة اليوم الدكتور "محمد جمال صقر" المدرس بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة ، وهو الآن يعمل مدرسا بقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة السطان قابوس التي يشرف بها على نشاط الشعر ، وما يصدر فيه.

حُكِّمَ ضيفنا في مهرجان الشعر العماني، والأسبوع الثقافي بجامعات دول مجلس التعاون الخليجي ، والمسابقة الدورية المشتركة بين جامعة الإمارات وجامعة السلطان قابوس ، وكذلك المسابقة الدورية الخاصة بجامعة السلطان قابوس .

أصدر سنة ألف وتسعمائة وأربعة وتسعين مجموعته الشعرية الأولى"لبنى" ، وفي سنة ألفين مجموعتة الشعرية الثانية "براء" ، وفي السنة نفسها أصدر الجزء الأول من مقالاته وقصصه  "نجاة من النثر الفنى " . له كتاب"الأمثالُ العربيةُ القديمةُ  دراسةٌ نَحْوِيةٌ "، وكتاب"عَلاقةُ عروضِ الشعرِ بِبِنائهِ النَّحْوِيِّ " الصادران عن مطبعة المدني بالقاهرة ، وله هذه الأبحاث أيضا التي أصدرها بين ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين وألفين وواحد : " التوافقُ أحدُ مظاهرِ عَلاقةِ عِلْمِ العَروضِ بعلم الصرفِ"، " القافِيَةُ المُوَحَّدَةُ الْمُقَيَّدَةُ وكلمتُها في الشعرِ العمانيِّّّّّّ "، "شِعْرُ أَبي سرور الجامعِيِّّ العُمانيِّّّّ بين المُعارَضة والتَّخْميس"، الفِكْرُ العربيُّّّّّّّّّ بين نظامِ اللغةِ ونظام التفكيرِ ملاحظاتٌ على كتابةِ طلّابِ قسمِ اللغةِ العربيةِ" .  وله قبل هذا كله وفوقه  تلمذة للأستاذ" محمود محمد شاكر" شيخ العربية – رحمه الله!- .

دكتور محمد جمال صقر ، أهلا ومرحبا بكم في هذا البرنامج .

د.محمد جمال صقر :

أهلا بك ، مرحبا يا أخي ، أحسنت .

شريف إبراهيم :

كنا في- الحلقات السابقة - نتعرض لعلماء من تراث هذه الأمة ، وكنا نستقي منهم أفكارهم وآراءهم التي أضاؤوا لنا بها الطريق ، ولكن في هذه الحلقة سنقوم بنقلة كبيرة ؛ حيث سننتقل من القرون الأولى للأمة الإسلامية إلى القرن الرابع عشر الهجري ؛ حيث يوجد فيه شخصية اليوم وهو الأستاذ" محمود محمد شاكر" الذي يعتبر شيخا للعربية بحق ، وهذا ما سنتعرف عليه من ضيفنا الدكتور" محمد جمال" ، فليبدأ معنا بالإجابة على هذا السؤال ، ويعرِّّّّفنا من هو الأستاذ" محمود محمد شاكر" ؟

د.محمد جمال صقر :

 بسم الله ، له الحمد ، ولرسوله صلاته وسلامه ، وبعد ،

 فمرحبا يا أخي، ومرحبا يا إخوتى ، لقد أثارتني كلمتكم- يا أستاذ شريف- التي تنبه بها مستمعيك إلى أنك تَنْقُلُهم نَقْلَةً واسعة من ذلك الزمان البعيد زمان العزة العربية الإسلامية الذي كنت مشغولا أنت وهم بالتعرض لأعلامه،إلى هذا الزمان الذي لا يخفى على أحد منا وصفه ، الذي تنتقي لهم منه علما تحدثهم عنه ، وكأنك بهذا تقول لهم مازالت فينا بقية ، ولم تظلم سماء بلادنا من النجوم.

 لكنَّ لي تعليقا أدخل به إلى إجابة سؤالك هذا، أنا أرى أن هذا الرجل ليس بمنقطع من أولئك الأعلام القدماء ؛ يكفيك يا أخي أن أبلغك كلام رجل تعرفه أنت ومن يشتغلون بهذه العلوم وهو المفكر الجزائري الشهير الأستاذ" مالك ندي" الذى هو صاحب المدرسة التي صارت تنتمي إليه بالندويين الجزائريين الذين عُنوا بعد ذلك بكتبه وغيرها ، يكفيك أن تعلم أن هذا الرجل قال في الأستاذ" محمود": لو عاصره الجاحظ لترك له مكانه ! ربما تحدثت أنت في حلقاتك عن الجاحظ وأشباهه من الناس فكيف تقول إذا ما بلغك مثل هذا القول ! إنك تقول عندئذ "كَأَنَّنا بِالْأَمْسِ لَمْ  نَزَلْ" كما قال بعض السلف،" كَأَنَّنا بِالْأَمْسِ لَمْ نَزَلْ"!

 هذا رجل نأسى حين نسأل عنه، ونتذكر كيف قال" الفرزدق" في" زينِ العابدينَ بنِ علي" :"وَلَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هذا بِضائِرِهِ" حين أشار"هشامُ بنُ عبدِ الْمَلِكِ" في خلال طوافه حول الكعبة إلى" زين العابدين" حين اجتمع عليه الناس فقال: من هذا ؟ وكأنه غضب لاجتماع الناس على هذا الرجل ، على رجل أهل البيت الذي بينهم، وتركهم له وهو الخليفة ، فقال: من هذا ؛فأثار" الفرزدقَ" شاعرَ تميم الذي لولاه لضاع ربع اللغة - أثاره إلى هذه القصيدة التي كان مفتاحها (من هذا) هذه التي قالها" هشام" . فمن هذا التي تقولها يا أخي هي في موضعها ؛ لأننا  نأسى لعدم علم الناس بهذا الرجل في هذا الزمان ؛ لأسباب كثيرة نرجوا أن يكون هذا البرنامج دافعا لهم إلى أن يفتشوا عنه؛ لأن بعض الناس لهم ظروف تحتاج إلى أن نفتش نحن من أجلها عنهم ولم يتمكنوا من أن يصلوا إلينا لأمور كثيرة .

يا أخي ، ما أعجب هذا الزمان! هناك ناس  يصلون إلينا رغم أنوفنا ، وهناك أناس يصلون إلينا برغبتنا ، وهناك أناس لا يصلون إلينا ، هذا الرجل من هؤلاء ، نحن لا نعرفه ، أنا لم أعرفه إلا في الجامعة ، في حين أننا منذ كنا أطفالا وكما كنت تردد- أنت- قبل البرنامج عبارة لبعض الأعلام ، كيف عرفتها ؟ لأنها كانت تُتلى علينا صباح مساء من خلالِ منافذَ مختلفةٍ للإعلام . أما هذا الرجل فلم نكن نعرف عنه شيئا.

"محمود محمد شاكر" ابن الشيخ" محمد شاكر" وهو من كبار علماء الأزهر وإدارييه ؛ لأنه كان وكيلا للأزهر ، وكان رجلا سياسيا بالإضافة إلى كونه عالما ،  كان رجلا مؤثرا ككثير من رجال الأزهر في ذلك الزمان ، أنت تعرف أن الأزهر كان في المقدمة ، فكان هذا الرجل من أولئك الذين  كانوا في المقدمة ، الذين إذا ما أومأوا للناس قاموا ، وإذا ما أومأوا إليهم وقفوا وقعدوا يأتمرون بأمورهم ، ولا نريد أن نستطرد في هذا المعنى المُؤْسي ." محمود شاكر" هو ابن هذا الرجل وأخو" أحمد محمد شاكر" وهو مَنْ تعرف وهو مُحَدِّّثُ العصر ، كانوا يقولون : إذا ما قالوا الشيخ شاكر- فيما قبل زماننا قليلا - انصرف هذا إلى" أحمد محمد شاكر" ، وإذا ما قالوا الأستاذ انصرف إلى" محمود محمد شاكر" ؛ لأنه لم يدخل كبقية كثير من أهله إلى الأزهر وكان هذا عجيبا ، لم يدخل إلى الأزهر ليدرس كما درس أبوه وإخوته، لا أقصد" أحمد محمد شاكر" فقط ، له أخوان آخران أحدهما أو ربما كانا جميعا قضاة شرعيين، ولكن لم يُشْهَروا شهرة" محمود" و"أحمد" . المهم أنه الذي تفرد بعدم الدراسة بالأزهر، لأمر ما تفرد ، وسنعرف في خلال الكلام أعاجيب عنه .

 

شريف إبراهيم :

سنتكلم عن الجاحظ في حلقة أخرى – إن شاء الله – لم نتكلم عنه بعد ، ولعل تعرضنا للجاحظ بعد الشيخ" محمود محمد شاكر" سيظهر لنا هذه المقارنة .

على العموم هناك الكثير من العلماء وليس الأستاذ" محمود محمد شاكر" فقط ظُلموا فعلا ، ولم يأخذوا حقهم في إظهار أعمالهم ، وإظهار مكانتهم للناس ، ولعل هذا لعدة أسباب ؛ بعض الناس تلامذتهم لم يقوموا بواجبهم نحوهم ، وأشهر مثال في ذلك" الليث بن سعد"- يبدو أن مصر مصابة بهذا الأمر- كان إماما وعالما كبيرا فى نفس عصر الإمام" مالك" إمام دار الهجرة ، والإمام" الشافعي" تتلمذ على يد الإمام "مالك" ، ولما أنهى رحلته بعد ما ذهب إلى العراق وانتهى به المطاف إلى مصر كان" الليث بن سعد" قد توفي إلى رحمة الله ، وبدأ الإمام "الشافعي" في دراسة ما تركه" الليث بن سعد" من علوم وقال كلمته المشهورة حتى الآن ( الليث أفقه من مالك).

لكنَّ" الليث بن سعد" ضيعه تلامذته ، فنحن الآن نريد أن  نكون مع تلميذ يحفظ أستاذه ، لا يضيع هذا الأستاذ ، لذلك يا ليت لو قلت لنا نبذة قصيرة عن حياة الأستاذ" محمود محمد شاكر" ؛ متى عاش، و أين، و كيف كانت حياته ؟

د.محمد جمال صقر :

أحسنت، لكن أخشى أن أكون أنا قد تطبعت بطباع أستاذي من العزوف عن منافذ هذه المعرفة فلا نقدم شيئا مما ترجوه ، لكن أنا أرجو أن أصنع شيئا يحفظ علي أصول ما تعلمناه من أستاذنا ، ولا يمنع منا الناس من الوصول إلينا ، نريد أن نجمع هذا ، نريد أن نصنع هذه المعادلة الوسط .

أستاذنا "محمود محمد شاكر" هذا الذي ولد بالإسكندرية، ورحل به أبوه إلى القاهرة ، وتعلم في المدارس العامة التي رزحت تحت نير نظام تعليم "دنلوب" وعانى كما عانى الناس ، انتبه قبل أن ينتبه نظراؤه، انتبه في سن مبكرة إلى هذه المشكلة التي رزح تحتها التعليم ، وكان يلاحظ أن هذا النظام الفاسد يقدم موادَّ علميةٍ على موادَّ في نظام التعليم اليومي فيؤخر- مثلا - دروس العربية إلى آخر اليوم بعد أن يكون الطلاب قد تعبوا من المواد الأخرى .

عاش حياة عجيبة مليئة بالاضطرام والاضطراب ، وتحول من حيث لم يكن يدري من القسم العلمي الذي كان فيه إلى القسم الأدبي ، وفُتن بالعربية كما فتن هناك بالرياضيات، وهو بقي إلى آخر حياته يرى بين الرياضيات العليا واللغة العربية صلة،وربما كان فقهه هذا لهذه الصلة هو الذي أوقفه على الأسرار ،والذى مكنه لشيء لم يكن يتيسر لكثير من الناس ، وهو معرفة طرائق تفكير الناس من خلال كلامهم حتى إن بعض الناس كان يتوسل إليه : هلّا كتبت لنا سر هذا الذى وَهِبْتَه ! هلّا كتبت لنا كتابا نعرف به كيف نفعل هذا ، كان في بعض معاركه إذا ما ثار عليه بعض  خصومه يقول : فليفعل ما يشاء ، أنا أستطيع أن أستخرج من كلامه ما يؤكد هذا الذى أدّى ، أنا لا أدَّعي شيئا ، أنا أستطيع أن أستخرج من كلامه،وكان هذا في معركته أو في حربه لفساد" لويس عوض" الذى كان مسيطرا على جريدة الأهرام  .

هذا الرجل عاش حياة- كما قلت لك - مضطربة ، حتى إنه لما تزلزلت لديه أرجاء هذه الحياة وفسدت أوشك على الفَتْك بنفسه ، وقد بلغ هذا الذي أوشك عليه أستاذَه" مصطفى صادق الرافعي" ، ولعلك تستطرف أن يخرج هذا من ذاك ، طبعا هي أمة من الأخيار بعضها من بعض ؛ فهذا" محمود محمد شاكر" تلميذ" مصطفى صادق الرافعي" تلميذه بالمراسلة، كان" شاكر"في القاهرة و"الرافعي" في طنطا ولم يبرحها، وكانا يتراسلان؛ كلما حدث لشاكر شيء أو أدهشه شيء أرسل إلى أستاذه يستفتيه : هلا قلت في هذا شيئا ، كيف ترى لى ... كيف كذا ... كيف كذا ...، فلما أوشك ونفد صبر" شاكر" وأوشك على ما ذكرت لك مما يُؤْسيني أن أذكره بلغ الرافعي هذا ، وكتب سلسلة مقالاته التي تراها في"وحي القلم " بعنوان "الانتحار" ، وأدارها بين شيخين ، وهذا قريب مما قدمت به للِّقاء - أدارها بين رمزيين يستلهمهما من الترات فكأنه يرى" محمود محمد شاكر" متصلا بذلك الزمان غير منفصل .

دخل" محمود محمد شاكر" إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وازداد لديه الإيمان بفساد هذه الحياة، حتى إنه كان يسميها الحياة الأدبية الفاسدة،فيئس من الجامعة، لا أريد أن أذكر ما كان بينه وبين الدكتور" طه حسين" مما جعله يكره الجامعة، وتنهار لديه معالمها، ويتركها وهو في أول السنة الثانية ، تخيل أنت، شخصية في ذلك  الزمان الذي كان جامِعيّوه معدودين على الأصابع يننتظرون مستقبلا رغيدا، يترك الجامعة من أجل اهتزازِ قيمةٍ لديه، هؤلاء الناس يعيشون لِمعانٍ إذا ما فسدت فسدت لديهم هذه العيشة!فترك هذه الجامعة، بل ترك مصر كلها، وسافر إلى السعودية، وأنشأ مدرسة في عهد" عبد العزيز بن سُعود"، وأدارها في هذين العامين، ثم دَعَوْهُ إلى مصر، فرجع.

من أعاجيب حياته أنه جاء في وقت وعاف الاجتماع، وآثر الوَحْدة فأخذ مسكنا عاش فيه وحده ، وكأنه يريد أن يتطهر بالعُزلة، أن يصطلي بنار العزلة وهذه العزلة مَصْهَر مَن جرَّّّّّّّّّّّبها عرفها.

لا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلّا مَنْ يُكابِدُهُ!

وهناك كثير من الناس كتب عن حياته كتابات تستطيع من خلالها أن تعرف أنه كان له في كل وقت عمل، وكان له في كل وقت مشكلة، كانت حياة صاخبة حتى أيقن بضياع جهده، وأن كلامه يذهب أدراج الرياح فآثر العزوف، وانتى إلى بيته الذي لم يكن يبرحه إلا قليلا، يأتيه فيه الزوار... وهكذا، فتجمعت أمور كثيرة عليه فلم يكد يعرفه أحد، هذه الحياة ، هكذا، ولله الأمر!

شريف إبراهيم:

هل هناك ترجمة للأستاذ" محمود محمد شاكر"، أنا أريد أن أذكر على سبيل المثال: كثير من العلماء لم يكتب عن نفسه، ولكن من المدهش أن نجد أن عالما مثل ابن خلدون كان أول من كتب عن نفسه ترجمة وافية، تعريفا شاملا كاملا عن نفسه،وكان شيء رائع، فهل كتب الأستاذ"محمود محمد شاكر" شيئا عن نفسه، أو هل قام بذلك أحد من تلامذته؟

د.محمد جمال صقر:

الأستاذ" محمود" يَتَسَرَّبُ إلينا كلامُه عن مفرداتٍ كثيرةٍ من حياته من خلال كتبه، ولا سيما "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، له كتاب مهم صدر في أوائل الثمانينيات اسمه " رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" و قد صدر وحده عن دار الهلال،ثم صدر الآن..منذ فترة تُتداوَل طبعة من كتابه "المتنبي" وفي مقدمته "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، في هذه الرسالة تستطيع أن تقف على معالم من حياته.

لكنْ هناك كتب كُتبت فيه ورسائل، أنا لي صديق هو الدكتور" محمود محمد الرِّضواني" كانت رسالته للماجستير في "الأستاذ محمود شاكر بين الدرس الأدبي والتحقيق"، وبلغني أنه قد صنعت في الأستاذ محمود رسالتان في الأُرْدُنّ ماجستير ودكتوراه، وقد أخرجت الصحفية الأستاذة "عايدة الشريف" - رحمها الله !- كتابا اسمه "محمود محمد شاكر حياة قلم" وقد صدر بعد وفاة الأستاذ"محمود"، لأنها توفيت - وهذا من أعاجيب الأقدار - توفيت قبله بقليل وكان الكتاب كاملا في مكتبتها، فجمعوه، وطبعوه بعد ذلك، لم يره الأستاذ "محمود"، وتحدثتْ كذلك في كتابها" شاهدة عصر"عن الأستاذ "محمود" لكن في فصل من فصول الكتاب.

وهذا سؤال في موضعه، لكنْ كأن الأستاذ "محمود" على طريقة أولئك الذين قالوا: نحن نؤلف الرجال وهم يؤلفون الكتب، فهو مُتَسَرِّبٌ، نحن نَتَجَمَّلُ بذكره لا نَزيده بذكرنا، بل نتجمل ، نزداد بذكره، وأنا على آية حال من أولئك الذين يُلِحّون دائما على ذكره؛ فكأنني أَزيد بذلك كلامي شرفا مهما كان هذا الكلام.

شريف إبراهيم:

من الكلام الذي قلته أنه كتب كتابا عنوانه في الطريق إلى ثقافتنا، الثقافة العربية، ثقافة هذه الأمة، وتلقيبه بشيخ العربية أيضا مع هذا العنوان في الطريق إلى ثقافتنا قد يعطي انطباعا عن الهدف الذي عاش من أجله هذا الرجل، فنريد في استطراد أن نتعرف إلى هذا الأمل الذي كان يحيا هذا الرجل من أجله والذى عكف حياته كلها عليه.

د.محمد جمال صقر:

جميل،ما أحسن هذا، رحمه الله!

    ربما زادَهُ ثورةً وحَفَزَهُ إلى غايته التي رَصَدَ لها حياته أن رأى حضارتَه وأمته ذليلةً بين أيدي مغتصبين طاغين لا يَرْعَوْن لله إِلًّّّا ولا ذمة، حين نشأ وقد سيطر على مصالح بلاده ذلك المستعمر الغاصب، وحين يقرأ في كتاب الله تكريمَه لهذه الأمة، ويقرأ في كتبها، هو لا يحب أن يسمي كتبنا القديمة تراثا، لأن هذا الاسم يوحي بذهابه وفنائه كفناء التراث، ففي كلمة تراث فناء وبلى، هو يسميها الكتب العربية والكتب منها كتب قديمة وكتب وسيطة وكتب حديثة.

إذن هو التفت أو انتبه إلي غايته وزاده حرصا عليها وسَعْيًا إليها ما رأى عليه أمته من هذا الهوان بين أيدي من لا يستحق، رصد حياته لهذه الحضارة العربيةالإسلامية، رصدها لها وعيا ومنافحة، فلم يكن يترك شيئا منها، أو فيها، أو لها، أو عنها، إلا بحث عنه، وحققه، وضبطه، وحقق صحيحه من سقيمه، واطمأن إليه، وعرَّف به الناس من خلال تلامذته و وُرّاده، أو كَتَبَ عنه .

غايتُه التي رصد لها حياتَه الحضارةُ العربيةُ الإسلاميةُ، هذه الحضارة العربية الإسلامية التي هي شجرة حية كغيرها من الحضارات، شجرة حية تقوم على جذر من ثقافتنا (معنويات هذه الحضارة) يتصل بهذا الجذر فرعه الذي هو هذه الماديات التي نراها في هذه الأعمال البارزة للعيان، هو خص حياته أو قصرها أو رصدها للحضارة العربية الإسلامية و تخصص فى جذر الحضارة العربية الإسلامية (الثقافة) التي هي الجذر الذي لولاه لجف الفرع وذبل ولم تظهر هذه الحضارة أو انحرفت أو فسدت، كما ترى أنت من الماديات التي طغت وبغت واستفحلت في بعض البلاد، ولم تقم على أساس صحيح من ثقافة صحيحة؛ فتلاعبت بالناس وأفسدتهم يمينا ويسارا.

وهذه المعنويات كما تعرف تقوم على العقيدة، كنت أراها أحيانا..وربما كان هذا التشبيه صائبا -أراها كاللؤلؤة الطبيعية التي تتكون في الصَّدَفَةِ حول حَبَّةِ الرَّمْلِ، فحبة الرمل- فيما يبدو لي- هي العقيدة، واللؤلؤة التي تتكون عليها هي مجموعة العلوم والمعارف والخبرات والأقوال والأفعال والإقرارات التي تَكون منذ أن يعتقد الناس هذه العقيدة وإلى الوقت الذي فيه الباحثُ نفسه .

يا أخي ،سبحان الله! لم يكن يُهْمِلُ شيئا يُكتب بالعربية، هذا شيء لا تقوم له هيئة كبيرة من العلماء، زرناه مرة في أواخرِ حياته، فوجدناه قد وصلته نسخة من كتابٍ لابن سلام، وجعل يستخرج،ويحقق، ويُنَسِّق فيها في آخر عمره، لم يكن يسكت، حتى أسكته المرض!

رصد حياته لهذه الغاية، وتخصص في معنويات الحضارة في ثقافتها، وفتنته هذه اللغة- كما قلت لك- وكأنه وجَّهَهُ إليها وأغرق فيها شبهها بالرياضيات التي لاءَمَتْه، ففتنته اللغة العربية شعرا ونثرا فلم يكن يهمل شيئا يكتب بالعربية ،واللغة كما تعرف والتفكير قريب من قريب - وهذا يحتاج وحده إلى بحث - أهلنا كانوا يَرَوْنَ قول القائل قُلْتُ بمنزلة قوله فَكَّرْتُ،زرته مرة بعد أن أصدر بعض الناس كتابا في أهرام مصر، وكان الكتاب بلغة حسنة، والذي كتبه رجل من عائلته، فأثنيت على لغة الكتاب، قلت: هذاكتاب في الآثار ولغته عالية! فعجب من عجبي :هذا هو الأصل، نحن صرنا نعجب مما لا عجب فيه، فنبهني إلى أن هذا أصلُ الكلام، وسواء كنا في جغرافية، في آثار، في تاريخ، في رياضيات... لكن أنا ابن هذا الزمان لا ابن زمانه، أنا ابن هذا الزمان ، لم نَعْتَدِ اللغةَ العاليةَ، وهذا باب يحتاج إلى كلام.

مما أفسد لغتنا أنهم في العلوم الأخرى غير اللغة العربية يظنون أنهم لا يحتاجون إليها ليست من شأنهم، وأنهم يكفيهم أن يعلقوا حروفا على الصفحة على أي وجه كانت هذه الحروف، فعَجِبْتُ، فَرَدَّ عَجَبي بعَجَبٍ أَشَدَّ منه.

شريف إبراهيم:

مشكلة هذا النمط من التفكير في أن بعض الناس يظنون أن العلوم الأخرى لا دخل للغة العربية بها مما جعل أمةَ العربيةِ تفقد أهم خصائصها، الأمةالعربية أمة عربية؛لأن لغتها عربية،و للأسف أنك تجد كتب العلوم، كتب الاجتماعيات... وغيرها من الكتب في معظم الأحيان لا يراعى فيها الدقة بالنسبة للغة العربية، حتى في التدريس، المدرسون إذا قام المدرس بتدريس أي مادة من المواد مثل: الرياضيات، مثل الفيزياء أو الكيمياء- يظن أنه لا حاجة به إلى أن يتكلم باللغة العربية وبالتالي فسد الأمر.

أريد أن أؤكد على أن الاهتمام باللغة العربية واجب شرعي لماذ؟ لأن بهذه اللغة نزل القرآن الكريم، أهمية هذا الموضوع تحتاج إلى أكثر من حلقة وإلى أكثر من حديث، لكن لو نظرنا إلى العلماء قديما مع أنهم كانوا في وقت كانت اللغة العربية هي لغة الناس - لكن نرى أن الإمام الشافعي مثلا وهو في ذلك الوقت ومع ذلك يهتم باللغة العربية إلى الحد الذي يجعله يذهب ليعيش مع قبائل "هذيل" ليأخذ العربية عن أهلها، مع أنه كان مشهورا بالفقه وغيره من العلوم الأخرى إلا أنه علم أهمية هذا الأمر؛ لذلك أخذه عن أهله حتى أصبح هو حجة في اللغة، والأستاذ" محمود محمد شاكر" من هؤلاء الناس الذين اكتشفوا هذا الأمر، و قدَّروه قدره، و بالتالي كَرَّسوا حياتهم له.

أريد أن أقول شيئا آخر يعيب بعض الناس، عندما تكلمت عن التراث وأنه كان يسمي الكتب المؤلفة قديما من التراث... إلى آخره، وأريد هنا أن أثير مسألة الثقافة فى هذا العصر بالذات،الناس ينقسمون إلى ثلاث فرق:

فرقة صَبَّتْ كلَّ اهتمامها على الكتب القديمة،وبعض الناس رَكَّزَ كلَّ هَمِّهِ على الحضارة الغربية تماما، هذا انفصل عن هذا، وهذا انفصل عن هذا،وبعض الناس جَمَع بينهما،و قَدَّم لنا مسلما عربيا يعيش في القرن العشرين أو القرن الحادي و العشرين فهل كان الأستاذ "محمود محمد شاكر" من الصِّنْف الأول أم من الصنف الثانى وهم الذين اهتموا بالغرب وهذا واضح أنه لم يكن منهم، أم كان من الصنف الثالث وهم الوسط؟

د.محمد جمال صقر:

مشكلة تقديمك هذا أنه يغري بأن نجعله من الصنف المحمود الذى جمع بين القديم والحديث، لأنه هذا الذي لا تنكره العقول، ولا جديد إلا بقديم، وينبغي بناء الحاضر على الماضي،؛ ليأتي المستقبل مبنيا على الماضى والحاضر. لكن أنا لا أريد أن أخالفك من أجل أن أهرب من سذاجة الجواب، ولأنها الحقيقة، وأنا لا أريد أن أهرب من سذاجة الجواب وأغير الحقيقة، هذه الحقيقة.

جئته مرة أحدثه عن بعض الشعراء المحدثين الذين تطاولوا وتطرفوا فى بعض كتاباتهم، فقال لي: صاحب كذا؟ إذن كان الرجل قد عرف كتابا أخيرا أصدره هذا الرجل، وتطاول فيه، وصودر الكتاب، بعد ذلك صودر لكن كنا في أَوَّلِيَّتِه لكي لا يظن سامع الآن أنه انتبه للكتاب بمصادرته، فالمصادرة- و كما تعرف- تَزيد الكتاب شهرة، لا، كنا في لقاء قبل هذا، وحدثته عن لقاء لي بهذا الشخص وكذا.. وكذا.. فعجبت.

إذن لديه آخر أخبار الأشياء، وهو متابع، بل كان يترجم - يا أخي- لقد كان يترجم لبعض شعراء الغرب وحين نأتي في الحديث، أرجو أن نأتي في الحديث إلى عرض شيء من هذا، لتطلع على علمه بالحضارة الغربية، حتى إنه كان يقول فى رده على بعض الناس: ليت كتاب" تويمبي" شيخ المترجمين الإنجليز معي، فأترجمه، ترجمته سيئة فاسدة، كان يترجم لورد زويرث،وكان يترجم لجوته... وكانت لديه مشكلة قامت على ترجمة نص لجوته شاعر الألمان العظيم،هذاهو الحق.

وأنا أحب أن أتحدث عن علاقته بالحق، هو في كتابه "رسالة في الطريق إلى  ثقافتنا" يضع منهجا في التذوق صار معروفا الآن، يبين لك كيف تجمع المادة على وجه الاستيعاب إلى خطى مختلفة، ينبغى أن تتجهز حتى إنك لترى( تذوق).. تسمع كلمة التذوق ثم ترى جُهْدًا في التمهيد، والتقديم، ربما ظننت أن التذوق كلام هكذا عارض،خاطرة تخطر للمتكلم،لا  لا،هذا جهد وعمل ضخم في التقديم والتهيئة والنظر والترتيب... لأن مقصده الحق في كل شيء خاض فيه. حتي إننى أراه والحق أخوين،ودعني أعبر عنه بهذا الكلام، فبعض الناس لا يحيط بهم إلا الكلامُ الفني، كما أن الصوفية يقولون في عبارتهم التي تعرفها الشهيرة: "أشياء تدركها المعرفة ولا تحيط بها الصفة"، فكيف تفعل أنت في هذه الأشياء التي تدركها المعرفة ولا تحيط بها الصفة؟ لا نتمكن من وصفها، يعرف قلبي ولا ينطلق لساني،أنت تلجأ إلى التعبير بلغة الشعراء.

 فأنا أراه والحق أخوين أرضعا بلَبان، لا يحيا هذا إلا بما يحيا به ذاك، ولا يتعلق أحدهما إلا بما يتعلق به أخوه، يُخْبِر عن الحق والحقيقة كأنما يخبر عن نفسه التي هو أعلم بها، ويخاطب الحق والحقيقة كما يخاطب نفسه حين يُجَرِّدها.

    يا أخي، أنت تعرف ذلك حين تَذوق ملحمته الكبرى "اعصفي يا رياح" ملحمة! ولست مبالغا في هذا، هي أربعة و مائة بيت من الخفيف الوافي بحرًا، والمتواترِ قافيةً، والراءِ رَوِيًّّّّّّّّّّّّا، والألفِ وَصْلًا وَ رِدْفًا- لِمَنْ له بالعَروض عِلْم، وكان يحب علم العروض -هي لو نظرت فيها وجدتها ثمانية أجزاء كل جزء منها ثلاثة عشر بيتا،رأيت الحساب.. رأيت التنسيق.. رأيت الهندسة! قسَّمها إلى ثمانية أجزاء مُقَسَّمَةٌ بينه وبين الرياح التي ترمز- فيها فهمت - إلى الحقيقة، يستثيرها لتحكي له فيحكي لها، يناديها في مطلعي الجزأين الأول والثاني: "اعصفى يا رياح"، آمِرًا أَمْرَ الأخِ أخاه، لتكشف زَيْف هذه الحياة منذ أن كانت، وتَعْجَبَ أو تَسْخَرَ من أفاعيل الإنسان فيها، ثم في مطلع الجزء الثالث:"اذكري يا رياح"، لتفخر بقديم علمها بمُضْمنِ طوايا هذا الإنسان الذي يصير بعد طول البغي إلى العجز، ثم في مطلع الجزء الرابع:" أنصتى يا رياح "انتبه، هو قد قسمها بينه وبين الرياح ،بين الحقيقة وبينه، وقد سبقت أقسام الحقيقة ودخل إلى أقسامه هو- يكلمها، يفيض بما لديه، ليحكي لها كيف عانى هو أن يبلغ مبلغها فَهْمًا لمضمن طوايا هذا الإنسان، ثم في مطلع الجزء الخامس:" اسمعى يا رياح"، ليبوح لها بأنَّ ما فيه من طبيعة الإنسان للأسف-وهو مما لافَكاكَ له، ولا لأحد من وَطْأَتِهِ - يكاد يقعد به عن احتمال هذه الدنيا، ثم في مطلع الجزء السادس:" أنصتي يا رياح"، ليخبرها بوسائله إلى تمييز صنوف هذا الإنسان، وكأنه يَسْتَثْبِتُها: أليس الأمر كما اطلعتِ وخَبَرْتِ؟ ألم أصل إلى مثل ما وصلتِ إليه؟ ثم في مطلع الجزأين السابع والثامن:" انظري يا رياح"، ليختم هذه الملحمة الكبرى عنه هو بمثل ما بدأها به عن الرياح( الحقيقية)، فيُبَيِّن ماوقف عليه من حقيقة ما ارتكبه الإنسان فى هذه الحياة الدنيا، وما اقْتَحمه واجْتَرأ به عليه عقلُه الذي لم تَحُدَّهُ حدود الغيب.

وأنا أرى هذين الجزأين جديرَيْن بالإنصات.

ومما أراه طريفا في مثل هذا اللقاء أن نسمع له هو نفسه، أن نسمعه كما لم يسمعه أحد قط، لم يحدث –فيما بلغني- أن سمعه أحد في إذاعة من إذاعات الدنيا ينشد شعره! أنا لدي تسجيل نفيس فاخر لهذا الرجل من خمس وعشرين سنة تقريبا سنسمعه معا، سنسمعه، ونضطرب له، أنا أخشى على نفسي من أن يعود الزمان إلى ذلك المجلس الذي كنا نحضره، وكان بعض كبار العلماء يقول إنه كان يحضره مُرتابا، يَجْلِب كرسيا ويجلس في آخر الصفوف، هذا الرجل لا يُحْتَمَل! أَتَذْكُرُ سيدنا "عمرو بن العاص" حين كان يقول - فى مصربعد وفاة سيدنا "عمر بن الخطاب" –يقول: لله دَرُّّّّّّ ابْنِ حَنْتَمَة، أيَّ رجل كان! فكيف تقول الآن،هيا اسمعوا معى!

شريف إبراهيم:

أعزائي المستمعين، يبدو واضح جدا تأثر الدكتور"محمد جمال صقر" بأستاذه الشيخ "محمود محمد شاكر"، وفعلا من الطريف أننا استطعنا أن نحصل في هذه الحلقة على تسجيل حي بصوت الشيخ" محمود محمد شاكر" وهو للدكتور" محمد جمال صقر" سنسمتع إلى هذه الأبيات من قصيدة،" اعصفى يارياح":

اُنْظُري يا رِياح، يا وَحْشَةَ الطَّّّّّّّّرْفِ إذا داريَمْنَةً أو يَسارا.

ما الذى تُبْصرين ،أشباحَ فانين مِرارا تُرى وتَخْفى مرارا.

وُجِدوا، ثم أَوْجَدوا، ثم بادوا، واحْتَذى نَسْلُهم فزاد انتنشارا.

وتمادى البقاءُ فيهم دواليك فشيء بدا و شيء توارى.

أَوْغَلوا في الحياة جيلا فجيلا، و تَجَلّى طليقُهم وأنارا.

فمضَوا يُبدعون في حيثُ حَلّوا،و تبارَوا حِضارة وابتكارا.

ما كفاهم ما بُلِّّّّّّّّّّّّّّّّغوا؛ فاستطالوا، ثم خالوا فأسرفوا إصرارا.

شُغفوا بالخلود في هذه الدنيا فأعطتهمُ الخلود المُعارا.

عَمَروا الأرضَ زينة ومتاعا، ثم نودوا: كفى البِدار البِدارا.

ثم مرّوا أشباح فانين ما تملك في حومة الزوال قرارا.

لم يكن غيرَ خطْفة البرق إذ تَبني وتُعلي، ولم يكَدْ فانهارا.

ذهبتْ ريحهم وهَبَّّّّّّّتْ رياح فأقامت على القبول الديارا.

ضَلَّّ هذا الإنسان يكدح للخُلْد وأقصى الخلود: كان فصارا.

انظري يا رياح، ذا القبسُ الوهّاج قد راوغَ الفناء اقتدارا.

عاش تحت الأطباق دهرا فدهرا يتلوى بثِقْلِهِنَّّ انبهارا.

كلَّّما رام مَنْفذا رَدَّّدَتْه في ظلام الأعماق يعلو صَغارا.

لم يزل دائبا يُنَقَِّّّّّب مُلتاعا ويحتال في صَفاها احْتِفارا.

صَدَعَ الصخرة المُلَمْلَمَةَ الكبرى، وأسرى حتى نما فاستطارا.

ورأى نوره فَجُنَّّّّّّ من الفرحة أعمى رأى الظلام نهارا.

أيُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ شيء هذا، وما ذاك، بل هذا، وزاغَتْ لِحاظُه استكبارا.

قد رأى عالَما مَهولًا من المجهول غَشّاه نوره فاستنارا.

ليس يدري أهم عِدًى أم صديق، أيُبينون لو أراد حِوارا.

أم صُموتٌ لا ينطقون ازدراءً لغريب عنهم أساء الجِوارا.

واغِلٌ يعتدي، يسائل عن أسرار خلق أجَلََّّّّّ من أن تُثارا.

كيف غَرَّّّّّّّّتْه نفسُه، كيف ظَنَّّّّّ الغيب يُلقي لِثامَه والخِمارا.

أملٌ باطلٌ، فَلَوْ أَسْفَرَ الغيبُ لَأَعْمى بِنوره الأنوارا.

شريف إبراهيم:

أعزائي المستمعين، بعدما استمعنا إلى هذه الأبيات الشعرية بصوت الأستاذ "محمود محمد شاكر" وبعنوان "اعصفى يارياح" ، واضح أمامى تأثر الدكتور "محمد جمال صقر" وهو من أكبر تلامذة الأستاذ" محمود محمد شاكر". أنا أريده الآن أن يعطيني تعليقا نتيجة هذا التأثر بهذه اللحظة عن هذه الأبيات.

د.محمد جمال صقر:

أنا أستشهدك.. كيف ينجلي لك كيف كان هو والرياح (الحقيقة) فَرَسََيْ رِهان يعدوان معا، ويظهران على هذه الحياة الدنيا كرا وفرا وإقبالا وإدبارا معا، ألا ترى هذا من حديثه في هذه الملحمة الكبرى!

ومن الطريف أننا بمعونة بعض تلامذته الكبار وهو الدكتور" عادل سليمان جمال"- قد جمعنا بعض قصائده التي لم تجمع- وما أكثر ما لم يجمع له- وأصدرنا مجموعة بعنوان "اعصفى يا رياح وقصائد أخرى" عن مطبعة المدني التي تطبع له كتبه بعباسية القاهرة، وانظر كيف كان اسم المجموعة" اعصفي يا رياح وقصائد أخرى" فهذه ملحمتها المستولية عليها.

شريف إبراهيم:

من خلال هذه القصائد التي كتبها الأستاذ" محمود شاكر" بجانب هذا التأثر      واهتمامه و حرصه على الحفاظ على اللغة العربية كان لديه هذا الذوق و الفن يظهر في أعماله، إلى أي حد؟

د.محمد جمال صقر:

أنت لك مدخل إلى هذا السؤال و عذر، عذرك عذر تاريخي؛ فما أكثر ما تكلم الناس قديما  و حديثا عن صعوبة اجتماع العلم و الفن في قلب رجل واحد ، لماذا؟ لتعليق سهل جدا، أما العلم فينطلق من منطلقات محددة، يسير في طريق صحيحة معروفة واضحة بينة، لا يميل عنها، ليصل من مقدمات مُتَرَتِّبٍ بعضُها على بعض إلى نتائج، وأما الفن فشاذ عن أساليب العلم، طائرٌ مُحَلِّقٌ مُعتمِد على الخيال، لا ينطلق من منطلقات ثابتة نعرفها، يصل إلى النتيجة بطريقة غير التي نعرفها،فكيف يجتمع هذا و ذاك في قلب رجل واحد.. إلا إذا كان ضعيفا في جانب من هذين، فقديما قالوا لم يجتمع الفن و العلم في قلبٍ مثل قلب"خلف الأحمر" و هو عالم من علماء تاريخنا القديم، كان يستطيع متى شاء أن يقول قصيدة تشبه شعر أي شاعر شاء، لا يستطيع الناس- إلا خبراؤهم خبرة واسعة - أن يميزوها من شعره، و جاء بعد ذلك رجل كأبى تمام  و كالمعري علماء فنانون ، علماء شعراء.

حتى إن هذا لدى الغرب، و يذكر الغربيون أن هذا صعب لديهم كذلك،          ويَعُدّون على الأصابع العلماء الفنانين ، لماذا يا أخي ؟ لأن العلم مختلف كمــا ترى،  ولأن الفنان منحاز غير منصف، فعدم الإنصاف لا يناسب العلم، الذى يناسب العلم الإنصاف، فالفنان شاذ إلى الجور و العالم يلتمس قدر الطاقة الإنصاف لا الموضوعية، و هى أسطورة تحتاج نفسها إلى كلام.

فإذن لك الحق في أن تسأل هذا السؤال ، كيف اجتمع له .. لم أمثل بأمثلة من الغرب يعدونها على الأصابع: كوليردج من الإنجليز، و وردزويرث من الفرنسيين،و أشباههم كانوا علماء شعراء، يُنَظِّرون، و يَتَفَنَّنون فكيف صح لهم هذا؟ لنعلم أولا أنه لم يستحل فقد حدث لدينا و لدى الغرب، لكن حدث بقلة، و كيف حدث؟ يبدوأن أولئك الفنانين كانوا يدخلون إلى العلم من مداخل فنية، يتناولون قضايا العلم بطرائق الفنانين، حتى إن الأستاذ" محمود" نفسه صرح بهذا في مقال في قضية الانتحال في" طبقات فحول الشعراء" لابن سلّام - أصدره في مجلة" العربي" في سنة سبعين أو في سنة متقدمة، ثم أعيد طبعه في كتاب في سنة تسع و سبعين- صرح بهذا و قال في كلمته على ملأ من الحضور - و كان المقال محاضرة - : طريقتي مختلفة ، طريقتى تخالف طريقتكم - يقصد طريقته في تناول مسائل العلم - فلك أن تقول هنا إنه كان يتناول مسائل العلم بروح الفنان و مداخله التي لا ينحصر بها ،لا يستطيع تقدير ما سينتقل منه إلى ما بعده .. و هكذا . فالفن لديه جماع تلك المسائل كلها.

شريف إبراهيم:

في عجالة سريعة، طبعا نحن في مثل هذا البرنامج لن نستطيع أن نأتي على أعمال علم كبير من أعلام اللغة العربية و أعلام هذه الأمة بحيث نحصرها- و لكن نريد أن نمر عليها مرورا، نشير إلى أهم هذه الأعمال التي تركها لنا الأستاذ" محمود محمد شاكر".

د.محمد جمال صقر:

أحسنت يا أخي ، هذا الرجل ولد سنة تسع و مات سنة سبع و تسعين، فهو رجل مُعَمَّر لو اطَّلعتَ على كتاب الأساتذة عايدة الشريف " محمود محمد شاكر حياة قلم " – رحمهما الله! – لوجدتها تذكر لك السنة و ما فعل فيها،ما هذا! إذن شغل حياته كلها حتى إنها كانت طريفة جدا، تذكر في السنة الأحداث التاريخية و ما كتبه"محمود شاكر"، و كأنها تريد أن تقول هذا مرتبط بهذا، و هو من الأهم الذي ينبغي أن يُذْكَر معها ، مثلا تذكر ثورة كذا و عمله،تذكر حرب كذا و عملا من أعماله - فإذن هو مستمر العمل ، ثم عمله مهم ، ثم عمله مرتبط بالحدث الذي كان . هكذا العلماء لا يَحْيَوْنَ في عُزلة ، لا تَظُنَّنَّه قد انعزل طائعا في أواخر حياته ، و لكنه لم يجد لكلامه من أثر، مكث زمانا ينادي و ما من مجيب، فاضطُر إلى أن يَعْكُف.

إذا حاولنا أن ننتقي بعض أعماله لم نستطع أن نُغْفِلَ مثلا ما ذُكِر في براءة حصوله على جائزة الملك فيصل و هو كتابه " المتنبي" الذى كتبه وهو في السادسة والعشرين ، و كان فتحا في التأليف؛ حيث رتَّب الشعر واستنبط سمات النفس و أحداث التاريخ من الشعر، و له كذلك مقالات عظيمة ، المقال كتاب! أغلبها محفوظ نرجو أن تُفَضَّ عنه الأستار، و لكنَّ بعضها خرج في كتابه " نمط صعب و نمط مخيف " و بعضها صدر في " أباطيل و أسمار " هذه من المقالات ،أنا رأيت في مكتبه حقائب متجاورة ، فسألت عنها، فأُخْبِرْتُ أنها المقالات قد جُمِّعَتْ في حقائب وحدها ، فمتى .. متى تخرج هذه ، أما تحقيقاته و كتبه ، فهذه يُمَثَّلُ لها و لا تُحْصى؛ يكفي تحقيقه لنصف تفسير" الطبري" الذي قال فيه بعض الناس أنني كنت أقرأ ما كان يكتبه "محمود شاكر" في الحاشية قبل أو دون أن أقرأ كلام "الطبري" و هو إمام المفسرين أو أمير المؤمنين في التفسير كما يقال ، له تحقيق" طبقات فحول الشعراء" لابن سلام، له تحقيق" تهذيب الآثار" . و له كذلك في الشعر" القوس العذراء" ، و هي ملحمة كثر فيها النقد و الخَوْضُ من كبار الناس، و " اعصفي يا رياح " الذي سنخرجه له . هذا شئ يسير .. إطلاله يسيرة ، نرجو أن نُوَصِّلَها.

شريف إبراهيم:

ذكرت في الكلام عن الأستاذ" محمود محمد شاكر" أنه حاز جائزة الملك فيصل عن كتابه" المتنبي"، فهل حاز الأستاذ" محمود محمد شاكر" جوائز أخرى ؟

د.محمد جمال صقر:

هذا سؤال في محله ، كأنك تقول : كَرَّمَه الناس خارج مصر فلِمَ لَمْ يُكَرِّّّموه داخل مصر؟!

هو كُرِّّم أخيرا ، أنا لا أرى هذا تقديرا كافيا - لكن حصل على أعلى جائزة و هي جائزة الدولة التقديرية ، حصل عليها فيما بعد حصوله على جائزة الملك فيصل، و ربما كانت جوائز ناشرين .. جوائز كتب .. لكن هذه الجائزة التي حصل عليها!

 

شريف إبراهيم:

بمناسبة الكلام عن الجوائز - أعزائي المستمعين - ضيفنا اليوم الدكتور" محمد جمال صقر" وهو من تلامذة الأستاذ" محمود محمد شاكر" شيخ العربية - حاز على أكثر من جائزة من نادي أعضاء هيئة التدريس من جامعة القاهرة في القصة و في الشعر.

د.محمد جمال صقر:

يا أخي ، أحسن الله إليك ،أعظم جائزة- فيما يبدو لي- إذا أردت أن تتحدث عن الجوائز - فهي إكرام الأستاذ" محمود محمد شاكر" نفسه لي بحضوره بعض أعمالي،و كان هذا مُدهشا للحاضرين؛لأنه كان في عمر قد تأخرتْ، و رغم هذا حضر، و جلس من قبل أن نبدأ و إلى أن انتهينا وإلى ما بعد أن انتهينا، فكان هذا أعظم جائزة فيما أرى ؛لأنه تقدير،حتى إن بعض الناس قال: نَعْرِفُهُ، و نَحْسُدُهُ عليه!

شريف إبراهيم:

أعزائي المستمعين، في ختام هذه الحلقة من برنامج"حديث الفكر"- أسعدني جدا و إياكم أن يكون معنا ضيفا على البرنامج الدكتور" محمد جمال صقر" مدرس اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس بعُمان.

دكتور، شكرا لك على الحضور في هذا البرنامج، و هذا الحديث الطيب.

د.محمد جمال صقر:

أحسنت ، شكرالله لك،

شريف إبراهيم:

أعزائي المستمعين، في ختام هذه الحلقة التي كانت عن الأستاذ" محمود محمد شاكر" شيخ العربية -لا أجد ما أختم به هذه الحلقة إلا ما بدأت به وهو هذه الكلمات للدكتور" محمد جمال صقر" في وصف شيخه حيث يقول:

كانَ و لا شيءَ غَيْرَهُ مَلَأَ الوَهْمَ يَقينا و الحُلْمَ إقْرارا.

يُزْهِرُ في حيث حَلَّ مُرْتَبَعُ الشمس بَهِيَّ الأنواء مدرارا.

يَنْسُجُ ثوبَ الإبداع مِنْ وَرَقِ الصدق و يَكْسو العقول أفكارا.

يَبْني قِلاعَ الأرواح من حَجَر الحق و يُعْلي الشُّّّّّّّّّّّّّّّموخ إصرارا!