حوار مع الدكتور محمد الجعيدي

حوار مع الدكتور محمد الجعيدي

بمناسبة صدور "موسوعة مصادر الأدب الفلسطيني الحديث"

ثقافتنا الفلسطينية تعاني من الاحتلال والمحاصصات الفصائلية

حاوره: خضر محمد أبو جحجوح

عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين

عضو رابطة أدباء الشام

[email protected]

الأستاذ الدكتور محمد عبد الله الجعيدي، الأستاذ بجامعة مدريد

ورئيس اللجنة الدولية لحقوق اللغات والحوار

ومنسق برنامج التعاون مع الجامعات في الوطن العربي،

رجل شغف بالأدب الفلسطيني وحمل هموم قضيته متنقلا بها بمؤلفاته ومحاضراته في جامعات أسبانيا ولندن، والعديد من الجامعات في العالم، صدر له مؤخرا الطبعة الجديدة المزيدة المنقحة من كتاب موسوعة مصادر الأدب الفلسطيني الحديث، عن مؤسسة فلسطين للثقافة بدمشق، كان لي معه هذا الحوار :

أ. د محمد عبد الله الجعيدي

1- كيف يقدم الدكتور محمد الجعيدي نفسه للقراء ؟

ج * إذا ولَّيتَ الوجه، من موقعك، وأنت في مخيم خانيونس لللاجئين الفلسطينيين شطر الشمال الشرقي، وبزاوية قد لا تزيد عن ثلاثين درجة، وعلى بعد أربعين كيلومتراً فقط، فتلك هي قريتي عراق السويدان. إذن أنا فلسطيني من تلك القرية التي طُردت أسرتي منها، بالقتل والترويع، ولجأتْ إلى قطاع غزة، حيث أنهيتُ دراساتي الأولى، في مدارس وكالة غوث الللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم، كما في مدرسة بئر السبع الثانوية برفح، ثم واصلتها في جامعات القاهرة وبرشلونة ومدريد بمِنح تفوقٍ من منظمات علمية وثقافية عالمية حتى غدوت، منذ ثلاثين عاماً، أستاذاً في جامعة مدريد. طوّفت بجامعات عالمية عديدة، وزرت الوطن مراراً، وفي صيف 1981،عدت بشيء منه، إلى المنفى، وما زلتُ بالبصيرة أرى العودة الأبدية إليه قادمة لا ريب فيها.

2- ما الذي أردت قوله في كتابك الأحدث موسوعة مصادر الأدب الفلسطيني الحديث؟

ج* أردت في ذلك الكتاب القول إنه لا يضيع تراث وراءه باحث محتسب، بموازاة مقولة لا يضيع حق وراءه مطالب، وإن ثقافتنا الفلسطينية التي جني عليها الاحتلال، وجنت عليها المحاصصات الفصائلية والاستثناءات الأنانية، لن تجمعها وتحميها إلا نفوس طاهرة، لا مكان فيها إلا لفلسطين، من نهرها إلى بحرها، دون أي مصلحة شخصية، وسيط أو وسيلة أو أيديولوجيا أو تنظيم، مع عدم استثناء أي مكون من مكونات هذه الفلسطين، بطبيعتها الجامعة المانعة.  وليك فعلنا منسجماً مع قصيدنا:

    يا فلسطين ولا أغلى

                    ولا أحلى وأطهر

    كلما حاربتُ من أجلك

                    أحببتُك أكثر

رحم الله شاعرَنا أبا سلمى. ففلسطين هي الأم المصون  الطاهرة التي تحتضننا جميعاً ومن أراد الاستئثار بها، أو بحضنها، لنفسه أو لفصيله أو لعشيرته، دون غيره، لحرمانها من أبنائها في الوطن أو المنافي، وحرمانهم منها، أو بيعها أو تأجيرها بالتقسيط المريح للعدو، عرضاً أو أرضاً، فهو ببساطة لا يستحق شرف أمومتها.

3 – ما هي أهم المعالم البحثية والعلمية البارزة لموسوعة "مصادر الأدب الفلسطيني الحديث" ؟

ج* تتمثل أهم المعطيات البحثية والعلمية في الموسوعة في أنها:

أولاً- تجمع شتات الأدب الفلسطيني وتحفظ ذكره من الضياع فلا تتوقف عند فئة من المبدعين دون سواها، ولاتجتر ما سبق ذكره.

ثانياً - تركز على الظاهرة الأدبية الكلية ولا تتعامل مع الأسماء بمعايير الشهرة الترويجية أو بمعايير الأشهر أو الأقل شهرة.

ثالثاً – تجاوزت في تناولها الأدب الفلسطيني الطروحات الفصائلية والحزبية والأيديولوجية وجعلت من فلسطين هدفها، ومنها أخذت ريشتها ، ومن الإبداع وسيلتها للتأكيد على الفعل الأدبي فعلاً فلسطينياً بحتاً، يناشد الذين لم تتلوث أيديهم، من بعد، بسرقة مقدرات الشعب الفلسطيني وقهره والتفريط بحقوقه الوطنية،لأن يتعلموا من تجربة أولئك الفاسدين، وأن يتعاملوا مع المواطن الفلسطيني، في الوطن الواحد والمنفى النتعددة، بمعيار الولاء للثوابت الوطنية، المقاومة والتحرير، وليس بمعايير الفصائلية المقيتة، المتقزمة في المقولة الجاهلية الإقصائية"من ليس معنا فهو ضدنا!"

رابعاً – لم تستثن كاتباً أو كتاباً في الأدب الفلسطيني أو عنه، لأي من الأسباب مهما كان.

خامساً – تحاشت اصدار الأحكام الترويجية عن هذا الأديب أو ذاك الفن، وما ذكر من استشهادات بالنص الأدبي في الفصل الأول ذكر لتعبيره عن ظاهرة وليس لأن كاتبه هو هذا الكاتب أو ذاك.

سادساً - جاءت محددة في موضوعها وهو كتاب الأدب الفلسطيني، ولم تكن مجرد جمع لمادة يرسلها هذا الأديب أو ذاك وإنما كان لها منهجها وسيرورتها التي فيها قدرٌ كبير من التدقيق والتمحيص والتوازن المنهجي والموضوعية في طرح المادة المقدمة، بحيث تخضع جميعها لمعيار واحد هو معيار الموضوعية والمصداقية.

سابعاً – لم تكن موضع مقايضة أو مادة تكسّب، إذ يعرف المطلعُ أن المؤلف قد رفض عروضاً عديدة لنشر الموسوعة أرادت تكييف بعض مضمونها تساوقاً مع مصالح شخصية أو مع سياسات استسلامية وتطبيعية وتفريطية.

ثامناً – لم تحاب أو تحاصص كتاباً أو كاتباً أو فناً أو ظاهرة، بل تعاملت مع الأشياء والأشخاص بأحجامها الطبيعية وأبعادها الموضوعية، بمقدار ما تحتاجها مهمة انجاز الهدف المنشود منها، وهو حفظ مصادر الأدب الفلسطيني من الضياع والتعريف بها، وهي مهمة صعبة، نزعم كما قيل، إننا انجزناها، بجهد كبير ومنهجية واضحة.

تاسعاً – تترك قراءتها في الروع أنَّ شعباً فيه هذه الكوكبة من المبدعين لن تلين له قناة، ولن تضيع له حقوق، مهما ناخ الباطل والاغتصاب على الصدور.

4- ما الموضوعات التي تناولها أدباء فلسطين كما تبين من خلال الجمع والتقصي الذي قمت به؟

ج* تناول الأدباء الفلسطينيون موضوعات عديدة لا تختلف كثيراً عما تناوله أدباء آخرون غير فلسطينيين ولكن بخصوصية فريدة أملتها المعاناة الفلسطينية وعمق الجرح الفلسطيني بحيث أصبح لتلك الموضوعات نكهة فلسطينية أعطت الموضوع أطيافاً فارقة، فتميز فنٌ كالوطنيات مثلاً بأطياف فارقة يمكن أن نسميها أطياف "صوفية المكان"، حيث الوطن الفلسطيني أو فلسطين تبدو كلاً شمولياً يتجاوز الجزئيات ويجمعها جميعاً في واحد من أرض وإنسان وتراث وثقافة، وتاريخ وجغرافيا، وحتى الماء والهواء، ولون السماء، ونسغ الأرض، فكُلُها وغيرُها من عناصر هذا الوطن، يمكننا أن نطلق عليها، إذا حلت مجتمعة في إبداع المبدع وكينونته، بفلسطينيتها الكنعانية العُمرية، ودون مبالغة، تجربة "صوفية المكان" في الأدب الفلسطيني.

5 - ما هي أبرز السمات الفنية التي تميز بها الشعر الفلسطيني المعاصر من وجهة نظرك؟

ج* أنت شاعر، تعرف أنَّ الشعر في حد ذاته فن. والفن شرطه الإبداع، والإبداع يقوم على خصوصيات الخلق، والخلق ذاته يقوم على التجديد. والتجديد معناه إضافة قيم إبداع جديدة ومفيدة للحياة، سواء على صعيد الموضوع أو الصنعة الفنية، بشرط عدم تجاوز الثوابت الإنسانية، وعدم تخطي معطيات الواقع، والالتزام بمكوناته الأساسية، بدون وصولية أو خوف أو مراءاة. فهذا معيار يمكنك القياس عليه، كما قسنا نحن عليه في "موسوعة المصادر"، كما يمكنك به استنتاج ما شئت استنتاجه.

6-ما مدى حضور القضية الفلسطينية في الأدب الأسباني المعاصر، وفي الدراسات الأدبية والأكاديمية في جامعات أسبانيا؟

ج* علينا ألا نبالغ في طرح قضية كهذه، وألا نأخذها بمقاييس الكم وتقارير القنصليات المنبوذة الخائبة، والغافلة الكاذبة، فحضور فلسطين في إسبانيا حضور متواضع محدود ولكنه في الوقت نفسه قوي وحي في النفوس التي يحضر فيها، فاقرأ في ذلك مثلاً نماذج في كتابنا الأحدث "فلسطين في الشعر الهسباني المعاصر". ولأن القضية الفلسطينية هي محور الحدث في القارة العربية الإسلامية فإنها موضع اهتمام ملتوٍ بالجبروت الصهيوفرنجي والأطماع الاستعمارية الرأسمالية، ومن هنا ففلسطين، كما هي في حقيقتها، مغيبة عن مساحة واسعة من الوعي الجماهيري الغربي، وحاضرة بما يخدم المصالح الاستعمارية والإرسالية المسلحة.

8- هل ترى للأدب الفلسطيني المعاصر تأثيرا على الرأي العام الأسباني في الأوساط العلمية والشعبية؟

ج* تتأثر الأوساط الشعبية بما تقدمه لها الأوساط العلمية، لكن بين هذا وذاك تقف آلة الإعلام المتفرنج بجبروتها وكيدها وعدائها لفلسطين وللعرب وللمسلمين، وبهذا فحضور فلسطين عند بعض المثقفين حضور قوي وموضوعي، وخذ مثالاً على ذلك ما كتبه الشاعر الإسباني خابير بيّان في ديوانه "أمثال فلسطينية" أو الشاعر الإسباني أنخيل بيتيسمي في ديوانه "سهاد رام الله، قصائد فلسطينية"، وكلا الديوانين مترجمين إلى العربية مع دراستين وافيتين للموضوع.

9 - أي جنس أدبي من أجناس الأدب الفلسطيني أكثر حضورا في المشهد الثقافي الأسباني؟

ج* يمكننا الحديث عن حضور أدبي فلسطيني بشكل عام ومن الصعب الحديث عن حضور فن دون غيره، فقد نقلت أعمال من الأدب الفلسطيني إلى الاسبانية لغسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي وغيرهم.

11 - كيف تجد إقبال الباحثين والمترجمين  في أسبانيا، على الأدب الفلسطيني والعربي المعاصر؟

ج* باستثناء ترجمات أعمال غسان كنفاني، فما يُترجم من الأدب الفلسطيني إلى الاسبانية اليوم، يهدف في جله إلى تسويق سياسات استسلام وتنازل عن الحقوق، فبقدر تهاونك في حقك الفلسطيني في التحرير والعودة، ترعى هذه الجهة أو تلك ترجمةً لعمل من أعمالك أو أكثر، والحكم نفسه يمتد إلى الأدب العربي في أقطار أخرى غير فلسطين، أما دراسة الأدب الفلسطيني، في الجامعات الإسبانية، فهي مقبولة، في سياق المعطيات المطروحة.

12- كيف ترى المشهد الثقافي والأدبي الفلسطيني المعاصر من خلال بحثك ومتابعتك الميدانية؟

ج* المشهد الأدبي الفلسطيني رغم التمزق والشتات المقصودين أحياناً، والمفروضين أحياناً أخرى، هو مشهد  لا يزال يُرى فيه النور في نهاية النفق، فرغم الفصائلية القاتلة والمحاصصة المميتة في التعامل مع الأدباء ومع الكتاب الفلسطيني، وبخاصة مع من استقل بفكره عن مقاولي تلك المحاصصات وأهدافهم الشخصية البحتة التي تهدر إمكانيات أهلنا وتخطف رغيف خبزهم وتهرول على غير هدى، في أحراج المنازعات المحلية العشائرية حتى تتقزم فلسطين عندها إلى الحد الذي ترضاه اليد الخارجية العدوة التي تحاصر شعبنا وتقتله وتدمر بيوته وتغتصب أرضه.

10- ما هي المعوقات والعراقيل التي تواجه مسار الأدب الفلسطيني المعاصر؟

ج* في ظني أن أكبر هذه المعوقات والعراقيل وأشدها فتكاً بواقعنا الثقافي هو اصرار بعض الفصائل الفلسطينية على محاربة المستقلين، عنها وعن غيرها، الذين يتوجهون إلى فلسطين مباشرة دون المرور بمقص الرقيب لدى أي من تلك الفصائل التي لم تستوعب، حتى الآن، حقيقة أن فلسطين ليست اكبر من كلِّ فصيل فحسب ، وإنما هي أكبر من كل الفصائل مجتمعة، مهما بلغ عطاؤها. وتجهل تلك الفصائل، أو تتجاهل استكباراً، حقيقة أن المثقف المستقل هو صمام الأمان الوحيد لحماية مسيرتنا نحو التحرير والعودة، لأنه لا غاية له إلا فلسطين، ولا مكسب له إلا مكسب فلسطين، ولا رأي له إلا ما يصب في خدمة فلسطين، أم الجميع، وحدها، معافاة نقية، من أنانية المحاصصين الإقصائيين، ودنس المحتلين الإحلاليين.

ومن أخبث تلك المعوقات وأرذلها، فرض أمانتين عامتين أبديتين مُقعدتين غير شرعيتين، في رام الله ودمشق، على اتحاد الكتاب الفلسطينيين، لا علاقة لمغتصبيهما بمعاناة الكاتب الفلسطيني وعطائه وتطلعاته، ولا تعدوان كونهما، وجهاً بشعاً إما لمهزلة أوسلو، أو للمحاصصات الفصائلية القاصرة عن تطلعاتنا الوطنية، كما لا تعدوان كونهما معيقتين لبلورة هويتنا الأدبية، وقاتلتين للمواهب الخلاقة الحقيقية عند كتّابنا، تحت الاحتلال وفي المنافي.

13- ما هي مشاريعك المستقبلية، على المدى القريب، لخدمة مسار الأدب الفلسطيني والعربي؟

ج* بالإضافة إلى الاستمرار في تنمية "موسوعة مصادر الأدب الفلسطيني الحديث" وتنقيحها، وقد جاوز عمر مهمتها الثلاثين عاماً، نتطلع، ونحن على وشك  العودة إلى مهامنا الأكاديمية بجامعة مدريد، بعد الانتهاء من مهمتنا كأستاذ زائر، لجامعة لندن، طوال العام الدراسي 2006/2007، إلى جمع مصادر الأدب الفلسطيني في المجلات والدوريات والحوليات، كما أننا نتطلع إلى وضع كتاب عن "قضية الأرض والإنسان في الأدب الفلسطيني" يكون بمثابة تأطير شامل لهذا الأدب، حتى تاريخه. هذا بالإضافة إلى مواصلتنا جمع كل ما يكتب عن فلسطين في أدب إسبانيا وأمريكا اللاتينية.