حوار مع جائزة أفنان القاسم

لأسوأ ناقد فيصل دراج

قدم للحوار: د. أفنان القاسم

أجرت الحوار: أسماء الغول

يخلط هذا النويقد بين تاريخ وتاريخ سلطة، التاريخ الذي هو عبارة عن دينامية بهزائمه وانتصاراته، وبين رواية ورواية سلطة، الرواية التي تتجاوز البنية الفكرية للكاتب وتستقل ببنيتها، ويجد له كرسيا

مريحا في صالون النقد! يقول أحسن رواية وأحسن روائي وأحسن ناقد، فينصب نفسه حاكما فوق الجميع باحتقار لا مثيل له بينما لا يوجد الأحسن في كل هذا، توجد رواية جيدة أو لا، نقد جيد أو لا، لست أدري ماذا جيد أو لا، والدليل على هذا أمثلته: لقد انتقى "المتشائل" مثلا لأحسن رواية، وباقي أعمال حبيبي؟ والحكم، أليسه نسبيا؟ لماذا أنا أرى في هذه الرواية أسوأ ما كتب حبيبي؟ الدمج على أحسن وجه في المجتمع الإسرائيلي وليس المقاومة حسب دراج، ومن العنوان، فلا هو متشائم ولا هو متفائل، هو نصف الواحد والآخر في وحدة سيميائية وسياسية. وباقي الأعمال الفلسطينية التي لم يقرأها أين مكانها في كل هذا؟ روايتي عن ابن طفيل "أبو بكر الآشي" مثلا الصادرة بالفرنسية –هو يعرف الفرنسية- أقول هذا ليس ليقرأني هذا النويقد، ولكن مجرد عدم قراءته لهذا العمل أمر يزعزع حكمه بل محاكمته، فهو في كل نقده يُسْقِطُ كالقاضي حكمه دون استقراء لا للرواية ولا للتاريخ بل إسقاط، وإسقاط أيضا نموذجه النقدي جابر عصفور أو كمال أبو ديب لنظرته العربية إلى الرواية –لا أريد أن أقول نظريته فهو ينفيها- بينما هذا أو ذاك نموذج للنسخ الغربي والمسخ الغربي دون أن يدري أنه لا توجد نظرية عربية، ليس لأننا بلا تاريخ روائي كما يقول، ولا نظرية غربية أو غيره، هذا ما يعترف به الغرب صاحب التاريخ الروائي في الوقت الحالي، وهو يعيد النظر في كل شيء بعد أن استهلك كل شيء، واستنفد كل شيء، فيما يخص الخطاب بشكل عام، فلسفي، اجتماعي، نفسي... وليس الخطاب النقدي فقط. هناك نظرية تحبل بها كل رواية، بمعنى أن لكل رواية نظريتها، وأعني بذلك استيعابها لأدوات النقد مهما تعددت، مما يؤدي إلى نقض كل نظرية. الكليشيهات الجاهزة لفيصل دراج في كل حديثه وكأنه يحفظ نصا مدرسيا عن ظهر قلب دليل آخر على ابن الصالون وابن النظام، لهذا تفتح له الجرائد العربية صفحاتها دون رقابة، ويذهب إلى المؤتمرات العربية دون عقدة، ويُحتفى به كأي ناقد من نقاد الأنظمة العربية الرسميين، ويأتي هنا ليتكلم عن مقموعين وصوت مضطهدين. لنقرأ بتمعن وحذر ما يقول...

أفنان القاسم

الرواية جنس أدبي كوني يجمعه النثر والتمرد على الواقع والخيال، انطلاقاً من الإيمان بالإنسان دون حصره بدين أو هوية، فكيف قادك إليه النقد، وتورطت فيه، خاصة أنه يعتبر من الدراسات غير المشجعة والمتطورة في العالم العربي؟

اخترت المجال

اخترت المجال لأني درست الفلسفة، ولكن دراسة فلسفية في مجتمع ما تحتاج إلى قارئ مهتم فعلاً بالفلسفة، وهذا القارئ غير متوفر، إضافة إلى أن الرواية نوع من الكتابة التي تتضمن جميع أشكال النقد، وتتيح للناقد معالجة جميع المواضيع بما فيها السياسة، انطلاقا من الكتابة.

وأعتبر أن كتابة الرواية تجاوز للرقابة، وأنا أسميه المكر الروائي الذي يتيح للروائي التحدث عن وجوه الحياة المختلفة، وتختصر فيها جملة من المعارف كعلم الاجتماع والفلسفة، وهذه العلوم صعب جمعها في النماذج النقدية المقدمة من قبل العالم العربي، لأنهم يعتقدون أن النقد ينطلق من الرواية ذاتها، إلا أن النقد ينطلق من فلسفة شاملة وبنية ثقافية كاملة.

النقد بين المحاكاة والقديم

كنت دائماً تقول إن خلق نظرية نقدية للرواية العربية هو مجرد شغف مدرسي يدرك مسبقاً أنه غير قابل للتحقق، ذلك أن الإبداع يفيض على موت الثابت، فكيف ترى الإرث النقدي العربي في ظل تلك المحاولات الدائمة من الشغف المدرسي؟

النقد الأدبي العربي الحديث بدا متأثرا جدا بالاتجاهات النقدية الأوروبية بدليل أن الفلسطيني 'روحي الخالدي' حين وضع كتابه 'علم الأدب بين هوغو والعرب' بدأ مباشرة بالافصاح عن ثقافته الفرنسية، ولاحقا ميخائيل نعيمة في كتابه 'الغربال' كان متأثرا بالثقافتين الأميركية والروسية، وأقام طه حسين منهجه على فلسفة ديكارت وصولا الى ماركسية لويس عوض ومحمد مندور وغيرهما.

فالتفاعل مع الثقافة الأوروبية كان خصيبا ومخصبا، وكان تأثر النقد العربي بالثقافة الأوروبية ايجابيا، وأصبح هذا النقد عبئاً، ابتداء من أوائل سبعينيات القرن الماضي، حيث تحول التعلم من الغرب إلى محاكاة صماء تأخذ بقشور المناهج الأوروبية دون أن تنفذ الى العلوم الاجتماعية، ودون أن يكون هؤلاء النقاد 'المتأوربون' على معرفة حقيقية باللغة الشعرية والنصوص العربية.

طبعا كانت هناك تطبيقات إيجابية بارعة لنقاد مثل جابر عصفور وكمال أبو ديب، لكن كثيرين حولوا هذا النقد إلى شكل من الكاريكاتير ومن الكلمات المعقدة الصعبة التي لا يدرك القارئ معناها، وهؤلاء النقاد لم يكونوا يدركون معناها الحقيقي.

في حين في الاتجاه الآخر يعتبر النقد العربي القديم لا يفيد في مقاربة العالم الروائي ولا يمت بصلة له من قريب أو بعيد، وما هو قائم نوع من امتدادات النقد القائم على مدارس فلسفية تنتج من اتجاهات فلسفية وتحليل نفسي يستفيد من فرويد، وعلم لغة يستفيد من كتب علم اللغة ويطبقها، فهي نظريات جاهزة نستوردها بشك ميكانيكي دون الرجوع إلى جذور هذه النظريات والاستفادة منها.

النظريات عالمية

لو فرضنا أن النقاد تدارسوا الرواية ضمن سياقها الثقافي الخاص بها، وربطوا تحولات الرواية العربية بالتحولات السوسيولوجية العربية، في هذه الحالة هل من الصعب الخروج بنظرية نقد عربية أصيلة؟

هذا السؤال يتضمن فكرة فيها نوع من الحصار، لأن النظريات تنتمي للعالمية وكل ما له علاقة بالإبداعات الحديثة مثل القصة والشعر الحديث له نظرياته وأنواعه الوافدة والمستقاة من الغرب، وحتى يكون عندنا نظرية، يجب دراسة الأشكال الأدبية الحديثة في علاقاتها بالتاريخ الثقافي الاجتماعي العربي الحديث، ويفترض معرفة حقيقة وجدية بالمدارس الاوروبية الفكرية في خصوصيتها ثم محاولة جدية لتطبيق هذه النظريات بشكل مبدع على الأعمال العربية، وقد يدفع هذا التطبيق المبدع الأديب العربي إلى الانزياح عن المعايير الاوروبية ويقترب من معايير مختلفة كثيراً لها علاقة بخصوصية عربية، لا علاقة لهذا على الاطلاق بامكانيات النقاد العرب بل بشكل الجامعات والمدارس والتربية المسيطرة، ففي بعض البلدان العربية التي فيها نوع من احترام المؤسسة الجامعية استطاعوا أن يقدموا شيئا متقدما مثل بعض النقاد المغاربة، وهناك من قدم دراسات مهمة مثل جابر عصفور وكمال أبو أديب، ويجب قراءة الأدب والنقد الأوروبي والعلاقات الثقافية الخاصة به، والاستفادة من المناهج الاجنبية في التطبيق دون تبنيها.

هناك ناقد عنده ذاتية مبدعة ويتعامل مع الثقافة الاوروبية بشكل حر وطليق ولا ينقل إنما يستفيد، ويوصل إلى أشكال نقدية خاصة به، وهذا بالفعل يحتاج إلى ذاتية مبدعة دون عملية إظهار وتكرار وتطبيق ميكانيكي.

لا يمكن استقاء نظرية تطبق على جميع أشكال الإبداع الروائي، كما أنه لا يمكن العثور على نظرية أوروبية قادرة على استنفاد جميع الأشكال الروائية العربية والنظريات، لكن من الممكن عبر قراءة رصينة لتاريخ الرواية العربية والنظريات الوصول إلى نوع من المنظور النقدي الذي يمكن أن يطبق على الرواية العربية.

لا توجد نظرية جاهزة في الغرب، والأمر كله نوع من الحوار مع الرواية العربية التي لها خصوصيات غير موجودة في الرواية الأوروبية.

إنها نوع من حوار مع الذات والذات الاوروبية والوصول إلى المعرفة النسبية والمتطورة والمتغيرة لأن الابداع الادبي يفيض على النظريات جميعها، ولا يبدأ الابداع من نظريات وإنما من تاريخ الابداع.

وعلى المقاربات النقدية أن تقرأ هذا الابداع وأفضل كلمة المقاربة وليس النظرية لأنه لا توجد نظرية كاملة ومتكاملة ومستمرة إلا إذا كانت ميتة.

رواية المقموعين

يقال أن الرواية صوت المضطهدين والمقموعين، وأن عليها أن تجابه الاستبداد، وأنت ذاتك في كتابك'ذاكرة المغلوبين: الواقع والمثال' وضعته شرطاً روائياً بنيوياً وليس أخلاقياً عند الكاتب؟

بالفعل التزام الرواية بقضايا المضطهدين لا يفسر أخلاقياً، كما لو كان الروائي واعظاً مختلفاً، إنما يفسر بنيوياً، ذلك أن التنوع والتعدد وحوارية العلاقات المختلفة هي قوام البنية الروائية، التي تختلف عن نصوص نقيضة، أحادية الفكر واللغة.

الرواية شكل نقدي مغاير للعالم، وحين لا يكون النقد جزءا منها لا تكون رواية، وإذا كانت السلطة تبحث عن الثبات وتسعى إلى الركود وتجميد الواقع فإن الرواية تبحث عن الواقع المتنوع والمختلف والمتطور الأمر الذي يقيم تناقضا أساسيا بين المنظور السلطوي للعالم والمنظور الروائي له.

الرواية تقوم على التعدد مثل اللغة والحوار والشخصيات بينما السلطة العربية تقوم على الأحادية وهو ما يجعل الرواية بالضرورة تخالف السلطة القائمة وتنتقدها وتنقضها، فإن التصور الروائي للعالم تصور ديمقراطي بامتياز، وكل رواية لا تنقض وتنتقد واقعا معينا لا بد أن تحيل على واقع آخر متخيل ومرغوب فيه أو تحيل إلى مدينة فاضلة غائبة أو معلقة في الأفق، ترى ولا ترى. وعلى هذا فإن منطق الرواية يقوم على الاحتمال في حين أن منطق السلطة يقوم على اليقين واليقين الثابت في هذه الحالة.

وفي هذه الحالة تكون الرواية هي رواية المغلوبين أو الذين يتطلعون إلى واقع آخر بعيد عن واقعهم القائم على الحرمان والاكراه، أكثر من ذلك إن الرواية العربية بالمعنى النبيل هي التي ترى الوطن العربي في نزوعه التاريخي أي تنظر إلى المجتمع اللازم وجوده وهذا ما يقيم العلاقة بين الرواية واليوتوبيا.

هناك أشكال حاليا من الاعمال الروائية العربية وخاصة منذ عقدين من الزمان تذيب كل مشاكل المجتمع المقموع في قضايا ذاتية بالغة الضيق وبالتالي لا تعبر عن تطور بل أزمة واضحة في الرواية، خاصة عند الجيل الجديد الذي لا يسمح له تعقد الواقع العربي أن يرى الحاضر بوضوح ولا أن يرى المستقبل بوضوح إلا بغرائبية، ولا تستمر هذه الرواية العربية إلا بجهود جيل الستينيات بمصر أو بعض المبدعين القلائل من لبنان وغيرها.

على ذكر كتبك هناك من اعتبر كتابك: 'نظرية الرواية، والرواية العربية' مغامرة؟

هو ليس مغامرة، الكتاب عبارة عن جزأين: الجزء الأول يعرض النظريات الكبرى في الرواية مثل نظريات لوكاش وجولدمان وبختين وفرويد، والجزء الآخر يدرس إبداعات روائية عربية مهمة، مثل إبداعات إميل حبيبي، وجمال الغيطاني، وصنع الله ابراهيم وادوارد الخراط.

ويبين أن الإبداع يفيض على النظريات، وأن هذه النظريات الأوروبية الشهيرة لا يمكن أن تفسر الإبداع الروائي العربي، وبالتالي هي محاولة لبناء العام والخاص في الكتابة الروائية العربية، النظرية هي البحث المستمر عن نظرية لا توجد إلا بشكل نسبي وتقريبي.

الرواية والسلطة

الرواية العربية ولدت في أجواء صراع مع السلطة، واستمر صراعها حتى الآن، فكيف ترى هذا الصراع الذي شابه نوع آخر من التنافس بين الحداثة والتقليد؟

تاريخيا لا يمكن وجود رواية دون ديمقراطية، فهي عمل قائم على بنية حوارية، فلا يمكن أن تتطور في مجتمع لا يعرف الحوار ولا الديمقراطية ولا توجد إمكانية تطور الرواية دون فضاء حر ومشاركة سياسية، وبالتالي لا تعنى الرواية بفرد مبدع هنا وفرد مبدع هناك، إذ تعنى بمجموعة من العوامل الاجتماعية المختلفة كالمتخيل الطليق واللغة المتحررة والبعد الحواري والابتعاد عن اليقين والقبول بالاحتمال واليقين والمعرفة الاجتماعية.

ذلك أن الرواية بالمعنى النظري العميق تعيش على علاقتها بين الفلسفة والفنون وعلم الاجتماع وعلم النفس والأخلاق والحياة السياسية، وحين تكون هذه العناصر غائبة لا يمكن أن يكون صعود وازدهار للرواية، وبالتأكيد على الناقد أن ينظر باحترام إلى جهود المبدعين في المغرب العربي ودمشق وبيروت والقاهرة والخليج العربي، والرواية نتاج علاقات ثقافية، ولا توجد بشكل مفرد دائماً بل تعايش جملة من العلاقات الأخرى.

لا أعني أنه لا يوجد أدباء قادرون على كتابة الرواية بل يعني أن الذين يكتبونها تعلموا معنى الرواية من تاريخ الرواية العربية من ناحية ثم من الرواية المترجمة من ناحية أخرى، لكن النقطة الأساسية هي التالية إذا كان كل إنتاج لا يتحقق إلا باستهلاكه فإن السؤال لا يكون فقط بالإبداع الروائي، بل في القارئ الذي لديه استعداد لقراءة الرواية والتعامل معها بشكل جدي، ويقاسم الروائي منظوره وهواجسه، وعلى هذا فإن العلاقة بين الرواية والديمقراطية وثيقة.

أقصد بذلك أنها لم تتحول إلى جزء من الثقافة العربية المسيطرة بالطبع، هناك كتاب من غزة والقاهرة والعالم العربي، لكن تجاربهم لم تتحول إلى جزء حقيقي من الثقافة المسيطرة، لأن استهلاك الانتاج يلعب دورا أساسيا في تطوير وتحديث الرواية.

هل من الممكن القول أن ما يميز الرواية العربية التأريخ للماضي؟

الرواية هويتها اللغة، ومن غير المقبول أن تكون هويتها هي الافتخار بالماضي، والخصوصية متحققة في اللغة، واللغة فقط إضافة إلى نزوع الروائي إلى عالم عربي يعيش الديمقراطية وحقوق الإنسان كبقية الشعوب في العالم.

العربي هو الذي يدرك اليوم أن مجتمعه مهزوم وعاجز ويعيش على هامش الكون، وعلى بلاغة قومية متوارثة ومعايير عقيمة لا معنى لها، هو الذي يدرك ذاته كذاتية معطوبة ومهانة، وبالتالي يحلم بمجتمع عربي حديث ومتحاور ثقافياً وقادر على الحوار مع الآخرين، وعلى مواجهة الذين يرغبون في السيطرة عليه ووراثته.

الكذب حرام

انتقالاً إلى غزة. كيف ترى الانتاج الروائي هناك؟

أنا لا أنكر إمكانية وجود روائيين في غزة، لكن النسبة المئوية التي تتعامل مع الرواية كفن جاد للحياة ليست كثيفة، وبالمقابل فإن بعض القوى الدينية ترى فيه فناً مشبوهاً مستورداً غريباً عن الثقافة العربية الموجودة وذلك للأسباب التالية:

أولاً اعتبار أن الخيال جزء من الكذب والكذب حرام، وثانياً رفض اللغة العامية التي يدرجها الروائي في نصه على اعتبار أنها لغة مسيئة للغة العربية، ويجب استخدام الفصحى، وثالثاً العمل الروائي قائم على فكرة النقد، تلك الفكرة التي تحث القارئ على المساءلة ورفض الثبات والقبول بالنسبي والحواري والابتعاد عن الأحكام المطلقة، وهذا مرفوض عند تلك القوى، ورابعاً فإن كل فكر وثوقي وإيماني بشكل مطلق يرى مرجعه بالماضي ويتطلع إلى استرجاع ماض بعيد مشتهى، بينما الروائي يتحدث باستمرار عن المستقبل وعن مدينة غائبة مشتهاة ولا تعرف عنها الكثير باستثناء فكرة الحرية.

تذكر في كتابك: 'الرواية وتأويل التاريخ' أن القرن الثامن عشر الأوروبي عرف صعود الرواية وعلم التاريخ معاً، معترفاً بهما كحقلين متمايزين من حقول المعرفة، لكل منهما مواضيعه، وأدواته، على خلاف التاريخ العربي الحديث الذي سمح بظهور الرواية، وربط ظهور التاريخ بأحادية الرؤية السلطوية، فجاء الروائي ليكشف الوجه الحقيقي للتاريخ..إلى أي مدى ترى أن هذه الحقيقة لا تزال ممتدة؟

يقر المثقف العربي باغترابه في وطنه بمعنى أنه يوقن بتخلف الوطن العربي عن الأجزاء الأخرى في العالم، السؤال بذاته يتضمن مفهوم الهوية لماذا أنا كعربي بعيد كل البعد عن الماضي القديم وحاضر الشعوب الأخرى. وهذا نظرياً سؤال تاريخي، إذا كان موضوع التاريخ يندرج في الرواية انطلاقاً من سؤال الهوية والاغتراب أو من سؤال الهوية المغتربة فإن القمع التي تعيشه البلاد العربية بأشكال متفاوتة يستدعي التاريخ بشكل آخر، ذلك أن الروائي هو الوحيد المتاح له أن يسجل وقائع العالم العربي بأشكال مختلفة، ذاهباً مرة إلى الماضي أو مخترعاً مكاناً متخيلاً أو لاجئاً إلى الأسطورة.

باختصار إن ما لا يستطيع أن يقوله المؤرخ الذي تقمعه الرقابة يستطيع أن يقوله الروائي معتمداً على العناصر الفنية، وهو ما أدعوه بالمكر الروائي، فقد كان الروائي دائماً، عربيا أو غير عربي، يتعامل مع الواقع ويرفضه، يكتب التاريخ ويندد به متطلعاً إلى تاريخ آخر لم يأتِ، وربما لن يأتي أبداً وهذا هو المفهوم التاريخي عندي.

ولأن التاريخ العربي منذ ثورة أحمد عرابي عام 1882 إلى احتلال العراق مؤخراً هو تاريخ هزائم متلاحقة فقد أملى على الروائي المشغول بهويته المغتربة أن يجعل منها مادة أساسية في رواياته، فقد كتب نجيب محفوظ عن ثورة 1969 وجمال الغيطاني عن احتلال العثمانيين في مصر، وكتب ربيع جابر عن الحروب الطائفية في لبنان في القرن التاسع عشر، وكتب الطاهر وطار عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وعن الجزائر قدم واسيني الأعرج عمله الكبير 'الأمير'، وكتب ممدوح عزام عن الاستعمار الفرنسي لسورية في عمله 'قصر المطر'.

الأمر له علاقة بالسياق المعيشي وليس بالمعيار النظري الذي يحدد مدى تداخل الرواية بالمواد التاريخية، والسياق العربي المعاش مهزوم ومحبط وتراجيدي، وعاجز، ومن الطبيعي في هذه الحالة ذهاب الروائي إلى الماضي مفتشاً عن الأسباب التي أنتجت عجز الحاضر، وله علاقة بالهوية والاغتراب والسياق وليس بشكل مجرد يدعى الإبداع.

الروائيات

كيف ترى اصطلاح البعض تسمية الأدب الذي تكتبه المرأة بالنسوي؟

كتبت أكثر من دراسة عن سحر خليفة كما كتبت دراساتي عن باقي الكتاب والروائيين العرب، وحتى عندما تناولت النماذج الإيجابية في كتابي 'بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية' تحدثت عن ناجي العلي وسحر خليفة وغسان كنفاني، وكما أن كتاب 'الرواية وتأويل تاريخ' يضم دراسة واسعة عن هدى بركات، وقد اعتبرت رواية 'الميراث' لسحر خليفة أهم رواية وعمل فلسطيني منذ رواية 'المتشائل'، كذلك فإن الروائيتين اللبنانيتين هدى بركات وعلوية صبح قدمتا شيئاً جديداً ومتميزاً وشديد التميز في الكتابة الروائية العربية في الفترة الأخيرة، وهناك أيضاً رواية رضوى عاشور 'قطعة من أوروبا'.

الروائي ينطلق من فكرة الإبداع وليس الإبداع الذكوري والأنوثي وهناك جمع غفير من أدعياء كتابة لم يأتوا بشيء.

هل استطاعت الرواية الفلسطينية أن تحمل هموم القضية الفلسطينية، أم أن الأخيرة كانت تتجاوزها وتثقل عليها باستمرار؟

هناك ثلاث روايات كثفت وببصيرة كبرى القضية، وكشفت تحولاتها: 'رجال في الشمس' لغسان كنفاني الذي طرح سؤال الوعي الزائف والوعي الحقيقي، وهزيمة الثاني أمام الأول، الثاني الذي يفضي غالباً إلى الموت، وأعتقد أن الصراع لا يزال قائماً داخل الشعب الفلسطيني حتى الآن ولا يزال التقدم الزائف في كثير من الأحيان يجر الشعب الفلسطيني من موت إلى آخر، وهناك رواية 'المتشائل' لإميل حبيبي التي لا تتحدث عن الانتصار أو الهزيمة، وإنما تأملت تاريخاً ساخراً وضع الإنسان الفلسطيني البسيط أمام آلة صهيونية هائلة يستطيع أن يلفظها ويقاومها دون رؤية شيء حقيقي في الأفق، ولعل بصيرة حبيبي الذي عاش الاحتلال بشكل مشخص بعيداً عن البلاغة العربية هي التي جعلته يقرأ الواقع الفلسطيني دون أية لغة انتصارية التي سادت في سبعينيات القرن الماضي. ورواية 'الميراث' التي تضمنت وجهين، رثاء وشبه رثاء لكفاح فلسطيني طويل لم يفض إلى الوطن ولا ما هو قريب منه، وتضمنت أيضاً سخرية سوداء فادحة، لذلك إن الميراث الكفاحي الطويل اختزلته السياسة البائسة إلى نوع من القيم لا علاقة له بالتحرر ولا فلسطين، كما لو كان الفلسطيني قد خسر بعد كل تضحياته أمرين أساسيين، كفاحه الوطني من أجل فلسطين، وخسر القيم الأخلاقية الكبرى التي هي الشرط الأول لكل كفاح تحرري ينتظر أفقاً أو شيئا قريبا من الأفق.