الأديب السوري الكبير عبد المعين الملوحي

الأديب السوري الكبير عبد المعين الملوحي:

كنت مدرساً لحافظ الأسد ولم أطلب منه عندما أصبح رئيساً إلاّ طبع كتاب!

فاطمة عطفة

دمشق ـ القدس العربي : برهبة وإجلال توجهت إلي لقاء الشاعر عبد المعين الملوحي لكن طيبة الرجل وبساطته واتساع المجال الذي يطل عليه الشاعر، جعلني أحس أنني لتقي بأبي ومعلمي. عبد المعين الملوحي أستاذ جيل، أو بكلمة أدق، أستاذ أجيال.

وهو أول من ترجم دوستوفسكي إلي العربية في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.

وهو الباحث والمحقق في التراث وشاعر الآلام العربية، وهو من الأعلام المؤثرة في تاريخ الأدب والتحقيق والترجمة في الوطن العربي. عمل ضد الظلم والإقطاع في سورية، وعرف بمواقفه القومية، وناضل في سبيل تحقيق الوحدة العربية، وسجن بعد الانفصال.

وإضافة إلي ترجمته المبكرة لرواية (في سردابي) لدوستوفسكي، فقد ترجم الشعر الفيتنامي في أربعة أجزاء. كتب أكثر من 150 كتابا طبع منهما 75 بين شعر وترجمة وبحث وتحقيق. وقد اهتم بالشعراء الصعاليك لما يري في ذلك من مواقف إنسانية، وأولها ثورتهم ضد الفقر.

وقد أتيح لي أن أزوره في منزله الكائن في منطقة الشعلان بدمشق، وكان لي معه هذا اللقاء.

* أستاذ عبد المعين أنت من مواليد مدينة حمص، في أي عام جئت إلي دمشق وكيف كانت هذه المدينة، وكيف تراها الآن؟

أول مرة جئت إلي دمشق في عام 1928. كنت أصعد علي جبل قاسيون وأري دمشق المدينة، عبارة عن مكان صغير جدا والغوطة حولها من كل جانب، منذ سنتين أو ثلاث صعدت علي جبل قاسيون وإذا دمشق تشمل كل الغوطة والغوطة لا تكون إلا جزءا صغيرا من دمشق، يعني هذه جريمة شنعاء ارتكبها أصحاب العقارات، ألغوا الغوطة وجعلوها كلها أحجارا وإسمنتا.

* أهم فعلا تجار العقارات؟

مع الأسف المتمولون وأصحاب العقارات هم الذين يحكمون السلطة، وليست السلطة هي التي تحكم! ولكن الجريمة مشتركة بين السلطة وبين أصحاب العقارات. أما الآن فقد تغيرت هذه المدينة التي أصبحت مكتظة بالسكان، ليس فيها شيء من المدينة أو جمال المدن، أصبحت مرآبا للسيارات بشكل فظيع جدا. والتلوث مخيف في هذه المدينة.

أذكر عندما اشتريت هذا البيت كنا نري عندما تأتي الشمس من الناحية الغربية إلي الغرفة لا نجد أثرا لغبار أو دخان، اليوم إذا نظرنا إلي الغرفة عند المغرب نراها كلها مملوءة بالغبار والدخان.

* إذا، كيف تنظر إلي مستقبل هذه المدينة؟

إذا وجد مصلحون يمكن إصلاح هذه المدينة، ولكن إذا ظل المفسدون هم الذين يتحكمون بهذه المدينة فسوف تزداد فسادا! درست اللغة العربية في مدينة اللاذقية وعشت فيها وفي مدينتك حمص، وحاليا في دمشق.

* أي من هذه المدن تركت عندك أثرا أكبر؟

الواقع أنني أحببت اللاذقية حبا شديدا.

* لماذا؟..

لأني في 1947 فقدت زوجتي بهيرة، ثم ذهبت إلي اللاذقية وهناك كنت أنزل إلي البحر، والبحر هو الذي محا كل الآلام التي في نفسي من موت زوجتي.

* معروف عن الشاعر عبد المعين الملوحي مواقفه الوطنية والقومية وانحيازه المبكر إلي جانب الفقراء، وهذه المواقف سببت له الكثير من الإشكالات، بعد هذه السنين الطويلة، هل تغير شيء من هذه الأفكار وكيف تري تأثيرها في الشارع من قبل، وتأثيرها اليوم؟

أقول لك بصراحة: المباديء التي اعتنقتها وأنا في صغري لا تزال هي المباديء التي أعتنقها في كبري لم تتغير: حب الإنسانية، حب الوطن، حب الأدب والشعر، هذا الثالوث هو الذي حكم كل تصرفاتي وكتاباتي وأشعاري ضمن هذه الحدود لم تتغير، ولا أزال أعتقد رغم مرور الزمن أنني سوف أحتفظ بها حتي وفاتي. أما بالنسبة إلي التغير في الشارع، أنا لا أحكم علي هذا الشارع، ولكن مع الأسف أصبحت المصالح الشخصية والقطرية هي الأغلب علي شعبنا وعلي الدول التي تتحكم في هذا الشعب.

* تناولت بالبحث الشعراء الصعاليك، لماذا شغلك هاجس هؤلاء الشعراء؟ وماذا يعني لك الشاعر الصعلوك؟

اهتمامي بشعراء الصعاليك نابع أيضا من مبدئي. هؤلاء الشعراء كانوا ثوريين ودافعوا عن حق الفقير بأن يجد طعامه ورزقه، وهاجموا الأغنياء وأخذوا منهم أموالا وزعوها علي الفقراء، ومن أكبر هؤلاء الشعراء عروة بن الورد وسموه عروة الصعاليك ، وأنا جمعت خمسا وستين شاعرا صعلوكا يمثلون أرقي ما وصل إليه الفكر الغيري عند العرب.

يقول أحد الشعراء، يعيرني السمين أني هزيل، ولماذا أنا هزيل لأنني أوزع طعامي علي الفقراء، وأما هو فيكتفي بالأكل وحده، هذه الأبيات من أجمل ما في الشعر العربي.

* لنقف مع الحمام، ما سر اهتمامك بهذا؟

كنت في حمص وإذا حمامة تطير أمامي وسقطت ميته فجأة وانقضت فورا عليها قطة وأكلتها، هذا المنظر الرهيب أوحي لي بأن أؤلف كتابا أسميه موسوعة الطير والحمام في الشعر العربي، وقضيت في تأليفه حوالي عشر سنوات وصدر في جزءين. هذا المنظر لا يزال حتي الآن يشغل بالي ولا أزال آراه حتي الآن، القطة تأتي إلي الحمامة الميتة وتنتف ريشها وتأكل.

* معني ذلك أن الشاعر يمكن أن يتأثر من أي منظر أو أي شيء يقع أمامه وأن يكون إلهاما لعمل ما؟

الواقع أن بعض القضايا الصغيرة هي التي تنتج القضايا الكبيرة، هذا المنظر البسيط أنتج كتابا ضخما اسمه موسوعة الحمام والطير في الشعر العربي.

* لأن الحمام يرمز إلي المحبة والسلام؟

الواقع أن الحمامة فيها قسوة مثل الناس أو أكثر من الناس، ومع ذلك لا يزالون ينظرون إليها كرمز للسلام، وتعرفين لوحة بيكاسو عن حمامة السلام.

* ترجمت الشعر الفيتنامي، حدثنا عن هذا العمل الكبير؟

ترجمة الشعر الفيتنامي من أرقي ما فعلت من التراجم، أنا معجب بهذا الشعب الذي قاوم أمريكا خلال سنوات طويلة وتغلب عليها. أول شعب يرغم امريكا علي الانسحاب من بلاده. إن الجرائم التي ارتكبتها أمريكا في فيتنام لا يمكن أن توصف، والشعب الفيتنامي ضحي بأكثر من ثلاثة ملايين في هذه الحرب ولكنه انتصر. أقول لك حادثة طريفة قصها علي سفير فيتنام عندما زارني هنا، وقص علي القصة الآتية: عندما حرر الجيش الأحمر الفيتنامي شمال فيتنام وقف علي حدود فيتنام الجنوبية لكي يهاجمها، فجاء الجيش الأحمر إنذاران من الاتحاد السوفييتي ومن الصين يقول: لا تهاجموا الجنود لأن أمريكا سوف تضربكم بالقنبلة الذرية، واجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفيتنامي وقررت الدخول إلي فيتنام الجنوبية وتحريرها، رغم التحذيرين الروسي والصيني. هذا موقف عظيم، يعني أن الشعب عندما يقرر شيئا يجب أولا أن ينظر إلي مصلحته ولا يجوز أن يتحكم به غيره من شعوب أو دول أخري.

* هل تجربة فيتنام سوف تكون مثالا صادقا تأخذ به شعوب العالم لمقاومة الاحتلال؟

يا سيدتي، أنا عندما ترجمت الأدب الفيتنامي ترجمته ليكون بالدرجة الأولي عزة لفلسطين التي تكافح استعمارين، الاستعمار الأمريكي والاستعمار الصهيوني الاستيطاني، فأنا أعتقد أن الشعب الفلسطيني استطاع أن يصل إلي حد من القوة ومن الجرأة وإرادة التحرير مما يذكرنا بكثير من الحوادث التي قام بها الشعب الفيتنامي. وأقول لك: عندما دعانا الرئيس حافظ الأسد إلي مقابلته قال قبل أن أتحدث إليكم أريد أن أتحدث عن أستاذي عبد المعين... فقد كنت أستاذا له في اللاذقية عام 1947 ـ 1948. وقبل أن نخرج من مكتبه قال: ماذا تريد يا أستاذ؟ قلت: أريد شيئا واحدا، طبع تاريخ الأدب الفيتنامي الذي يقع في أربعة مجلدات وثلاثة آلاف صفحة. قال: نعم، سوف أطبعه لك . وصدر أمر إلي وزارة الثقافة وطبع الكتاب. وبعد ذلك سألني بعض الأصدقاء: ماذا طلبت من الرئيس؟ قلت: طلبت طبع كتاب. قالوا: يا مجدوب، يا حمصي، كنت اطلب سيارة أو بيتا أو مالا... قلت: لا أريد إلا الكتاب. وما هي إلا سنة علي طبع الكتاب حتي جاءتني رسالة من رئيس جمهورية فيتنام يشكرني علي ترجمة الشعر الفيتنامي. وبعد سنة جاءتني سفارة فيتنام وأعطاني السفير وسام الاستحقاق الفيتنامي. وقلت لأصدقائي في حفلة التكريم: من المجدوب، أنا أم أنتم؟

* الشاعر مالك ابن الريب رثي نفسه، والشاعر عبد المعين الملوحي رثي نفسه أيضا، كيف يستطيع الشاعر أن يرثي نفسه؟ وما هي الحالة الوجدانية التي يمر فيها ليستطيع أن يكتب تلك اللحظة التي لم يجرؤ علي مواجهتها إلا كبار المتصوفة؟

عندما كنت في الصين، في عام 1978، أصبت بجلطة في الدماغ، وكدت أموت. ولكن الصينيين اعتنوا بي عناية كبيرة وداووني بوخز الإبر، وبالطب الصيني، والطب الغربي، فنجوت والحمد لله. بعدها فكرت أني رثيت كثيرا من الأصدقاء، ورثيت زوجتي، ورثيت ابنتي.. لماذا لا أرثي نفسي، فرثيت نفسي بقصيدة طويلة تبلغ مئتي بيت، قلدت فيها مالك ابن الريب عندما رثي نفسه.. كأني وجدت من العدل أن أرثي نفسي كما رثيت أصدقائي. وهذا ما دفعني إلي هذا الرثاء.

* ممكن أن نسمع بعضا من هذه القصيدة؟

أنا مع الأسف لا أحفظ من شعري، أحفظ أكثر من مليوني بيت من شعر الآخرين، ولكن لا أحفظ شعري.. إنما سأقرأ بعض الأبيات من آخر القصيدة، وهنا أذكر بلدي حمص فأقول:

ويا وادي العاصي وقد كنت iiدوحة
أنـاغي  بها الأحباب حييت iiواديا
لـئن  مزقت أيدي السياسة iiشملنا
فـما زال قلبي صادق الود iiصافيا
سأودع في أحجارك السود أعظمي
فلا  يكُ مثل الناس صخرك iiقاسيا
فإن أستطع في الحشر آتيك iiزائرا
ولـو خطرت حور الجنائن iiأماميا
ولـو  خـيروني بين لثم iiحبيبتي
ولـثـم ثري حمص لثمت iiترابيا

وهنا أحببت أن أسمع بصوته أبياتا من قصيدة بهيرة . سرح بنظرته بعيدا وكأنه يعود إلي تلك الأيام، فقال:

أبهيرتي.. بل لستِ لي

بل أنتِ خائنةٌ أثيمة

حمَّلتني عبءَ الهوي

وتركت طفلتنَا يتيمة

ما الداءُ؟ لو لم ترتمي

للداء خاضعة إلِيهِ

لَم لم تَهبِّي حينَ

حـلَّ الداءُ واثـبة عليهِ

ما الموتُ؟ ليسَ الموتُ

عذرا للخيانةِ في الخؤونِ

لِمَ لمْ تثوري للحياةِ

وتقطعي كفَّ المنونِ

هذا ما سميته الجنون، ثم اعتذرت عن هذا الجنون فقلت:

أبهيرتي هذا الجنونُ فعفوَ قلبكِ عن جنوني

لم أستطع فهما لموتـكِ يا بهيرةُ! فاعذريني ..

ما زلتِ في نفسي تفيضين الهوي جسدا ونفسا

فإذا التفتُّ ولم أجدكِ قضمت كأس الخمر يأسا

* علي ذكر الرثاء، ولو كان سؤالا غير لبق وأعتذر منك لطرحه، ولكن أري أن علي أن أسأله: لقد رثيت نفسك كما رثيت الأحبة، وهذه مكتبة عبد المعين الملوحي بقامتها وما تأخذ من مساحة في أكثر جدران البيت، هل قلت في هذه المكتبة شيئا من الرثاء أو وصية لمن ستكون ـ بعد عمر طويل؟

أنا ذكرت مكتبتي في قصيدتي عبد المعين الملوحي يرثي نفسه. قلت في هذه القصيدة.

تذكَّرتُ من يبكي علي فلم أجدْ

سوي قلمي والطرسِ والحبرٍ باكيا

ومكتبةٍ أودعتُ روحي رفوفَها

تكاد إذا ما متُّ تسعي أماميا

ومنضدةٍ سوداءَ كاد حديدها

يذوب إذا الإلهامُ أعرب نائيا

وأفكارِ صدق قد تألقن ثورة

أنرن لعميانِ الحياة المعانيا

أما ماذا أفعل بالمكتبة عندما كنت في الصين وأعطوني لقب أستاذ شرف في الصين، تبرعت بمكتبتي لجامعة بكين باعتبار أن بكين فيها عدد كبير من الذين يتعلمون اللغة العربية، لذلك تبرعت بالمكتبة ولكن أولادي ماذا يفعلون من بعدي هل يعطونها إلي الصين، وهذه المكتبة تضم أكثر من 14 ألف كتاب وهي تساوي مبلغا كبيرا من المال، لا أعلم كيف يتصرف أولادي من بعد والدهم؟ هل يخسرون ثروة؟ وهل يمكن أن يقيسوا موت والدهم بمقدار ما يربحون منه؟ لا أعلم!

* كل أستاذ يمر عنده بعض الطلاب الذين يتركون ذكري أو أملا في أن يكون هاما، سواء في الأدب أو العلم. من ترك ذلك الأثر ولمن تنبأت له وتم ذلك؟

الطلاب الذين يتخرجون من المدرسة نوعان، نوع يذكر الفضل الذي غمره فيه أستاذه ونوع آخر ينكر كل شيء فعله له أستاذه. وأقول لك شيئا غريبا: الطلاب الذين كنت أدرسهم مجانا ولا آخذ منهم شيئا هم الذين عقوني، والطلاب الذين كنت آخذ منهم أجرا هم الذين يتذكرونني ويحترمونني. الطلاب نوعان مع الأسف يغلب الأول علي الثاني، وأنا قلت أبياتا في هذا الموضوع، يمكن أن أسمعك شيئا منها:

غرستُ غراسا وارتقبتُ ثمارَها

فلم تعطِ إلا الشوكَ صلدا غراسيا

إلي الله أشكو من رعيتُ عهودَهم

فلم أرَ منهم في الملمَّات راعيا

تلاميذ عقوني مريضا فليت لي

بأفضلهم كلبا يبصبص وافيا

غدا سوف يبكون المعلم جثة

وقد صار عظما في المقابر عافيا

تناسَوْا حقوقي في الحياة فإن أمتْ

تباكَوْا علي قبري الوفي تباكيا

* هل تنبأت لبعض الطلاب فكان لهم شأن؟

نعم لقد تنبأت لبعض الطلاب وكانوا من أرقي العلماء والأدباء في بلادنا، ولكن مع الأسف هناك آخرون تنبأت لهم ولكن خالفوا الوضع. ومن المؤسف أن أحدهم وضعني في السجن ثلاثة أشهر لأني مع الوحدة العربية، وأدعو في سنة 1963 إلي عودة الوحدة.

ولم يخرجني هذا من السجن إلا بعد أن خيرني خيارين: إما أن تبقي في السجن، وإما أن تذهب إلي دمشق. فأنا في دمشق لم آتِ إليها بإرادتي وإنما أنا منفي إلي دمشق، وهذا شيء عجيب! فهؤلاء الطلاب نوعان، نوع يشكر ونوع يكفر. وهناك كلمة، من أروع ما يمكن، لمصطفي صادق الرافعي يقول: فيها: ما ألأم الشجرة التي إن نطقت شتمت ساقيها!