رواد الرواية الإسلامية المعاصرة

د.محمد سالم سعد الله

رواد الرواية الإسلامية المعاصرة

مقابلة مع الأديب الإسلامي : ( عبد الله عيسى السلامة )

عبد الله عيسى السلامة

د.محمد سالم سعد الله

[email protected]

يشغل الأدب الإسلامي المعاصر مكانة متميزة بين أروقة التوجهات الأدبية الحديثة ، وقد منح نفسه حقّ الإعلان عن إبداعه في خضم المزالق والمعوقات التي تعتري سبيله ، وقدّم نتاجات في صعيدي الإبداع والنقد لا تقل أهمية عن التوجهات الإبداعية والنقدية العالمية والعربية ، مقتربة منها أو مضاهية لها أحيانا ، لكن يبقى هذا الأدب أسير الحلم إن لم يقترن بدراسات معرفية وثقافية ونقدية تكشف الجماليات ، وتقدم الدلالات ، وتمنح قراءات متنوعة بتنوع المنتج ، فضلاً عن حاجة ملحة في كشف رواد هذا التوجه الفني والجمالي والإبداعي ، والحديث عن الثقل الفكري والمعرفي الذي يمتازون به ، ومناقشة رؤاهم حول قضايا عدة على صُعُد متنوعة .

وانطلاقاً مما ذُكِر حاولنا الوقوف على أبرز معطيات الأدب الإسلامي من خلال جنس أدبي يشغل مساحة واسعة في الرقعة الإبداعية العالمية وهو ( الرواية ) ، وحاورنا في ذلك الروائي والقاص الإسلامي المعروف ( عبد الله عيسى السلامة ) ، مقدمين أسئلة ذات محورين : الأول يتعلق بالأمور الفنية الشكلية ، والثاني حول القضايا المضمونية التي تقدمها العناصر السردية في المنتوج الروائي ، فضلاً عن الحديث عن طرائق الإبداع ، وميزة الكتابة الروائية ونحو ذلك .

1. بمن تأثرت في إبداعك الروائي ؟.

ـ ليس ثمة كاتب معين . إلاّ أنّ قراءاتي المتنوّعة في مجال الرواية : العربية منها والمترجمة ، أعطتني مدىً واسعاً في التصوّر ، وخبراتٍ ذهنيةً متراكمة .. فضلا عن خبرات الحياة ذاتها ـ والحياة مدرسة شديدة العمق والاتّساع والتعقيد ـ كل ذلك ساعدني على أن أختار لكلّ رواية أكتبها ، المنهج الذي أراه مناسبا لها ، من حيث طريقة السرد ، ورسم الشخصيات ، وتخيّل الأحداث والأزمنة والأمكنة، بما يتلاءم مع الفكرة الأساسية التي أريد الحديث عنها . وأزعم أنّ تنوّع قراءات الكاتب ، وتفاوتها بين الجودة والرداءة .. ممّا يخصِب تجربته ويثريها ، أكثر ممّا لو قصَر قراءاته على كتابات جيّدة ، لكاتب واحد أو كتاب عدّة .

2. ما هي أهم المضامين التي تدعو إليها في كتابتك الروائية ؟.

ـ المضمونات السياسية المعاصرة ، هي التي تشغلني أولاً وأخيراً ، وهي التي تدفعني دفعا إلى كتابة الرواية . وهذه المضمونات ممتزجة ـ بالضرورة ـ بمضمونات اجتماعيّة وإنسانيّة وفلسفيّة .. إلاّ أنّ هذه المضمونات الأخيرة ـ بأنواعها ـ لا تستوقفني إلاّ بقدر ماتخدم الفكرة الأصلية ( تسهم في تشكيل مناخها ، أو تضيء بعض جوانبها ، أو تساعد على الإقناع بمنطقيّتها ، فنيّا أو فكريّا .. ) .

3. في أي مساحة روائية تصنف أعمالك السردية، هل تنتمي إلى الرواية الإسلامية، أم الرواية العربية، أم الرواية السورية، وهل هناك فرق بين هذه التحديدات ؟.

ـ أزعم أن الرواية لديّ هي مزيج من هذا كلّه ، إلاّ أنّ خدمة الهدف الإسلامي تأتي بالدرجة الأولى . أمّا المناخ العربي ، والمناخ السوري ، فهما المناخان الطبيعيان اللذان تتحرك فيهما أحداث الرواية .. أمّا النجاح في إبرازالفكرة الإسلاميّة ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ أو التقصيرُ في ذلك ، أمّا هذا وذاك ، فيُنظر إليهما في إطارالتصوّرالكليّ العامّ لوظيفة الأدب ، وتأثيره السلبيّ والإيجابيّ في حياة الناس ، مِن حيث دفعُهم إلى دائرة الدينونة لله ، بمعناها الواسع ـ في المحصّلة النهائية ـ أو دفعُهم إلى دائرة الدينونة للشيطان ، بمعناها الواسع ـ في المحصّلة النهائية كذلك ـ وأحسب أنّ رواياتي ، التي نشرتها حتى الآن ، لم تدفع أحداً إلى دائرة الدينونة للشيطان ! ـ أو .. أرجو ذلك في أقلّ تقدير ـ أمّا الدائرة الأولى ، فأرجو أن أنال عليها ثواب النـيّة والقصد ، إذا فاتني ثوابُ النتيجة..!

4. إذا كانت أعمالك السردية تنتمي إلى الرواية الإسلامية المعاصرة، فما هي ميزاتها، وهل تختلف عن الرواية العربية المعاصرة، شكلا ومضمونا ؟.

ـ أفترض أنّ أهمّ ما يميز رواياتي هو أنها اقتصرت ـ عن وعي وتصميم ـ على معالجة الموضوعات السياسيّة ـ في مجال المضمون ـ بينما تصدّى غيري من كتّاب الرواية لمعالجة مسائل شتّى : ( اجتماعيّة .. وطنيّة .. سياسيّة .. إنسانيّة .. عاطفيّة .. ) . ولأكنْ أكثرَ وضوحاً : إنّ هاجسي الأول هو تسليط أضواء قويّة كاشفة ، على ما يعانيه الإنسان العربي من ظلم ، على أيدي حكّامه ، وأعواِنهم ، وأتباعهم ، وسائر أصحاب السلطة ، في مواقعهم المختلفة . وذلك لِما أراه وأحسّه ، من معاناة يوميّة لدى المواطن العربي ، بين المحيط والخليج ، على أيدي هؤلاء المتسلّطين . وأعدّ هؤلاء أسّ البلاء ، في سائر ما يعاني منه الإنسان العربي ، في المجالات كافّة : ( الأمنيّة ، والاقتصاديّة ، والسياسيّة ، والاجتماعيّة ، والثقافيّة .. ) .

أمّا على صعيد الشكل ، فما أحسب الرواية العربيّة قد اتخذت شكلاً واحداً . ولا سيّما أنّ المدارس الغربية الأدبية ، التي فرضت نفسها على شرائح واسعة من الأدباء والكتّاب ، قد أسهمت في تشكيل تصوّرات كثير منهم بأشكال شتّى ، انعكست على إبداعاتهم الأدبية عامّة ، ومنها الرواية .

ولمّا كانت كتاباتي عامّة ، ومنها الرواية ، ملتزمةً هادفةً ، كان الشكل ـ من وجهة نظري ـ مجرّد إطار للمضمون ، أحرص على أن يكون إطارا جيّدا بقدر المستطاع ، إن عجزتُ عن جعله ممتازاً وذلك ليؤدّي وظيفته الفنيّة في تحبيب الفكرة إلى القارئ ، وجعلِه أكثر قدرةً وحماسة ، على تشرّبها بعقله وقلبه وروحه . ومِن هنا أجدني أبتعد عن الإغراق في الرموز ، التي تشغل الكثير من لبّ القارئ عن المضمونات الأساسية ، التي أريد إيصالها إليه . فالكتابة بِناء ، بل بِناء شديد الأهميّة والخطورة ، لأنّه ينصبّ على الإنسان ذاته ، الذي يبني المدنيّات والحضارات . فإذا صلُح أصلَح ما يبنيه، وإذا فسَد أفسدَ ما يبنيه ، بل أفسدَ كلّ ما حوله ، من عناصر الكون والطبيعة ، التي سخّرها الله له . وأزعم أنّ كلّ كاتب ، هو بنّاء ، بالضرورة .. إنّما كلٌّ يبني لخدمة الهدف الذي وضَعه لنفسه ، سواء أكان هذا الهدف ربّانيّاً ، أم شيطانيا . والأهدافُ المتناقضة يبني أصحابُها أبنيةً متناقضة ، يَسعى كلّ منها إلى نَسف البِناء النقيض ، وإحلالِ بنائه محلّه .. وهي معركة شرسة ، ممتدّة عَبر الزمان والمكان ، بين الدائرتين : ( دائرة الدينونة لله ، ودائرة الدينونة للشيطان ) ومن أهمّ أسلحتها المعاصرة الفنّ والأدب!.

5. هل يبشر المستقبل بخير في مجال تطور الرواية الإسلامية، وما السبل الكفيلة لتحقيق ذلك ؟.

ـ الرواية الإسلاميّة ، بواقعها الراهن ، عاجزة عن المنافسة ، في دوّامة الصراع العنيف ، بين القيم والأفكار والمذاهب و( الأيديولوجيات ) ولاسيّما أنّ الساحات الإعلاميّة المتنوّعة ، خاضعة ، بشكل شبه تامّ ، لهيمنة القوى غير الإسلاميّة ، وهذه الهيمنة تجعل ضعف الرواية الإسلاميّة مزدوجا ، أو مركّبا ! فهي عاجزة عن النموّ الطبيعيّ السليم ، بسبب ضيق المحاضن المتاحة لها . وهي ، من ناحية أخرى ، عاجزة عن الانتشار المناسب ، بسبب قلّة المحاضن الإعلاميـة المتاحـة لها ( صحيفة .. مجلة .. إذاعة .. تلفاز .. ) فضلا عن قلّة الدراسات الجامعيّة ( الأكاديميّة ) التي تسهِم في تنشيط الرواية ، وتنشيط الإقبال عليها ، من لدن القرّاء عامّة ، والقرّاء الإسلاميّين خاصّة . وهذا التقصير الأخير ، تقع مسؤوليّته على الباحثين الأكاديميّين الإسلاميّين قبل غيرهم ، إلى جانب النقّاد الإسلاميّين الذين لم ينهض بعضهم بعبء المسؤوليّة ، إلاّ قلّة تعَدّ على الأصابع ، رغم كثرتهم في الجامعات العربيّة ، والمؤسّسات الثقافيّة عامّة .. ! .

وإذا كانت شريحة القرّاء الهواة ، قد تضاءلت في السنوات الأخيرة ، بسبب ظهور الوسائل المنافِسة ، في مجال التسلية والتثقيف ( تلفاز وإنترنت ) وقلّ الإقبال على المطالعة عامّة ، والأدبيّة منها خاصّة .. فإنّ الفئة التي ما تزال تقرأ الأدب ، تضع قراءة الرواية في مقدّمة هواياتها ، لِما لهذا الفنّ من قدرة على الجذب والإمتاع ، وسَبر العوالم الفسيحة والعميقة ، داخل النفس البشريّة وخارجها من هنا يمكن القول : إنّ الرواية ستظلّ مادّة مطلوبة للقراءة ، إلى سنوات عدّة قادمة ، في إطار التنافس القائم بينها وبين الوسائل الأخرى . وهذا ، بالطبع ، يحمّل المهتمّين بالأدب الإسلاميّ والثقافة الإسلاميّة ، عبئا لا مناصَ لهم من حَمله ، إذا أرادوا أن يصنعوا لأدبهم حياة حقيقيّة ، ووجوداً فاعلاً ، في ساحة الصراع الأدبيّ والثقاقيّ والإعلاميّ . وفي مقدّمة الجهود المطلوبة ، فيما نحسب :

*قيام المؤسّسات ، والروابط الثقافيّة والأدبيّة ، بدَور نشِط ، في تشجيع الإبداع الروائيّ ، والترويج له ، والمساعدةِ على توزيعه ونشره ، في سائر أنحاء العالم العربيّ والإسلاميّ ، والإسهامِ في ترجمة أكبر قدر منه ، صالح للنشر والتوزيع والترجمة ، فنيّا وفكريّا . ونحسب رابطة الأدب الإسلاميّ العالميّة ، هي المؤهّل الأول ، للقيام بهذه المهمّة ، لِما لها من امتدادات عالميّة .

*قيام المدرّسين الإسلاميّين الجامعيّين ، بتشجيع الطلَبة ، على كتابة رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه ، عن الرواية الإسلامية فضلاً عن تدريس الرواية الإسلاميّة في مادّة الأدب الحديث ، ودراسةِ الظواهر التي عالجتها هذه الرواية ، في شتّى المجالات : الاجتماعيّة والسياسيّة والإنسانيّة والوطنيّة والعاطفيّة والنفسيّة .. وهذا بدوره ، يشجّع دُور النشر ، على طباعة الرواية الإسلاميّة ، لِما تَرى في ذلك مِن ربح ماديّ .

*قيام النقّاد الإسلاميّين بكتابة دراسات نقديّة ، عمّا يَصدر من روايات إسلاميّة ، ونشرُ هذه الدراسات ، في الصحف والمجلاّت العربيّة .

6. هل ينتمي الحدث في رواياتك إلى أحداث مفترضة، أم مقتبسة من الواقع، وأيّهما تفضل في الإبداع الروائي: استلهام الواقع، أم الانطلاق من ميدان افتراضي ؟.

ـ أنا أنطلق من الواقع في كلّ ما أكتب ، لأنّ دافعي الأساسيّ لكتابة الرواية أصلاً ، هو الحرص على تشخيص الواقع ، وتسليطِ الأضواء عليه ، ووضعِه بين يدي القارئ ، الذي يعيش بعضَ تفصيلاته ويغفل كثيراً منها ، ليستطيع تقدير حجم المأساة التي يعيشها ، وتعيشها أمّته ، لعلّ ذلك يَحفِزه إلى إعمال فكره وخياله ، ليَرود لنفسه ولأمّته ، آفاقاً يَخرج بها ، وتًخرج أمّته ، من الواقع الذي تتردّى فيه الأمّة ، وكلّ فرد فيها ، في طول العالم الإسلاميّ وعرضه . ومِن هنا كانت الأحداث الأساسيّة ، وأكثرُ الأحداث الثانويّة والتفصيليّة ، منبثقةً من الواقع ممتزجةً به . وهذا ما أحِبّ أن أراه في كلّ رواية أقرؤها . وربّما كان إحساسي بضغط الواقع الأليم ، يشغلني عمّا وراءه من أمور افتراضيّة ، قد أراها ضرباً من التَرف الفكريّ ، الذي لا أجد لديّ وقتاً للاهتمام به .

7. ما هي رؤيتك للإنسان، وهل تتجسد هذه الرؤية في رسم شخصياتك الروائية ؟.

ـ الإنسان هو المخلوق الذي جعله الله خليفة في الأرض ، وهو ميدان الصراع الأبديّ بين الخير والشرّ .. الصراعِ داخلَ نفس الفرد الواحد ، والصراع في إطار المجتمع الواحد في الدولة الواحدة ، والصراع بين الدول والمجتمعات المختلفة . وهذه الصراعات إنّما هي سنن من سنن الله في خلقه ، منذ صراع آدم وإبليس ، إلى صراع ابنَي آدم ، إلى ما نراه اليوم من صراعات بين البشر . ولمّا كان العالم محكوماً بثنائيّات لا فِكاكَ له منها مثل : ( الخير والشرّ .. الهدى والضلال .. الحقّ والباطل .. العدل والظلم .. الحياة والموت .. ) وهي ليست ثنائيّات فلسفيّة بحتة ، بل حقيقيّة حيّة يعيشها الإنسان لحظة بلحظة ، في مراحل حياته كلّها ، وفي أيّ مكان وجد فيه من العالم .. لمّا كان ذلك كذلك ، كان لابدّ للعاقل من الانحياز ، إلى هذا القطب من قطبَي الثنائيّة أو ذاك ، ولابدّ له ، بالتالي ، من تحمّل تَبِعة انحيازه . قال تعالى في كتابه العزيز عن الإنسان : \" إنّا هَديناه السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً \" ( سورة الإنسان ، الآية : 3 ) .

وبناءً على ما تقدّم ، كان على من يختار ، عن وعي وإدراك ، أن يدافع عن اختياره ـ هذا بحسب الأصل ـ وساحاتُ الصراع بين قطبَي الثنائيّة واسعة ممتدّة ، عَبر الزمان والمكان ، وعَبر الأنشطة الإنسانية كلّها ، القَوليّة منها والفعليّة ـ والأدب بالطبع أحد هذه الأنشطة ـ .

وأزعم أنّ هذه الثنائيّات منبثّة في رواياتي بأشكال مختلفة ، يَظهر بعضها شاخصاً في زاوية ما ، ويبدو بعضها خافتاً في زاوية أخرى . وقد تَبرز في بعض رواياتي ـ كالغيمة الباكية مثلاً ـ أنواع شتّى من الصراعات ، تبدأ من صراع الإنسان مع نفسه ، وتنتهي بالصراع بين الأحلاف الدوليّة ، في الحرب العالمية الثانية، مروراً بصراع الأفراد داخل الأسرة الواحدة ، وصراعهم داخل العشيرة ، وصراع العشائر داخل القبيلة ، وصراع القبائل فيما بينها ، وصراع المجموعة الإسلامية مع محيطها القبَليّ ، ومع القوى الأجنبيّة الاستعماريّة ، وصراع بعض الحلفاء المستعمرين فيما بينهم ، وهذه الصراعات تأخذ أشكالاً مختلفة ، كالصراع بين الصواب والخطأ ، وبين الحقّ والباطل ، وبين العدل والظلم ، وبين الهدى والضلال .

8. كيف تتم صناعة البطل في أعمالك الروائية، هل يجب أن يكون منتمياً إلى المجموع، أم يكفيه التميز الفردي، والهيمنة على مقتضيات الحدث ؟.

ـ أنا أعترف ، بكلّ تواضع ، أنّي لا أصنع أبطال رواياتي ، بل أختارهم من بين النماذج الحيّة المتحرّكة أمامي ، التي يقدّمها لي الواقع المحسوس ، سواء أكان هؤلاء الأبطال حكّام دوَل ، أم زعماء سياسيين ، أم شيوخ قبائل ، أم رجال ثقافة وفكر ، أم قادة جيوش ، أم بشراً من عامّة الناس . وكلّ ما أفعله هو أنْ أجريَ بعض التعديلات على ملامح الشخصيّة ، وأضعها في الرواية لتَصنع أحداثها ، بطريقة مشابهة لطريقتها في صنع الأحداث على أرض الواقع . وقد تكون التعديلات طفيفة ، لا تحجب ملامح الشخصية الحقيقية ، عن فراسة من يعرفها في موقعها من الزمان والمكان . إلا أنّني لا أمنح أحدا القدرة التامّة ، على الجزم بأنّ هذه الشخصيّة هي شخصيّة فلان على سبيل اليقين . وحين صدرت رواية ( الثعابيني ) أولى رواياتي ، انشغل كثير من قرّائها بالتكهّن حول شخصيّاتها .. فمِن قائل : هذا فلان ، ومِن مرجّح أنّ ذاك الذي في الفصل الفلانيّ هو زيد ، وأنّ الآخر الذي يعارضه هو عمرو..! وقد سألني أحد الأشخاص ـ وكان بعضهم قد أكّد له أنّ الشخصيّة الفلانيّة في الرواية هي شخصيّته ـ فقال : يا فلان .. لقد ذكَر لي بعضهم أنّك تحدّثت عنّي في روايتك .. وأنا ، كما ترى ، ضعيف البصر ، لا أستطيع القراءة ، ولا أثق كثيرا بتكهّنات الآخرين ، فقل لي : أين ذكرتني في الروايـة ؟ فقلت له : يا أخي الكريم ، هذه الرواية تدورأحداثها في أفريقيا ، ونحن هنا في آسيا ، كما تعلم ، فأين أنت منها؟ فردّ قائلا : لا لا يا فلان ، أنت تعمل بالمثل القائل : ( أحكي مع الكنّة كي تسمع الجارة .. وقد أكّد لي بعض قرّاء روايتك ، أنّك ذكرتني فيها ، فقل لي : في أيّ مكان منها ؟ ) . وظلّ الرجل يلحّ ، وأنا أنفي حتّى انفضّ المجلس . وبالطبع ، لو رسمتُ ملامح شخصيته كما هي في الواقع ، لما عاد ثمّة مجال للشكّ ، ولأتخذ الحوار معه طابعاً آخر . بيدَ أنّي أردت أن آخذ من ملامح شخصيّته ، نموذجاً للشخصيّة التي أردتُها لا الشخصيةَ ذاتها .

وربّما كانت شخصيّةُ الشارد ، في رواية ( سرّ الشارد ) ، هي الشخصية الوحيدة ، التي تحمل طابعاً رمزيّا إلى حدّ ما ، برغم كونها تعبّر عن مأساة آلاف المثقّفين في العالم العربي ، بل مئاتِ الآلاف منهم .. فهي نموذج حيّ ، لكلّ مثقّف مضطهَد في بلاده ، مشرّد مطارَد ، يستغلّ الآخرون إمكاناته العلمية ، ومؤهّلاته الفكريّة والثقافيّة ، لخدمة مصالحهم الخاصّة ، وفي الوقت ذاته يَسحقون شخصيّته ، ويعبثون بكرامته ، وهو لا يجد لقمة عيش كريمة في بلاده .. ! .

أمّا الفرديّة والجماعيّة ، في شخصيّة البطل ، فهما خاضعان لطبيعة كلّ رواية ، وطبيعة التصوّر اٍلأوّلي عنها . فالرواية التي تتَمحور أحداثها حول شخصيّة فرد ـ بدايةً ـ لا بدّ أن يكون للفرد فيها تَمَيّزه ، بصفته نموذجاً متَفرّداً ، حتّى لو كان يعبّر عن نَمط واسع الانتشار ، في المجتمعات البشريّة ، فشخصيّة الثعابيني الدكتاتور، في رواية ( الثعابيني ) شخصيّة متميّزة متفرّدة ، وهي تعبّر عن نَمط من الحكّام ، سائد في العالم العربيّ . ولو كان مجرّد خيط في نسيج مجتَمعيّ متلاحم متماسك ، لَما عبّر عن النَمط الذي ينتمي إليه الحكّام الطغاة المستبدّون ، الذين يتصوّرون أنفسهم آلهة ! .

وشخصيّة الشارد ، المثقّف البارز المسحوق ، لا بدّ أن تعبّر عن نمَطها الذي تمثّله بقوّة ، وإلاّ فَقدتْ قدرتَها ـ فنيّاً ـ على أداء المهمّة التي أسنِدت إليها ، وهي تصوير حال الشريحة المثقّفة المتميّزة ، من أبناء الأمّة المسحوقين ـ وبالطبع ثمّة مثقّفون غير مسحوقين ، لأسباب سياسيّة أو ظروف خاصّة بكلّ منهم ـ .

وكذلك شخصية العقيد عناد الدرويش ، في رواية ( مَن قتَل الرجل الغامض ) التي تمثّل شريحة واسعة ، من العسكر المغامرين ، الذين يستغلّون ظروفاً معينّة ، ليَسرقوا السلطة السياسيّة في بلاهم ، ويَقلبوا الحقائق فيها ، ويزوّروا الوقائع ، كما يحلو لهم .

أمّا رواية ( الغيمة الباكية ) فليس فيها بطل متفرّد ، بل مجموعة من الشخصيّات ، المتفاوتة أهميّة وشأناً ومَوقعاً . لأنّ الرواية مبنيّة ، أساساً ، على هذا . والأشخاصُ الذين لهم أهميّة خاصّة ، نسبيّاً مثل : ( ظبية ، وشوكان ، ومنادي ) لا يعَدّون أبطالاً ، بل مجرّد أشخاص لهم فاعليّة معيّنة في الرواية أكثرَ من غيرهم .

9. البداية والنهاية سمتان تميزان العمل السردي، كيف تتجه أعمال (السلامة)الروائية في هذا الإطار، هل هناك ميل لنهاية مفتوحة، أم نهاية تبطىء فيها الأحداث، أم نهاية تكتسب صفة كونها سراب، وأيهما تفضل في تحديد توجه الخاتمة ؟.

ـ إّني أميل إلى النهايات المفتوحة ، لأنّ الموضوعات التي أعالجها ، في الغالب ، ذات نهايات مفتوحة على احتمالات شتّى .. وأحبّ أن أشرِك القارئ ، لا في تخيّل النهايات فحسب ، بل في العزم والتصميم ، على الإسهام في صنع المراحل المقبلة ، من الصراع الذي يدور في الرواية التي تدور أحداثها الحيّة في بلاده .. وتوجيهِ دفّته بالاتجاه الذي يخدم وطنه وأمته .

ولن أسمّي هذا النوع من الأدب ، أدباً تحريضيّاً ، لأنّ كلّ أدب هو أدب تحريضيّ ـ بالضرورة ـ وكلّ نوع من الأدب ، إنّما يحرّض الناس في إطار المدرسة الفكريّة التي ينتمي إليها ، وعبرَ الرؤية الفنيّة التي يراها أنسبَ لتحريضه من غيرها ، ومن خلال منظومة القيَم التي تَحكم سلوكَه وتُوجّهه .