عبد العزيز حمودة:اسمي ارتبط بمحاولة التأصيل لاتجاه نقدي عربي

عبد العزيز حمودة:

اسمي ارتبط بمحاولة التأصيل لاتجاه نقدي عربي

ممدوح سالم

( يرى أن الحداثيين العرب في أفضل حالاتهم ناقلون عن الحداثة الغربية أو مترجمون  لها)

في ثلاثيته: «المرايا المقعرة»، «المرايا المحدبة»، و«الخروج من التيه»، التي صدرت عن سلسلة كتاب عالم المعرفة بالكويت، طرح الناقد الأدبي أستاذ الأدب الإنجليزي الدكتور عبد العزيز حمودة، قضايا شائكة وملتبسة خاصة دعوته إلى تأصيل نظرية نقدية عربية عن استلهام حداثات الغرب، أو كما فهمت بهذا الشكل.

( هنا حوار معه: )

* بماذا تفسر خفوت حركة النقد في عالمنا العربي وعدم ظهور جيل نقدي جديد له رؤية ومعالم محددة؟

ـ على الظاهر تبدو الأمور وكأن هناك حركة نقدية نشيطة، فالكتّاب المترجمون ينتشرون بطول العالم العربي وعرضه يكتبون النقد الحداثي، بل يذهب البعض إلى القول، خاصة في معرض الإجابة عن بعض مقولاتي الأساسية منذ «المرايا المحدبة»، بأننا قد تحولنا من استهلاك الحداثة الغربية إلى إنتاج حداثة عربية، وكان ذلك في معرض مقولتي بأنه لا توجد حداثة عربية ولا حداثيون عرب.

وحينما رفعت في وجهي تلك اللافتة الجديدة تساءلت في تحد، وما زال السؤال قائما حتى اليوم: إذا كان باستطاعة حداثي عربي واحد أن يشير إلى فكر حداثي عربي صميم أفرزته الثقافة العربية ولم تتم استعارته من الثقافة الغربية أو الحداثة الغربية.

على السطح إذا هناك حركة توحي بوجود تيار نقدي عربي، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فالحداثيون العرب في أفضل حالاتهم ناقلون عن الحداثة الغربية وما بعدها أو مترجمون عن نصوصها، وفي أسوأ حالاتهم ناقلون من دون فهم ومن دون إدراك، لما أسميته في «المرايا المقعرة» بـ«الاختلاف الخطر».

إنني في حقيقة الأمر أصبحت أتبنى مقولة تؤكدها الشواهد من حولي، وهي أننا في الوقت الذي بدأنا فيه القرن العشرين بعملية تأثر صحية بالثقافة الغربية في محاولة للخروج من عصر الانحطاط الثقافي العربي، وهي عملية تأثر استمرت على الأقل لجيلين، إلا أننا في الجيل الثالث أو الرابع ارتمينا بالكامل في أحضان الثقافة الغربية. وهكذا بدلا من أن تؤدي حركة التأثر المبكرة إلى ظهور جيل من النقاد والمفكرين العرب القادرين على تطوير نظرية نقدية عربية انتهى بنا القرن العشرون وقد أصبحنا أبعد ما نكون عن تطوير نظرية نقدية عربية، باختصار شديد الأسماء كثيرة والمنشور كثير، لكن المردود العربي في حقيقة الأمر قليل قليل.

* هل ضعف الإبداع أم ضعف النقد يقف وراء تأخر الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي؟

ـ في الحقيقة أنني لم أنشغل كثيرا بالإبداع العربي حتى الآن، لأنني انشغلت بالهم الأكبر وهو ما يسميه الغربيون أنفسهم «بغول النظرية» وأقصد بها نظرية النقد الأدبي، ورغم ذلك استطيع التعميم دون كثير مبالغة بأن ما حدث في ربع القرن الأخير من انبهار واضح بالاتجاهات النقدية الغربية مع غير قليل من احتقار إنجازات العقل العربي أثر سلبا في الحركة الأدبية وبخاصة الشعر.

فقد أصبح الافتنان بالغموض من أجل الغموض وكسر القواعد والخروج على التقاليد الشعرية، سمة من سمات الشعر العربي المعاصر إلى حد ما، وجريا وراء معطيات خاطئة للثقافة الغربية، وربما استطيع أن أزيد هنا أن قصيدة النثر هي إحدى النتائج السلبية لتلك الاتجاهات الحداثية.

* ألا ترى أن قصيدة النثر بهذه التسمية تحمل أضدادا أو قل هي أضداد في ذاتها ومن ثم كيف يتأتى للناقد أن يبحث قضية ذات أضداد في وقت واحد؟

ـ لا بد أن نفرق هنا في الحديث عن المنحى الأخير في الإبداع الشعري بين الشعر الحر وقصيدة النثر، فالشعر الحر جاء تطورا طبيعيا لاتجاهات الشعر العربي، وربما يكون ذلك التطور قد تأخر هنا بالمقارنة مع الشعر في اللغات الأخرى.

ولا نستطيع أن ننسى هنا أن الشعر الحر رغم خروجه على القافية، إلا أنه ظل محتفظا بجوهر الشعرية من موسيقى وخيال وصور، ولا بد أن نذكر هنا القصة التي يعرفها الجميع في ما يتعلق بالمساجلة التي حدثت بين العقاد وعبد المعطي حجازي، حينما اتهم العقاد كتّاب الشعر الحر بأنهم أناس يتجهون إلى الشعر الحر بسبب عجزهم عن إبداع الشعر العربي التقليدي، ويومها كان رد حجازي البليغ هو نشر قصيدة تقليدية التزم فيها بأوزان الشعر التقليدية، ليقول للعقاد إنه لا يقدر على الجديد إلا من هضم القديم وعرفه حق المعرفة.

نحن بالقطع لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن كتّاب قصيدة النثر، لأنها ـ كما قلت أنت ـ جمع بين المضادين، إذ كيف تكون قصيدة ونثر في الوقت نفسه.

* في هذا السياق، هل نعاني برأيك من أزمة المصطلح، لا سيما المصطلح النقدي؟

ـ أزمة المصطلح في الواقع، وهو موضوع الورقة التي قدمتها حديثا في مؤتمر عن الترجمة بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وموضوعها على وجه التحديد «إشكاليات تعريب المصطلح النقدي»، وموضوع الورقة يجيب عن ذلك السؤال بصورة محددة ودقيقة. فأنا أرى أولا أن المشكلة لم تكن أبدا مشكلة المصطلح، بل مشكلة الفكر الذي أفرزه والفكر المستقل له، ولهذا توقفت أولا عند كلمة (اشكالية) التي يستخدمها الحداثيون العرب بمعنى المشكلات المتعلقة بالشيء، بينما «اشكالية» تعني السياقات الفكرية والآيديولوجية التي تحيط بفكرة ما، أو تيار ما. ومن هذا المنطلق تعاملت مع ترجمة المصطلح رافضا مقولة أزمة المصطلح، خاصة أنها تعني في جزء منها اتهاما غير مباشر للغة العربية بالعجز والقصور عن نحت مصطلحات نقدية مقابلة للمصطلحات النقدية الغربية، وكأن المشكلة في جوهرها مشكلة لغوية.

لكن الحقيقة أن المصطلح النقدي الغربي لم ينشأ ولا يوجد داخل فراغ، فالمصطلح النقدي الغربي نشأ داخل فكر فلسفي غربي له ثوابته ومتغيراته المختلفة عن ثوابت ومتغيرات الثقافة العربية، وحينما ينقل ذلك المصطلح من السياقات المعرفية الفلسفية ينقل بالقطع محملا بكل عوالقه المعرفية، مما خلق مشكلة داخل الثقافة الغربية نفسها، أي أن هناك أزمة مصطلح بهذا المعنى داخل الثقافة التي أفرزت الحداثة وما بعد الحداثة الغربيتين.

وما دام الأمر كذلك داخل الثقافة الغربية نفسها، فلا بد أن الأمر سيكون أكثر تعقيدا حينما تنقل تلك المصطلحات من ثقافة كالثقافة الغربية إلى ثقافة أخرى كالثقافة العربية.

* إذاً الأزمة ليست أزمة مصطلح، هل هي أزمة رؤية؟

ـ نعم الأزمة ليست أزمة مصطلح، لكنها أزمة اختلاف، وهذا ما اختار الحداثيون العرب تجاهله لسنوات طويلة محاولين عبر العديد من الندوات والمؤتمرات ترسيخ فكرة أزمة المصطلح لغويا وعجز اللغة العربية عن التعامل مع تلك المصطلحات.

وفي هذا ـ في حقيقة الأمر ـ مورست معنا خديعة واضحة ولا أقول مؤامرة، إذ كلما تحدثنا عن الاختلاف رفعت في وجهنا لافتة العلمية والعالمية، واعتقد أن هذا تزييف واضح للأمور، فليس كل ما هو علمي عالمي.

* ذكرت في كتابك «المرايا المحدبة»، أننا بحاجة إلى حداثة حقيقية تهز الجمود وتدمر التخلف وتحقق الاستنارة فأي حداثة تعني تحديدا؟ ومن أين تولد؟ وكيف تنضج؟

ـ سنبدأ بفترة تاريخية يعرفها الجميع وهو عصر النهضة الأوروبي، هذا العصر عن طريق الفكر الجديد المستنير، عن طريق تبني المنهج العلمي نجح في تحقيق الاستنارة القائمة على هز الجمود، ولا نستطيع أن نوفي عصر النهضة حقه مهما نقول.

لكن حينما تحدثت عن حاجتنا إلى حداثة حقيقية، كنت أعني أولا أن الحداثة الغربية التي نأخذ عنها ومنها ليست حداثتنا، وبالتالي هي حداثة زائفة أو وهمية.

وبمعنى آخر كنت أنبه إلى ضرورة تطوير حداثة عربية تفرزها الثقافة العربية بثوابتها ومتغيراتها. وفي هذا أكرر مرة أخرى أنني لست ضد الحداثة في إطلاقها، لكنني ضد نقل حداثة الآخرين جاهزة وبنتائج نهائية لا تتفق مع السياقات الثقافية العربية.

أما مقولة التنوير فهي إلى جانب أنها ترد على الاتهامات التي أثيرت في وجهي بالرجعية، بل السلفية فإنها تؤكد أننا لا نستطيع تغيير الواقع الجامد والمتخلف للثقافة العربية، إلا عن طريق تطوير حداثة عربية تنجح مقولاتها في تحقيق الاستنارة المتماشية مع ثوابت الثقافة العربية ومتغيراتها.

* سعيت إلى تأصيل اتجاه نقدي يستند إلى مناخ ثقافي بعينة وفكر فلسفي محدد، فما ملامح هذا الاتجاه؟ وهل نجحت في تأصيله حقا؟

ـ سأبدأ بالجزئية الأخيرة، أقول إذا كنا نعني بالملامح الاتجاهات العامة لهذا التيار العربي، فأعتقد أنني نجحت في لفت الأنظار إلى أهمية ذلك، ولا ادعي أكثر من ذلك. والمتابع لما يكتب وكتب حتى الآن عن ثلاثيتي: «المرايا المحدبة» و«المقعرة» و«الخروج من التيه»، يدرك جيدا أن اسمي والحمد لله، قد ارتبط بمحاولة التأصيل لاتجاه نقدي عربي.

أما الجزء الأول، وهو الأهم في رأيي، فدعني أولا أؤكد أنني، وفي «المرايا المقعرة» على وجه التحديد، لم أدع أنني أقدم نظرية نقدية عربية بديلة، فهذا ادعاء أكبر من جهد عقل مفرد أو عقل جيل كامل، وهذا إنجاز لا يقدر عليه إلا جهد جيل أو أجيال. ومما فعلته في «المرايا المقعرة» بصفة أساسية، هو أنني أكدت عن طريق نماذج رائعة ومذهلة من البلاغة العربية في عصرها الذهبي، اننا بسبب انبهارنا بمنجزات العقل الغربي وبسبب خلطنا الواضح بين الرغبة المشروعة في تحديث العقل العربي بعد هزيمة 1967، وبين الحداثة الغربية، مارسنا قطيعة معرفية إرادية مع تراث البلاغة العربية أضيفت إلى قطيعة لاإرادية سابقة مع التراث في عصور الانحطاط.

وخلصت إلى القول بأننا لو لم نمارس مع تراثنا العربي هاتين القطيعتين الإرادية واللاإرادية، لكنا قد كونا اليوم اتجاهين: لغوي ونقدي، لا يقلان تقدمية عن الاتجاهات والتيارات اللغوية والنقدية التي انبهرنا بها في القرن العشرين.

وكنت أتوقف في أحيان كثيرة عند نماذج من بلاغة عبد القاهر الجرجاني والقاضي الجرجاني والباقلاني في ما يشبه الذهول، حيث سبق البلاغيون العرب مقولات انبهرنا بها بغباء في القرن العشرين، وفي مقدمتها مقولات سوسير التي خرج من عباءة فكره الكثير من اتجاهات علم اللغويات والنقد الأدبي في القرن العشرين من دون استثناء يذكر.

* لكن ماذا يعني ذلك؟

ـ معنى ذلك ـ في صراحة شديدة ـ أنني لم اقل على الإطلاق إن البلاغة العربية كانت قد طورت نموذجا نقديا متطورا أو متكاملا، بل قلت فقط إنه كانت لدينا بذور أو خيوط كان يمكن تطويرها في نظرية لغوية وأخرى أدبية متكاملة.

ولم أكن اقصد بذلك على وجه الإطلاق، كما قال بعض المهاجمين لي، إنني أنبش تحت جذور البلاغة العربية، لكنني كنت اقصد أن الإنسان الذي ينفصل عن تراثه إنسان بلا هوية، إنسان يعيش كما قلت ثقافة الشرخ أو ثقافة الانفصام بكل سلبياتها.

* كيف استطعت إبان عملك مستشارا ثقافيا لمصر بأميركا أن تحمل هموم الثقافة العربية مع القدرة على التعامل مع «الحلم الأميركي» من دون انبهار؟

ـ سأجيب عن سؤالك بطريقة غير مباشرة، وهو أنني كمصري وعربي عشت التجربة الأميركية مرتين: مرة في منتصف العشرينات، حيث ذهبت إلى أميركا كطالب علم، ثم ذهبت إلى العالم الجديد بكل الانبهار بالحلم الأميركي بمعطياته باعتبار أن أميركا بلد النجاح السهل.

أما الفترة الثانية، وبعد ربع قرن حينما ذهبت إلى أميركا مستشار مصر الثقافي، كنت أكثر قدرة على التعامل مع الحلم الأميركي من دون انبهار، بل من مسافة نقدية كافية لتحقيق رؤية جديدة مفادها أن أميركا ليست بالضرورة بلد اللبن والعسل، وفي الثانية لم تكن هناك مشكلة لقدرتي على تحقيق التوازن بين هويتي القومية وبين انبهاري بالتجربة الأميركية.