محاورة مع الكاتب والباحث بوراوي عجينة

محاورة مع الكاتب والباحث بوراوي عجينة

من هنا يبدأ مسار القصّة التّونسيّة

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

 لمحة عن موسوعتك القصصيّة التّونسيّة طيلة القرن العشرين ؟

ـ تندرج هذه المدوّنة القصصيّة في إطار جمع مختارات قصصيّة موسّعة لأفضل ما ألّفه كتّاب القصّة من نصوص أدبيّة في تونس وما نشروه بداية من 1904 إلى سنة 2000.هو عمل ضخم جدّا فقد انتقيت من المجلاّت والكتب نصوصا سرديّة قصيرة بلغت 374 نصّا قصصيّا ألّفها 181 كاتبا تونسيّا. أي ما معدّله في كلّ كتاب من كتب الـموسوعة السّتّة: 62 نصّا سرديّا ألّفها 30 كاتبا. قد وثّقتها وأردفتها بملفّات ببليوغرافيّة مفصّلة لكلّ كاتب تتضمّن ترجمة حياته وقائمة مؤلّفاته ومقالاته وقائمة مراجع عن أدبه بالعربيّة والفرنسيّة مع فقرات من أقوال النّقّاد والدّارسين وفقرات ألّفتها بنفسي .

إنّ الهدف في هذه الموسوعة التّعريف الشّامل بأفضل ما حرّره الكتّاب التّونسيّون طيلة قرن كامل من الزّمن وقد وجدت أنّهم يندرجون ضمن عدّة تيّارات بدءًا بالخبر والمقامة والأقصوصة التّسجيليّة وانتهاء إلى الأقصوصة الحديثة جدّا والتّجريبيّة .

ولعلّ اطّلاعي على تفاصيل القصّة وما كتب عنها ومعرفتي بأغلب الكتّاب وغيرتي على ذاكرتنا الأدبيّة من الأسباب التي دفعتني إلى تجشّم مشاق هذا العمل الكبير. وهو موجّه للمتعلّمين والباحثين على حدّ سواء .

 هل عرفت القـصّة التّونسيّـة تطوّرا ؟ ما هي خاصّـيات هذا التّـطوّر ؟ وأين تبرز مظاهر الارتقاء بالشّكل الفنّيّ للقصّة الحديثة ؟

ـ هذا سؤال يحتاج للإجابة عنه إلى عدّة أطروحات. ولعلّ نظرة أفقيّة للعدد الكبير من النّصوص التي اخترتها ولما كتب عنها يظهر أنّ مسار القصّة التّونسيّة مرّ بعدّة مراحل بدءًا بالرّوّاد فالمؤسّسين فالمؤصّلين فالمجدّدين فالمـجـرّبين .

ويبدو أنّ القصّة عرفت بثلاث تيّارات أساسيّة أوّلها التّقليد الذي يكتفي فيه الكاتب بسرد أحداث قريبة من الواقع معتمدا شكلا متوازنا مألوفا فيه تقديم للحدث والشّخصيّات وتتابع أطوار الحبكة القصصيّة والخاتمة. مع حضور الرّاوي حضورا مباشرا ونزعة وعظيّة وإسهاب كبير. وثانيها النّزعة الواقعيّة الاجتماعيّة وتضمّ أغلب الكتّاب ونجد الكاتب فيها يصوّر واقعا فرديّا وواقعا جماعيّا وينتقد ما لا يعجبه من أحوال من أجل الإصلاح ويبني نصّه بناء فيه من التّقليد والتّجديد ما يجعله نصّا مخضرما مزيحا من المحاكاة والتّعديلات والإضافات القليلة. ونجد ثالثا تيّار التّجاوز والكاتب ينطلق فيه من الذّات ليسبر أغوارها ويقدّم رؤيتها الخاصّة للمحيط والحياة والكون ويعتمد أبنية وأساليب حرّة في الكتابة فيها البحث والاجتهاد والرّغبة في تجاوز نما هو مألوف. من ذلك استلهامه التّراث وتوظيفه للعصر الحديث واعتماده أحدث وسائل القصّ العالميّة. وهنا تتقاطع في النّصوص الفنون والمعارف فتُستعمل تقنيات المسرح الجديد وطرق السّينما وخصائص الرّسم ومصطلحات العلوم الصّحيحة وشكل الخبر الصّحفي والنّفس الشّعريّ... إلى غير ذلك من الوسائل التي مكّنت أصحابها من خوض غمار التّجديد الذي لا قالب له ولا مثالولا يعني ذلك أنّ التّيار وحده يحدّد قيمة العمل الأدبيّ وإنّما ينبغي إخضاع الكتابة مهما كان صنفها إلى مناهج النّقد الرّصين وقواعده .

 ما هي أهمّ الأسماء القصصيّة منذ بداية القرن الماضي إلى آخره ؟

ـ تختلف أهمّيّة الأسماء باختلاف الأجيال وعدد المؤلّفات واهتمام النّقّاد واطّراد الحضور في وسائل الإعلام والملتقيات والمختارات القصصيّة والنّصوص المدرسيّة ومعرفة القرّاء بهم سواء في تونس أو في البلاد العربيّة أو في المستوى العالمي .

وقد أفاجئك حين أقول لك إنّه بقدر ما كان حضور الكتّاب في القصّة القصيرة متقلّصا من حيث الكمّ (حوالي 200 كاتبا ألّفوا قرابة 250 مجموعة قصصيّة ولا تتجاوز مؤلّفات أكثرهم عطاء الخمس مجموعات أو الستّ في أفضل الأحوال بينما ترك لنا الكاتب الفرنسي قي دي موباسان Gy DE Maupassant ما يقارب 480 قصّة) نجد أنّ عدّة  نصوص تونسيّة بلغت مستوى جيّدا من حيث اكتمال الرّؤية ونضج فنّيات القصّ.ولعلّ سرد قائمة أسماء دون أخرى يثير حفيظة الكتّاب الذين لا يدرجون فيها ونقاشا وجدلا عن مقاييس الاختيار.. ومهما يكن من أمر فلعلّ ما جمعته من نصوص لكلّ كاتب تراوحت بين نصّ واحد وثلاثة نصوص يعطي فكرة عن تعدّد الأسماء والمؤلّفات ويشير إلى أنّ لكلّ كاتب تونسي سواء في القصّة أو الشّعر بعض نصوص مفردة هامّة جدّا يمكن أن تقف ندّا للندّ جنبا إلى جنب مع نصوص كتّاب كبار عرب وعالميّين أيضا .

ويكفي الكاتب التّقليدي فضل الرّيادة في مسالك كانت بكرا مجهولة، ويكفي الكاتب المخضرم فتحه سبلا وجدها منفرجة قبله فوسّعها وأسّس كتابة حقيقة، ويكفي الكاتب المجدّد خصوصيّاته وإضافاته بعض مظاهر إلى ما سبقه إليه الرّواد والمؤصّلون. إنّ الكتابة القصصيّة حلقات مترابطة متداخلة لا يمكن فصلها بيسر. وتعتبر علي الدّوعاجي أحد أعلام القصّة التّونسيّة المؤسّسين الحقيقيّين، والطّاهر قيقة أديبا مخضرما رمزيّا فصيح اللّغة أنيق العبارة نهل من الحضارات العالميّة الكثير، وعزّ الدّين المدني أحد أهمّ مستلهمي التّراث العربيّ، وسمير العيّادي صاحب نفس شعريّ، وحسن نصر مؤلّف الأقصوصة الجيّدة القريبة من القصيدة، وعبد القادر بن الحاج نصر مصوّر المثقّف المتردّد بين الرّيف والمدينة ومحمود التّونسي مستلهم الرّسم في أدبه، وأحمد ممّو مقتبس العلوم الصحيحة والتّراث ومحمود بلعيد أحد أهمّ من برعوا في رسم فضاء المدينة القديمة والجديدة وعالم الطّفولة.... ويكفي أن نشير إلى بعض المجدّدين في الأشكال والرّؤى: عروسيّة النّالوتي ورضا الكافي وإبراهيم الدّرغوثي وحسونة المصباحي ومحمّد عيسى المؤدّب وفوزيّة العلوي والأزهر الصّحراوي وغيرهم. وما زالت القائمة تطول وتطول .

 يرى بعضهم أن القصّة التّونسيّة تراجعت. هل سبب هذا الرأي وفرة الإنتاج القصصيّ واختلاط الغثّ بالسّمين؟

ـ كلّ من يكتب في أحد الأجناس الأدبيّة أو يدرس بعض مظاهره يزعم أنّه أفضل الأجناس على الإطلاق وأكثرها عطاءً وانفتاحا على الأجناس الأخرى. والحقيقة أنّ نظرة عميقة تبيّن أنّ الأجناس الأدبيّة لا تتنافس بل تتجاور وتتقاطع وتتصارع وتتكامل في النّهاية. صحيح إنّ نهاية القرن العشرين عرفت حركة روائيّة جيّدة وتعدّدت فيها الأصوات القصصيّة والشّعريّة بالعشرات منها الغثّ ومنها السّمين ـ كما ذكرت ـ لكنّ المقارنات بين الأجناس شبيهة بالمقارنات بين المدن ولا طائل يرجى منها. إنّ لكلّ مدينة معالمها وأهلها وخصوصيّتها ومميّزاتها ولكلّ جهة أهلها وتاريخها وتضاريسها ومنتوجاتها وعاداتها وملامحها. قس على ذلك الأجناس الأدبيّة. ونصوص القصّة القصيرة ما فتئت تنشر يوميا وأسبوعيّا ودوريّا في الصّحف والمجلاّت والمجموعات. وأغلب هذه المجموعات تنشر على نفقات أصحابها الأمر الذي جعل الحابل يختلط بالنّابل والجيّد بالمتوسّط والرّفيع بالرّديء. ويحتار القارئ ويتساءل عن السبيل التي سيختار. ترى ما الحلّ؟ لنترك الكتب تنشر وأصحابها يؤمنون بتفوّقهم والقرّاء ينتقون فيخطئون مرّة ويصيبون مرّات والنّقّاد يدرسون. فتلك علامات محمودة في الحياة الثّقافيّة. ثمّ تمرّ السّنوات ونجد التّاريخ ـ تاريخ الأدب ـ يستصفى الجيّد ويبقيه في الذّاكرة الجماعيّة ويهمل الرّديء ويزيحه .

يبدو أنّ يُسر النّشر وتسرّع الكتّاب في إخراج كتبهم الأولى للنّاس وحركة الإعلام الصّحفيّة المتتابعة التي تعرّف بالكتب تعريفات فيها مجاملات في غالب الأحيان. كلّ ذلك قد ضخّم من قيمة بعض الأصوات القصصيّة والشّعريّة أيضا، وهي في الحقيقة أصوات مبتدئة لم يصلب عودها بعد متواضعة لا تستحقّ المكانة العالية المزعومة والنّعوت الرفيعة المبالغ فيها الأمر الذي جعل كثيرا من القرّاء المحتملين يحكمون بتسرّع أنّ الكتب المنشورة جميعا ضعيفة والحقيقة التي لا جدال فيها أنّه كلّ سنة ينشر الجيّد والمتوسّط والرّديء.. فقد يكون صاحب الكتاب معروفا وفي كتابه الجديد تجربة جيّدة وقد يكون صاحب الكتاب صوتا جديدا وفي نصوصه من الجودة ما لم يكن متوقّعا. وقد يكرّر الكاتب المقتدر تجربة قديمة أو يعدّلها قليلا، وقد يكون كتاب أحد المبتدئين مليئا بأخطاء اللّغة رسما ونحوا وصرفا وتركيبا مع ضيق في الرّؤية وتشتّت في الأفكار. وما على القارئ الفطن إلاّ أن يختار ما يريد مطالعته دون أن يقع في فخّ الأحكام المسبقة .

 ما هي المراجع التي اعتمدتها في دراستك القصّة التّونسيّة ؟

ـ الموسوعة القصصيّة ليست دراسة بالمعنى الدّقيق للكلمة وإنّما هي مختارات مرفوقة بعدد كبير من المراجع استعنت بها لاختيار فقرات كتبها دارسون ونّقاد للتّعريف بالكتّاب ودراسة أعمالهم . وهي تعريفات موجزة مركّزة . وقد حرّرت مقدّمة بيّنت فيها أهمّ خصائص مسار القصّة من التّأسيس إلى التّجريب وهي مجودة في الجزء الأوّل من الموسوعة في قرابة 25 صفحة .

وأشير هنا إلى أنّ تاريخ الأدب التّونسيّ لم يُحدّد تحديدا نهائيّا، وإنّما أُلفت فيه مؤلّفات ودراسات قليلة. وهو أدب متجدّد وبالتّالي يحتاج إلى دراسات متتابعة لمتابعته وتقويمه. وتنقسم المراجع التي اعتمدتها إلى شهادات ألّفها الكتّاب بأنفسهم حدّدوا فيها مناهجهم في الكتابة ومقالات نقديّة ظهرت في الصّحف والمجلاّت تعرّف ببعض المؤلّفات وبعض جوانب منها اعتبرت هامّة ، ومؤلّفات وأطروحات جامعيّة قليلة جدّا كتبت بالعربيّة والفرنسيّة والإسبانيّة والإنجليزيّة... وهي أعمال ـ رغم تفرّقها ـ تعطي صورة تقريبيّة عن مسيرة القصّة التّونسيّة . وأكتفي هنا بذكر أهمّها . ومنها مؤلّف عزّ الدّين الأدبي عن الأدب التجريبييّ، وتاريخ الأدب التّونسيّ الحديث والمعاصر وهو مؤلّف جماعي أصدرته بيت الحكمة في بداية التّسعينات، ومؤلّف رضوان الكوني عن نادي القصّة وأعضائه منذ البداية حتّى 1984 ومؤلّفات جان فونتان العديدة المحرّرة بالفرنسيّة أو معرّبة عن مؤلّفات تونسيّة وأعلام تونسيّين وقد بلغت سبعة كتب هي "فهرس تاريخي للمؤلّفات التّونسيّة" و"تاريخ الأدب التّونسيّ" و"كاتبات..." و"نظرات..." و"ملامح..." وأحاديث..." و"دراسات.." ودراسات بكّار الهامّة في "مختارات" و"مقدّمات" وقصصيّات" و"كتّاب من تونس" الذي ترجمه مع الفقيد صالح القرمادي إلى الفرنسيّة ونشر في باريس سنة 1981، ومؤلّفات عمر بن سالم الأربعة الهامّة اثنان في تراجم الكتّاب واثنان منتخبات شعريّة وقصصيّة... وقد نشر الباحثون الجامعيّون في السّنوات الأخيرة مؤلّفات قيّمة عن القصّة التّونسيّة منهم محمّد القاضي ومحمود طرشونة وأحمد السماوي وبوشوشة بن جمعة ونجيب العمامي... فضلا عن دراسات متفرّقة نشرت في مجلاّت تونسيّة وعربيّة، وأطروحات ما زالت مرقونة إن نشرت أعطت صورة أوضح عن أدب القصّة في تونس. أضف إلى ذلك ببليوغرافيات وملفّات ظهرت في الصّحف والمجلاّت، ومراسلات خاصّة بعثها لي الكتّاب أنفسهم .

إنّ مؤلّفات النّقد مهما توفّرت ما زالت متفرّقة ولعلّ فضل الموسوعة في انتقاء أهمّ ما فيها وجمعها في حيّز واحد . والملاحظ أنّ النّقد لم يساير كلّ ما بلغته القصّة من مراحل ولم يقدر أن يتابع الأصوات الجديدة رغم نضجها إلاّ بمقدار.

 ما السّبب أو الأسباب التي جعلت القصّة التّونسيّـة غير مشعّـة بمـا فيه الكـفاية عربـيّـا رغم نضجها ؟

ـ الأسباب يعرفها القاصي والدّاني، والحلول عديدة موضوعيّة وذاتيّة وهيكليّة ، المسألة تكمن في تحديد تلك الحلول وتحيينها وضبط برنامج عملي لها ضمن ملفّات وتنفيذها آجلا أو عاجلا . والأمر عسير فيما يبدو لكنّه ليس مستحيلا . والكاتب يتحمّل بعض المسؤوليّة في كلّ ذلك لكنّ إمكانيّاته المادّيّة محدودة لا تسمح له بالتّعريف بأعماله وطنيّا فضلا عن المستوى العربي والمستوى العالميّ. هناك هياكل أخرى ينبغي أن تساعده على تحقيق ذلك .

نذكر أنّ الكمّ الذي نشر من كتب في القصّة القصيرة في الألفيّة الثّانية في بلادنا قليل نسبيّا لم يبلغ إلاّ خمس ما نشر في سوريا من نصوص قصصيّة مثلا، والحال أنّ مخطوطات تونسيّة عديدة ما زالت قابعة في أدراج أصحابها تنتظر النّشر (وأنا لي مجموعة قصصيّة جاهزة للطّبع منذ نصف سنة مثلا ) . أمّا عادة المطالعة فحدّث ولا حرج، وهي تحتاج إلى تكثيف اللّقاءات بين الكتّاب والقرّاء والتّعريف بالأعمال إعلاميّا وقيام اتّحاد الكتّاب وفروعه بهذه المهمّة ، وإنشاء شركة توزيع قويّة قادرة على وضع الكتاب في رفوف المكتبات الخاصّة ليسهل على القرّاء اقتناؤها باستثناء 3 مكتبات كبرى على الأكثر في العاصمة تعرض فيها الكتب الجديدة . أمّا الكتب التي نشرت منذ خمس سنوات أو أكثر فمنعدمة تماما من السّوق أو تكاد .

إنّ رصد الجوائز أمر طيّب في حدّ ذاته لكنّه لا يمكّن إلاّ من التّعريف بعدد محدود من النّصوص الأدبيّة لا تعقبها عادة حركة ثقافيّة لمتابعة ترويج الكتب الفائزة وغير الفائزة. لنا في تونس في الواقع مواسم معروفة: يظهر الكتاب فتصحبه حملة إعلاميّة تدوم قرابة سنة ثمّ ينسى الكتاب وصاحبه حتّى ينشر كتابا جديدا آخر. وهكذا دواليك .

أمّا وظيفة الوزارة فمحمودة نسبيّا إذ نجدها تدعم الورق بنسبة 75 في المائة للنّاشر لكن الكاتب على نفقته الخاصّة لا يتمتّع بها. وهي تقتني 200 أو 300 أو 400 نسخة من كلّ كتاب جديد محترم حسب ما يتوفّر في الميزانيّة من أموال. هل يمكن أن ينتفع الكاتب بدعم الورق والتّرفيع في نسبة المقتنيات من الكتب كلّما كانت ذات القيمة هامّة لا جدال فيها .

وهل تساهم الهياكل الثّقافيّة من اتّحاد كتّاب واتّحاد ناشرين ودور ثقافة وجمعية الصّحفيّين وجامعات ومراكز ثقافيّة جامعيّة ونواد ثقافيّة منتشرة في البلاد مساهمة عصريّة جيّدة في التّعريف بالكتاب أم هي تقوم بأعمال ظرفيّة محدودة جدّا تقليديّة تجاوزها الزّمن تلقى شفويّا ولا تطبع في مؤلّفات بعد ذلك ؟ وهل يقوم الناشر بحملة إعلاميّة مكثّفة وينظّم لقاءات للتّعريف بمنشوراته الجديدة يستدعي لها الصّحفيّين والقرّاء المحتملين. لا يتمّ ذلك حسب علمي إلاّ نادرا ومن قبل دور نشر قليلة العدد ؟

 لماذا لم تنشر من موسوعتك إلا الجزء الأول والجزء الثاني إلى حد الآن ؟

ـ كلّ من يعلم بوجود هذه الموسوعة من كتّاب وباحثين وطلبة يرحّب بها ويستبشر وينتظر صدورها قريبا، فهي تتكوّن في الحقيقة كما ذكرت آنفا من ستّة أجزاء تشمل أغلب التّيّارات في القصّة القصيرة على امتداد قرن من الزّمن . ويبلغ كلّ جزء من أجزائها الستّة حوالي 750 صفحة من الحجم المتوسّط . وكلّ مؤلّف منها يضمّ خمسة مكوّنات في آن معا : النّصوص السّرديّة وأعمال الكتّاب ومراجع مفصّلة عنهم ومقتطفات من أقوال النّقّاد والدّارسين . إضافة إلى مقدّمة وتعاليق وشروح مفصّلة وتوضيحات أدرجت في الهوامش وقائمة مراجع عامّة في نهاية كلّ .

وهذه الموسوعة نتيجة بحوث واختيارات واستقصاء وتوثيق ومراجعات منذ قرابة سبع سنوات . ولم يكتمل رقنها ومراجعتها النّهائيّة إلاّ منذ وقت قصير . وهي جاهزة للطّبع والنّشر والتّوزيع إن توفّرت الظّروف الملائمة .

المسألة الأساسيّة الآن هي مسألة مادّيّة تجاريّة، فلو كانت الموسوعة في 150 صفحة لتيسّر طبعها نسبيّا، إلاّ أنّها ضخمة، وطبعها مسألة غير هيّنة والنّاشرون مقتنعون بقيمتها ومنهجها ومؤمنون بأنّها تؤرّخ ذاكرتنا الثّقافيّة وتغني عن عشرات المجاميع القصصيّة والقوائم الببليوغرافيّة، ويتهيّبون في الآن نفسه من مقابل طبعها الذي قد يكلّفهم مبالغ ماليّة كبيرة وتجهيزات طباعة متطوّرة وجهودا فضلا عن التّوزيع الذي يضلّ مشكلة قائمة .

التّشريعات موجودة ومحمودة لخدمة النّاشرين من تعويض ثمن الورق بنسبة تقارب الثّلثين، ومن استعداد وزارة الثّقافة والمحافظة على التّراث لشراء مئات من النّسخ المطبوعة بتخفيض مبلغ حوالي 20% من ثمن الكتاب . لكنّ هذا الأمر لا يرضي النّاشرين الرضا الكامل فهم يأملون ـ عن طريق اتّحاد النّاشرين ـ أن ترفّع الوزارة من عدد مقتنياتها من الكتب الجديدة بنسبة أكبر مما هو معمول به الآن خاصّة إذا كانت قيّمة وذات فائدة جماعيّة لتغطية نسبة من التّكاليف، وينتظرون أن تقتني وزارات أخرى تلك التي لها صلات بالثّقافة والتّعليم والشّباب والمطالعة وغيرها أعدادا محترمة من النّسخ . والأمر لا يتعلّق بالموسوعة فقط بل بأصناف أخرى من الكتب .

وقد قمت باتّصالات في هذا الشّأن. ولوحت الآمال قائمة في الأفق فظهرت الموسوعة بجزأيها الأوّل والثّاني بعدما قام اتّحاد الكتّاب التّونسيّين بإنجاز هذا العمل . ولعلّ الموسوعة كانت وستكون حدثا ثقافيّا هامّا فيتعرّف القرّاء والباحثون على كنوز أدبيّة كانت محجوبة عن العيون وتكون أداة تواصل بيننا وبين الشّعوب الأخرى .

فالمصنّف كبير يحتاج إلى شجاعة ومغامرة ماليّة . هذا المصنّف متكامل نافع وممتع يتجاوز الأفراد إلى الجماعات والجهات إلى البلاد والبلاد نفسها إلى رحاب واسعة من الأقطار والأقاليم والجيل الحاضر إلى الأجيال القادمة وسينفع ـ عند ظهوره البلاد والعباد عاجلا وآجلا بإذن اللّه إن قدّر له النشر والتّوزيع .

هذه شجون وهواجس تخصّ الفكر والثّقافة عرضتها من وجه نظر خاصّة. وهي قضايا لا تتعلّق بي شخصيّا بقدر ما تتّصل بجوانب عامّة من حياتنا الثّقافيّة رغبةً في دعم الموجود وأملا في أن يتحقّق المنشود. والتّنمية شاملة أو لا تكون .