عبد السلام العجيلي الرجل المنيف

حوار مع الأديب الطبيب عبد السلام العجيلي[1]

عبد السلام العجيلي الرجل المنيف

ماجد رشيد العويد

( لا تحتاج شخصية مثل الدكتور عبد السلام العجيلي إلى تعريف، فهو الأديب والطبيب والوزير. لم يمش في " الأرض مرحاً "، وكره بدوره " كل مختال فخور "، فتواضع وهو الغني في نفسه وروحه، وكتب في الأدب ما يشرح الصدر ويملأ العقل، فصدّر ما يزيد على أربعة وأربعين كتاباً. تجلس إليه فتحار من تواضعه، وإذا ما ذهبت إلى مقارنته بغيره من العاملين في الحقل الأدبي والسياسي، تجده بزّ أقرانه بطيب أخلاقه. ويدهشك في الآن ذاته أن رجالاً في هذين الحقلين دونه مستوى ودونه عقلاً وفهماً، ما تلبث أن تتطير منهم من شدّة خيلائهم وكِبَرِهم الكاذب.

تألفه ما إن تجلس إليه. عرفت هذا من خلال الحوارات التي أجريتها معه. كنت في كل حوار أجريه معه أمعن النظر في تقاطيعه التي أنبأت عن زمن طويل من البذل بغير منّة. وما أكاد أنجز الحوار حتى تجدني وقد تهيأت لحوار آخر يدفعني إليه تواضعُه، وعدمُ تمنعِهِ.

قرأت كتبه كلها، وبعضها أعدت قراءته مرة واثنتين وثلاث. وفي كل مرة أكتشف سرّاً من أسرار موهبة هذا المبدع الجليل، الذي ارتحل إلى أربعة أرباع الدنيا فزفّ للناس أدباً محمولاً على لغة نهلت من تراثها، وهو الخبير في هذا الحيز، ما أقام به أود الجائع إلى نثر راق. في قناديل إشبيلية وهي من روائعه، ولعلها قلادة أدبه، وجوهرته، لا يكتفي العجيلي بإثارتك كقارئ ولا يكتفي بإدهاشك وأسرك وقطع أنفاسك، وإنما هو يذهب إلى هذا كله فيقدمه لك بلغة تجعلك موصولاً بماضيك فتحب تراثك وتسعى إلى قراءته، وتتمنى النسج على منواله.  

وبرغم أني لم أسمع بنفسي كلمته المؤثرة التي ألقاها في الحفل الذي أقيم في حلب في مطعم الشلال 21 ـ 5 ـ 2005 على خلفية توقيعه كتابه الأخير " جيش الإنقاذ " فإنها تركت، عند قراءتي لها، في جوارحي أثراً، بالغ المرارة. وفي جزء منها يقول ".. وكان هذا الكتاب الذي تلقيت عليه احتجاجاً من صديقتي الأديبة كوليت خوري على كلمة مفادها هذا كتابي الرابع والأربعون، وسيكون النشيد الأخير للبجعة على حدّ قول الفرنسيين. " " .. لكنني أريد أنا أن يكون كتابي هذا النشيد الأخير لهذا الطائر قبل مفارقته الحياة ..". ولعل الرقيّ لا يتخيل الرقة من غير العجيلي، فهو بلا ريب أحدُ أبوابها في التاريخ وإلى التاريخ. ولا أقول الرقة لأعزل تأثيره على باقي المحافظات، وهو الاسم الذي بلغ الأوج من خلال نتاجه الأدبي الذي انطلق من محليته إلى العربية وإلى العالمية بترجمة مؤلفاته إلى ما يزيد على أربع عشرة لغة من اللغات العالمية. إذاً أنا لا أعزل العجيلي ولا أحدده في مدينة صغيرة هي الرقة إلا لأكرم هذه المدينة التي تمكنت من إنجاب قامة شامخة ظلت تعمل في الطب أزيد من ستين سنة إلى جانب الأدب الذي شغل ما فاض من ساعات يومه بعد عناء عمل طبي ليقدم ما ناف على أربعة وأربعين كتاباً.

أطال الله في عمر أديبنا الدكتور عبد السلام العجيلي، ولنضم أصواتنا إلى صوت الأديبة كوليت خوري مطالبين العجيلي بكتابه الخامس والستين بل وأكثر.)

لن أذهب بعيداً في تقديم العجيلي، الذي قدم للمكتبة العربية أكثر من أربعة وأربعين كتاباً. أكتفي بالقول إن هذا الحوار هو الثالث في سلسلة الحوارات التي أقيمها معه، والتي سوف تصدر في كتاب مستقل قريباً.

س 1 ـ لا يجد المتابع اليوم أسماء هامة في القصة القصيرة، كتلك التي قرأنا لها من مثل يوسف إدريس وعبد السلام العجيلي،  على سبيل المثال لا الحصر. هل يعود السبب إلى خيبة هذا الفن المراوغ في الإحاطة بمتطلبات العصر، أم أن العلّة في الذين يكتبون القصة؟

ج1 ـ لا أظن الساحة الأدبية اليوم، بدورياتها الكثيرة التي تنشر أعداداً كبيرة من القصص القصيرة، وبالمجموعات القصصية التي ترفدها بها دور النشر في مختلف البلاد العربية بغزارة، لا أظن هذه الساحة خالية من قصاصين مقتدرين مقاربين في إبداعهم يوسف إدريس وعبد السلام العجيلي أو متفوقين عليهما. وجهلنا بوجود هؤلاء القصاصين أو عدم اشتهار أعمالهم واقع مبعثه عوامل عديدة ليس بينها في ما أحسب ضعف الذين يكتبون القصة أنفسهم.

يمكننا أن نعد غزارة الإنتاج القصصي نفسها في هذا الزمن أحد العوامل المكونة لهذا الواقع. فعلى الرغم من تزايد أبناء الأمة العربية في العدد وانحسار الأمية الأبجدية بعض الشيء بينهم، فإن الأمية الثقافية تظل طاغية عليهم، مما يجعل قراء الأعمال الأدبية نخبة منهم قليلة في عدد أفرادها بين الذين يعدون متعلمين. كانت هذه النخبة في ما مضى تركز قراءاتها على عدد قليل من الدوريات أو على إصدارات قليلة من المجموعات القصصية، فكان المبدع المجيد محط اهتمام القراء المجتمعين على قراءة إبداعه وفائزاً بالشهرة التي يؤهله لها ذلك الإبداع. أما اليوم فإن اهتمام هذه النخبة المحدودة في عددها موزع على الأعداد المتنامية من الدوريات وعلى الكم الهائل من الإصدارات القصصية، ما يتسبب في إبعاد كثير من المبدعين عن ساحة الاهتمام  وفي الجهل بهم، حين لا يتاح التركيز إلا على النادر منهم.

ومن العوامل في تكوين الواقع الذي أشرت إليه أن القصة القصيرة في أدبنا المعاصر كان لها في زمن معين مرحلة مميزة بين الألوان الأدبية، وأنها قاربت أن تتخلى عن مكانتها التي كانت لها في تلك المرحلة. هذه المرحلية في فنون الأدب لا تقتصر على أدبنا وحده. فقد مرّت بها الآداب الغربية قبل ذلك. ففي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كان لإدغار ألان بو وغي دي ماباسان وتشيكوف، بصفتهم كتّاب قصص قصيرة، منزلة لا تقل عن منزلة كبار الروائيين والشعراء في أدب أممهم، ثم ما لبثت القصة القصيرة هناك أن فقدت مكانتها في الإبداع والنشر، أمام ألوان أخرى من الكتابات، ولا سيما أمام الرواية. والأمر عندنا، وإن كان لأسباب أخرى، قد خضع لهذه المرحلية أيضاً. برزت القصة القصيرة وبرز كتابها في العقود الزمنية لمنتصف القرن العشرين لأن الظروف في ذلك الزمن كانت تلجئ المبدعين إلى الاعتماد على الدوريات، المحدودة الصفحات، في نشر أعمالهم الأدبية بشكل مكثف، في قصص قصيرة لا يستطيع فرضها كاتبها على الساحة الأدبية إلا إذا كان محسناً ومتفوقاً في إحسانه. ولكن الحال تغيرت، واتسع مجال النشر في كتب مستقلة تحول بها كتاب القصة إلى روائيين. وكتابة الرواية، على خلاف ما يعتقد الكثيرون، أسهل في المباشرة وفي التفوق فيها من كتابة القصة القصيرة. وهكذا أخذ أدبنا اليوم يبدأ بدخول المرحلة التي دخلتها الآداب الغربية قبلنا، أعني بها مرحلة التباعد عن كتابة القصة القصيرة الجيدة إلى كتابة الرواية الطويلة، جيدة كانت أو غير جيدة.

هذه بعض العوامل لتكوين الواقع الذي ذكرته. ليست كلها بالطبع ولكنها، في ما أعتقده، أهمها.

س2 ـ الرواية العربية، أين تقف اليوم من مثيلاتها في الغرب الأوربي وفي الأمريكتين؟ وهل يمكن أن نشهد لها صعوداً أو هبوطاً أمام غزو وسائل التقانة الحديثة؟

ج2 ـ الأصح أن تسألني أين يقف قراء الرواية العربية من أمثالهم من قراء الروايات في أوروبا وفي الأمريكتين. فحين تتوفر الأجواء المناسبة والقراء المقبلون على قراءة الروايات والذين يحققون ذيوعها فإني لا أشك في إمكانية وجود روائيين متفوقين في إنتاجهم عندنا، لا يسبقهم في سمو الإبداع الروائيون في اللغات الأخرى. ولست أشك أيضاً، حتى في الحالة المزرية لقراءة الرواية عندنا اليوم، في أن ساحاتنا الأدبية لا تخلو من هؤلاء الروائيين المتفوقين. لكن الذي لا يجعل لرواياتهم القيمة نفسها التي للروايات الغربية هو كونها تفتقد القراء الذين يعطونها هذه القيمة بتداولهم إياها وبإقبالهم عليها.

المتعلمون عندنا ليسوا قراء كتاب تحتاج قراءته إلى الانكباب والتركيز عليه لاستيعاب محتواه. إنهم إذا قرأوا فإن قراءتهم تنصب على الدوريات، الخفيفة المواضيع والمتعددة المقاصد. والرواية كتاب ذو مقصد واحد، قلّ أن يحتمل قارءنا الانصراف الطويل إليه. لذلك لا تجد الرواية لها من القراء كثرة تضمن لها جمهوراً يدعو إلى بروزها وتميزها بالقدر الذي تستحقه. وأضرب لك مثالاً على ما أقوله. ففي عام 1991 دعيت مع مجموعة من الكتاب، روائيين في أغلبهم، إلى عمل أدبي جماعي نكتبه حول آثار مدينة البتراء في الأردن. الداعي لنا كان الملحق الثقافي في السفارة الفرنسية في عمان بالاشتراك مع وزارة السياحة الأردنية. كنا ستة كتاب فرنسيين وستة عرباً، وكتب كل منا نصه بلغته. ترجمت النصوص الفرنسية إلى اللغة العربية، كما ترجمت العربية إلى اللغة الفرنسية، وصدر بها كتابان، الفرنسي في باريس والعربي في عمان، بعنوان: البتراء، كلام الحجر. ما أريد قوله للمقارنة بين قراء الكتاب عندهم وعندنا إن الطبعة الأولى من الكتاب في الفرنسية نفدت من الناشر في باريس خلال السنة الأولى، بينما لا تزال نسخ الكتاب العربي مكدسة عند ناشرها في عمان إلى اليوم.

التقانة الحديثة موجودة عندهم بأوفر مما عندنا وبأتقن مما عندنا. ولكن ذلك لم يحل دون ذيوع الرواية المتميزة والإقبال على قراءتها عندهم. ثم إن التقانة الحديثة عندنا، على فقرها النسبي، ليست هي السبب الوحيد في ضعف منزلة الرواية العربية، وإن كانت إحدى المساهمات في الإغراق في هذا الضعف، وكانت مساهمتها هذه تزداد يوماً بعد يوم.

س3 ـ المكان في بعض القصص، " سالي " أنموذجاً، من طبيعتين. فنحن نرى في القصة بيئتين، فمن جهة نجد الطبيعة العربية البدوية من خلال الخيام والمضافة، ومن جهة أخرى تلك البلاد الباردة الثلجية التي انحدرت منها سالي. إلى أي حد يكون البطل صانعاً للمكان في الأدب؟ وإلى أي حد يمكن للأدب إذابة الفوارق الجغرافية في صناعة الإنسان مجرداً من انتماءاته الضيقة؟

ج3 ـ في رجوعي إلى كتاباتي في القصة والرواية أجد أني، وبصورة عفوية، أتحدث في كثير من الأحيان عن قضايا جدلية، دياليكتك، بين طبائع بشرية أو خصائص تاريخية وجغرافية، أو أني أعالج هذه القضايا بشكل جدلي. ذكرياتي وتأثراتي في رحلاتي التي قل أن يجاريني فيها أحد من كتابنا تتيح لي في ميادين معالجة من هذا القبيل أكثر من غيري. ولأني، كما سبق وقلت في إحدى حواراتي الصحفية، أحمل بلدي وأهلي معي أينما توجهت، فلا بد لي أن أجد في أسفاري مثلما أجد في إقاماتي مدعاة للمقارنة أو المقابلة بين ما أنا منه وبين ما يعيش فيه أو ينتسب إليه الآخرون.

هذه المعالجة الجدلية عندي لا أقصرها على جغرافيتين متباعدتين كبلاد السويد الباردة في أقصى الشمال الأوروبي وبادية الجزيرة السورية، كما جاءت في قصتي (سالي)، بل إني أدرت الحديث عليها في إحدى رواياتي، وهي ( المغمورون )  بين منطقتين متقاربتين في بلد واحد هو بلدنا، بين دمشق وقرى حوض الفرات أعني. وفي غير هذه الرواية من أعمالي يتكرر الأمر كثيراً، كما يتكرر في مجالات أخرى غير المجال الجغرافي، كمجال الطبائع البشرية والأحوال النفسية للعديدين من أبطال قصصي. إذن فأنا لا أتقصد صنع مكان للأحداث التي أرويها، ولكن أجواء الأحداث من جغرافية وإنسانية وفكرية هي التي تتكاثف وتدفعني ، وبصورة عفوية كما قلت، إلى المعالجة الدياليكتيكية التي تتظاهر بها أعمالي التي أكتبها.

أما قدرة الأدب على إذابة الفوارق الجغرافية وتجريد الإنسان من انتماءاته الضيقة فهي، إن وجدت هذه القدرة، لا تعود إلى الأدب نفسه بل إلى الأديب الذي ينتجه. هناك أدباء يسعون إلى هذه الإذابة، وآخرون يساهمون في الإبقاء على الفوارق أو يسعون إلى تكثيفها، وعلى كل، أنا لا أجد هذه الإذابة مهمة منوطة بالأدب والأدباء بصورة مباشرة. مهمة الأديب أن يحسن الإشارة إلى مساوئ الانتماءات الضيقة ويدعو إلى التمازج والانسجام بكل موهبته الإبداعية. ومن ناحيتي أعتقد أن كتاباتي حملت دوماً عوامل إيجابية في هذا المجال، لأني فطرت على الإيمان بها فدأبت على العمل لها.

س4 ـ سعيد بطل روايتكم ( أجملهن )، نظرته تفارق نظرة أمثاله من الشخصيات في الروايات العربية عن الغرب. فعلاقة سعيد بسوزان تنهض على شيء إنساني، بعيداً عن أية مرجعية بينما، على سبيل المثال، مصطفى سعيد، بطل ( موسم الهجرة إلى الشمال ) للطيب صالح تكون نظرته إلى الغرب قائمة على مرجعية الرغبة بالانتقام إن صح التعبير. هل يعود هذا إلى أن بطل روايتكم سائح بالدرجة الأولى؟

ج4 ـ ليست الصفة السياحية هي التي جعلت سعيد، بطل روايتي، ينظر إلى بطلتها الغربية  بهذا الشكل. في قصتي ( رصيف العذراء السوداء ) مثلاً وفي قصص غيرها تظل النظرة نفسها عند المقيم الشرقي مثلها عند السائح. الأمر يتعلق بي أنا مؤلف القصص والروايات في نظرتي إلى العلاقة بين بني البشر أياً كان انتماؤهم، كما هي وكما يجب أن تكون. وقد تنبه النقاد إلى اختلاف نظرتي إلى المرأة الغربية في رواياتي عن نظرة الآخرين من الكتاب، ولا سيما في ما ذكره جورج طرابيشي عن كون الإمرأة الغربية لا تبدو مهانة أو متغلباً عليها في ما كتبته كما تبدو في أعمال الكتاب العرب الآخرين الذين عالجوا هذه القضية. ذلك أني لا أنظر إلى العلاقات العاطفية والجسدية بين الرجل والمرأة، سواء كانا غربيين أو شرقيين، ولا سيما إذا انتهت تلك العلاقة بالوصال، على أنها انتصار وغلبة للرجل على المرأة، بل إني أعتبرها علاقة تواصل بين ندين متكافئين في الربح مثلما تكافؤهما في الخسارة، إذا كانت ثمة خسارة.

س5 ـ في ( أجملهن )، تترهبن سوزان في نهاية العمل. كيف يمكن لنا أن نبرر هذه الرهبانية من الناحية الفنية؟

ج5 ـ ليس الأمر غريباً من جانب سوزان. لقد أفصحت عن ارتباطاتها العقائدية لرفيقها منذ أول تعارفهما حين ذكرت له أن أمها كانت تهيؤها لدخول الدير حين رأت اتجاهاتها الدينية في صباها. وفي تجولها مع سعيد في الأديرة والكنائس وفي أعماق المنجم كانت تبادر، في كل مناسبة تستدعي ذلك، إلى الجثو ورسم إشارة الصليب على صدرها، مما يدل على أن سلوكها اليومي كان مطبوعاً بالتدين. لم تنكر أن ارتباطها الجنسي بحبيبها هو علاقة غير مشروعة، وإنما بررته متهيئة للاعتذار عنه حين يحين ذلك. كل هذا يشير إلى أن تحولها من عاشقة لم تتورع عن الارتواء من اللذائذ الجنسية إلى راهبة ملتزمة بالعفة لم يكن أمراً مستبعداً. بل ربما كان هذا الارتواء، حين بلغت منه إلى النهاية، أحد الدوافع إلى تحولها ذاك. قد يكون مبعث اللجوء إلى الرهبنة أحياناً شعور إحباط أو حزن أو يأس سوداوي، ولكن ما من شيء من هذا يبدو على رهبنة الفتاة التي كانت أجملهن. إنها رهبنة سكينة نفسية وتفكير متزن وإيمان صحيح.

س6 ـ ألا ترون أن هناك شبهاً بين شخصيتي ليزا في ( موت الحبيبة ) وبطلة قصة ( الحب في قارورة ) من حيت أنهما امرأتان تسافران إلى خارج مدينتهما، إلى بلد أوربي بقصد العمل، ومن حيث أنهما امرأتان عربيتان تشتركان في نصيب من الجمال، وفي أنهما تنتهيان إلى حب البطل في القصتين؟ هل يعود هذا إلى ما يسميه ماركيز بأن الكاتب " ينوع على فكرة واحدة "

ج6 ـ الكاتب ينوع على فكرة واحدة أحياناً، وليس دائماً. الدائم هو تنويع الكاتب على كائن واحد، هو الإنسان. أما الأفكار التي يثيرها هذا الكائن فهي كثيرة، ولا نكون محقين إذا حصرناها بواحدة.

عن التشابه بين ليزا بطلة قصتي ( موت الحبيبة ) وبطلة قصتي الأخرى ( الحب في قارورة ) التي لم يذكر اسمها في القصة، أقول إن هناك تشابهاً من بعض النواحي واختلافاً كبيراً في نواح أخرى. هما حقاً فتاتان عربيتان، جميلتان، تسافران إلى بلدين أوروبيين وتحب كل منهما بطلها، إلا أن التشابه يقف عند هذه الصفات. إحداهما امرأة أعمال تسافر لعقد صفقات عجين الورق في هلسنكي وأولانكو في فلندا، والثانية رسامة أزياء فنانة تسافر إلى باريس لتجد عند اختصاصي نسائي ما يطمئنها على أنها سترزق بولد يعيضها عن الحب الذي لم تعد تحمله لخطيبها، كي تقدم على الزواج من هذا الخطيب. ثم إن انصراف إحداهما في حبها لبطل قصتها مختلف كل الاختلاف عن تصرف الأخرى، ليزا تقذف بخطيبها، ولو مؤقتاً، إلى وراء ظهرها وتلقي بنفسها بين أحضان البطل. وأما امرأة الأعمال فتدوس على عواطفها، وتفرغ مشاعر حبها المتوقد في رسالة تودعها في قارورة تلقيها في مضيق مسينا، بين صقلية وشبه الجزيرة الإيطالية، في أمل أن يحملها التيار في يوم ما إلى حبيبها البطل.

ليست الفكرة الواحدة إذن هي المكررة في هاتين القصتين بل الكائن الإنساني الواحد، أعني الإمرأة المحبة. وحتى هذه الإمرأة المحبة الواحدة لم تكرر بذاتها في القصتين، بل جرى الحديث في كل منهما عن وجه واحد من وجوهها، وما أكثر تلك الوجوه.

س7 ـ في (  دعوة إلى السفر ) مقال بعنوان " رحلة إلى جوف الأرض "، نجده بتمامه في رواية " أجملهن ". ما تفسير العجيلي لهذا التناص الذاتي؟

ج7 ـ ما ذكرته صحيح، لا أنكره ولا أعتذر عنه. ذكرياتي تظل أحد أجزاء كتاباتي القصصية، وفي بعض الأحيان أهم هذه الأجزاء. من هذه الذكريات ما استخدمها في كتابة مقالٍ أو إلقاء محاضرة، وحين أكتب عملاً قصصياً قد ألجأ إلى استيحاء بعض هذه الذكريات في بناء العمل القصصي. وصف مناجم الملح في " رحلة إلى جوف الأرض " هو نفسه في " أجملهن " ولكنه في المقال وصف جغرافي أما في الرواية فهو وصف لمكان جرى فيه الحدث. وقد كتبت أنا مقال " رحلة إلى جوف الأرض " في عام 1956 بينما كتبت " أجملهن " في عام 2001 . خمس وأربعون سنة بين كتابة العملين، وليس غير الناقد المتتبع، ولا أقول القارئ، من يفطن إلى ما سميته أنت تناصاً ذاتياً. وليس كل ناقد مثلك أنت في تتبعك ونقدك، فكيف بالقارئ المبعد عن النقد؟

س8 ـ في كتاب " في كل واد عصا " و " جيل الدربكة " وبقية كتب المقالات نجد الحكاية العمود الفقري للمقال الذي يكتبه الدكتور العجيلي. ما تفسير العجيلي لهذا الأمر، وهو هنا لا يكتب القصة أو الرواية؟

ج8 ـ هذه إحدى خصائصي الأساسية التي تفرّقني عن كثير من الكتاب الآخرين، إذ لم أقل عنهم كلهم.

وقد أوردت في مناسبات كثيرة تقديري للحكاية في أنها فن العربي الأصيل والمهم، بعد الشعر. قد يكون هذا التقدير أحد دوافعي إلى التزامي بهذا الفن الأدبي، وقد تكون الأصالة الموروثة هي الدافع الأهم. أنا أروي الحكايات في حديثي اليومي وفي مجادلاتي ومناقشاتي مثلما أكتبها في مقالاتي ومحاضراتي، وأتخذها وسيلة للإيضاح والإقناع ولتشويق القارئ أو المحاور لمتابعة سماع ما أقوله أو قراءة ما أكتبه. وقد ساقت هذه الخصيصة بعض النقاد السطحيين إلى اعتبار ما أكتبه في أمور جادة ومهمة مجرد حكايات للتسلية. فقد سمعت مذيعاً في إذاعة لندن يعيب عليّ أني وصفت كتابي " جيل الدربكة " بأنه " آراء في العلم والفكر والسياسة " وهو العنوان الثانوي للكتاب. قال ذلك المذيع ناقداً: إنه مجرد حكايات، لا أثر فيها للعلم والفكر والسياسة. ولم يدر هذا الناقد أن نحواً من عشر مقالات من هذا الكتاب تسببت في منع المجلة التي نشرت فيها من التوزيع لأنها كانت آراء قاسية لم يستطع رقباء الصحافة العربية احتمالها في السياسة بصورة خاصة، وفي العلم والفكر. رواياتي وقصصي ليست، في صلب تكوينها، إلا حكايات ولكنها تختلف عن حكايات المقالات والمحاضرات، بأن الخيال يدخل فيها بنسبة كبيرة، فيما يظل الواقع صاحب النسبة الكبيرة في المقالات.

س9 ـ " حب أول وحب أخير " القصة المنشورة في " البيان " الإماراتية؟ هل نستطيع اعتبارها القصّة الأخيرة التي يكتبها العجيلي، وهل فيها ما يشير إلى العجيلي على اعتبار أن البطل في القصة أديب فيه على ما يبدو منك الكثير؟

ج9 ـ لماذا تريد اعتبار هذه القصة هي آخر ما أكتب؟ أقول لك شيئاً فيه الرد على تساؤلك. كتبت هذه القصة هنا في الرقة منذ عامين. وفي الصيف الفائت كنت في زيارتي العادية لأمريكا فخطر ببالي أن أكتب تتمة لهذه القصة. كتبت هناك فصلين سميتهما " تتمة، والنهاية " بينما أطلقت على القصة المنشورة في البيان اسم " البداية " أصبحت لدي رواية صغيرة، في نحو مائة صفحة. لم أنشر هذه الرواية بعد، وإن كانت ستنشر في يوم ما.

إذن فقد كتبت شيئاً بعد هذه القصة. وقد أكتب بعد ذلك قصصاً أو لا أكتب. أما عن التشابه بين بطل القصة وبيني أنا فهو أمر وارد في هذا العمل مثل وروده في أعمال أخرى كثيرة لي. إنه تشابه جزئي وظاهري في صفات شخصية البطل وليس في سلوكه وتصرفاته والأحداث التي مرّ بها. وسيكون السلوك وتكون التصرفات والأحداث بعيدة عني كل البعد في الفصلين الأخيرين اللذين كتبا ولم ينشرا بعد.

س10 ـ " الحاج " من القصص التي تُذكر بالعجيلي في قصصه القديمة مثل " رصد مقبرة الرومي " من حيث الإدهاش، و" الحب والنفس " أو " سالي " من حيث تلك النفحة الرومانسية برغم أنها كتبت لاحقاً. ألا ترون أنكم في إشارتكم العرضية والتي ترد على لسان الحاج سلمان، من أن ليلى يمكن أن تكون فقدت الذاكرة، أفقد القصة بعض ذلك السحر الذي نراه في بقية القصص؟

ج10 ـ الجواب على سؤالك الأخير هو من شأن القارئ لا من شأني أنا الكاتب. من ناحيتي أجد أن القصة تعيدني، أو أعود بها، إلى طريقتي في قصص أخرى كثيرة كنت كتبتها وتركت فيها المجال لتساؤل القارئ: هل الأمر كذا أو كذا؟ في قصة " قطرات دم " مثلاً : هل هو الدم الذي نقل إلى عروق البطلة هو الذي غير طباعها، أم أنها هواجس نفسية لها هي التي فعلت ذلك؟ في قصة " حمى " هل قتل البطل أخاه حقاً بأن ضاعف جرعة الدواء له أم أنها هلوسة مصاب بالحمى؟ إنه غموض يتدخل في بناء العديد من القصص التي كتبتها، والحاج واحدة منها.

س11 ـ نشهد اليوم تداخلاً بين الأجناس الأدبية، حيث يختلط الشعر بالنثر، وتضيع الملامح ويكثر الغموض. هل مرد هذا إلى طبيعة العربي الانفعالية، أم إلى الأزمات المحيطة به والتي تدفعه دفعاً إلى الشعر يلوذ به فراراً من مواجهة الخطوب؟ إن كان الأمر على هذا النحو فهل من سبيل للخلاص؟

ج11 ـ لا أظن الإجابة على هذه الأسئلة في مكنتي ولا هي من شأني. يجيب عليها علماء النفس أو النقاد الذين يستعينون بعلم النفس في نقدهم. إنه واقع، وأرى أن لا حاجة للتذمر منه  كثيراً. هناك عوامل كثيرة في أجواء العالم المعاصر تدفع الفرد فيه إلى الخروج من السبيل المعتادة في السلوك الأدبي، مثله في كل أنواع السلوك. ويبقى دوماً مكان للمحسن والمجيد في إبداع ما هو جميل ومفيد. ليس العرب الانفعاليون وحدهم الذين يخلطون الصراحة بالغموض في الأدب وفي الفن على أنواعه. انظر إلى تحول الموسيقى العالمية من أشكالها السامية إلى أشكالها الصاخبة، وإلى معاني الأغاني من واضحة ورائعة إلى هابطة ومهلهلة. وانظر إلى قيم السياسة وتطبيق التعاليم الدينية في العالم كله كيف تحول عن المثل العليا إلى مثل دنيا. كان الله في عون العالم كله وفي عون العرب في أوله في هذه الألف الثالثة من ألفيات الزمن.

         

[1] نشر في مجلة البيان الكويتية ـ العدد 409 ـ 2004