حوار مع الدكتور عبدالسلام الهراس

حوار مع الدكتور عبدالسلام الهراس

من ذكرياتي مع مالك بن نبي رحمه الله

  حاوره: د. محمد البنعيادي *

د. عبد السلام الهراس من رجالات الفكر الذين قدر لهم الله أن يعيشوا مع مالك بن نبي في القاهرة وبيروت ودمشق، بل وكان ممن ساهم في طبع ونشر بعض كتبه التي لاقت قبولا واسعا في العالم الاسلامي وخاصة (شروط النهضة) الذي يعتبر عصارة فكر ابن نبي. كان الدكتور الهراس لذلك من أقدر الناس على الحديث عن مالك ابن نبي وتراثه الفكري، لذلك التقينا به وكان لنا معه هذا الحوار:

ما هي الظروف التي ظهر فيها مالك ابن نبي رحمه الله؟

كان مالك بن نبي بفرنسا عندما اندلعت الثورة الجزائرية، وكان يرى أبعد من استقلال المغرب العربي بل إنه خبر بعض قيادات العمل السياسي في هذه الأقطار وهم طلاب، ورأيه فيهم صريح وقاس، وقد تحقق توقعه إلى حد كبير ...صورة نادرة لمالك بن نبي في 1959 في حين كان في البداية يحسن الظن بالثورة المصرية بقيادة محمد نجيب وحتى عبد الناصر، ومع ذلك كان يرى وجوب إنشاء منظمة قوية تجمع آسيا وإفريقيا فألف كتابه:" الأفروآسيوية " على أساس القيم الأخلاقية الإسلامية والبوذية والهندوسية، وقد شعر بالاستعمار الفرنسي يضيق عليه الخناق ويتتبع حركاته وسكناته، وخشي ان يخمد الاستعمار أنفاس أفكاره باغتياله واغتيال كتابه هذا وغيره من مشروعاته الفكرية فقرر الالتجاء إلى مصر وكان يفكر باللجوء إلى الهند .. ونفذ ذلك فعلا ، لكن كتابه المذكور هربه إلى مصر عن طريق السفير الهندي بفرنسا الذي أرسله عبر السفارة الهندية بالقاهرة ..

كانت مصر تعاني حربا طاحنة شنها النظام على " الإخوان المسلمين " وعلى المعارضة، وكانت السجون والمعتقلات غاصة بهم، وظلوا في العذاب إلى عهد السادات وكانت المخابرات هي الحاكمة والآمرة والناهية، وارتفعت أسهم المغنين المشيدين بعبد الناصر حبيب الجماهير و كذلك الأقلام المنافقة التي غشيت دور الصحافة لتحرر المقالات في تمجيد عبد الناصر وأعماله البطولية ومعجزاته الخارقة وإعداده العتيد لإبادة إسرائيل ورميها في البحر والقضاء على النفوذ الأمريكي والتمكين للاشتراكية والتقدمية والإجهاز على " الظلامية " و " الرجعية " وعلى عملاء أمريكا وإسرائيل ، إلى غير ذلك من الشعارات التي لم يتحقق منها شيء ..

ووقع الهجوم الثلاثي: الإنجليزي والفرنسي والإسرائيلي على مصر إثر تأميم عبد الناصر لقناة السويس، فكشف عن عوار مصر وافتقارها إلى أبسط الأسلحة الدفاعية، إلا أن الأناشيد وأغاني فايدة كامل وغيرها كانت هي الأقوى والأعظم والأروج في الأجواء المصرية .

في هذه الظروف الصعبة التي كانت الحرية فيها مقموعة والرأي الآخر مخنوقا وانتشار روح اليأس وسيادة التهريج والخداع والأفكار المُضَلِّلَة والآراء الارتجالية المنافقة، في هذه الظروف ظهر مقال بعنوان " الاستعمار في نفوسنا " بقلم الكاتب الصحفي: إحسان عبد القدوس.

يتحدث فيه الكاتب عن استقباله لكاتب جزائري يتكلم عربية جزائرية ممزوجة باللغة الفرنسية وجرى بينهما حديث كان إحسان فيه منصتا لهذا الجزائري الجديد، يقول إحسان:

"لم أُعِرْ حديث مالك اهتماما أول الأمر غير أن الرجل كان غير ما تصورت فقد بسط أمامي أفكارا جديدة ومثيرة للانتباه والاهتمام لم يسبق لي أن سمعت بمثلها.

وقال: لقد استجمعت عقلي وسمعي لأتابع الأفكار الجديدة لهذا الكاتب الجزائري فإذا به يغوص في الأعماق ويدعني أطفو على السطح ومع ذلك فإني قد أستطيع أن ألخص أفكار الرجل: فهو يرى أن العالم العربي ظل يحارب الاستعمار عشرات السنين لكنه أغفل قابليته هو للاستعمار، كان يجب عليه أن يحارب تلك القابلية التي هي المرض الحقيقي، أما الاستعمار فهو عرض وعلامة لذلك المرض فلن نتخلص من الاستعمار ما لم نتخلص من سببه وهو مرض القابلية له .. وفرق بين الاستعمار والاحتلال، فنحن مستعمرون أما ألمانيا واليابان فمحتلون ..." نشر ذلك في مجلته (روز اليوسف(

قرأت المقال وأعجبت به وانطلقت للبحث عن هذا المفكر الجديد ... وعثرت عليه في بيت الضابط المغربي الذي كان أحد المجاهدين الكبار الذين أسهموا في تأسيس جيوش التحرير في كل من المغرب والجزائر وتونس وهو الكولونيل الهاشمي الطود الذي يعرف أسرارا عن الثورة الجزائرية لا يعرفها الكثيرون ...

أتينا بمالك إلى بيتنا حيث يسكن فيه كل من عمر مسقاوي، وناصر الصالح، وعبد الرحيم طريف، وحسين صالح وأنا، ومن ذلك البيت في الدقي ثم حي المنيل انطلقت أفكار مالك لتملأ الفراغ الكبير الذي خلفه غياب فكر الإخوان الذي كان هو الفكر السائد. والحقيقة أن فكر مالك عزز الفكر الإخواني بأسلوب آخر، ومما أتاح لمالك أن ينشر فكره كونه أصبح مستشارا لأنور السادات رئيس مجلس الأمة في منظمة المؤتمر الإسلامي بالزمالك ...

الجالسون من اليمين إلى اليسار عبد السلام الهراس مالك بن نبي الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي كمال الحناوي مدير وكالة الشرق الأوسط للأخبار عبد الوارث الدسوقي مدير جريدة الشعب.

ما هي أهم المؤثرات في فكره؟؟

أهم المؤثرات: الثقافة الإسلامية التي تلقاها في وسطه ولا سيما جمعية العلماء الجزائريين ووسطه العائلي والاجتماعي. وواضح أنه انطلق من القرآن والحديث كقوله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وأحاديث كثيرة كثيرة كحديث السفينة وحديث الوهن الذي يصيب الأمة الإسلامية الذي يجعل الأمم تتداعى عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها … كما تأثر بابن خلدون، ثم الثقافة الغربية والثقافة الهندية والصينية. ولا سيما طاغور وكونفيتيوس وإقبال وغاندي، وممن تأثر به من الغربيين: توينبي وديكارت وفكتور هيجو

ما هي خلاصة فلسفته في التغيير؟؟

إن بناء الأمة –في نظره - لا يكون إلا على أساس تطهير النفس والكيان من عوامل مرض الوهن وهو القابلية للاستعمار، وذلك بغرس العقيدة الصحيحة المحركة الفعالة التي تبعث على الخشية والتقوى والمراقبة والمحبة والعمل الدؤوب والإتقان والإجادة والتجديد واستخدام أحسن وأنفع الوسائل لنفع الأمة والتفكير من أجلها، وبذلك تصبح جميع العبادات متعاونة هادفة إلى ترقية الأقسام خلقيا ونفسيا واجتماعيا وعلميا وتكنولوجيا … وبذلك تختفي الأعراض المرضية التي ضيعت علينا كثيرا من الوقت والجهد عندما بذلنا كل وسعنا للقضاء عليها دون إدراكنا لجوهر المرض وحقيقته

إن امتزاج الإنسان بترابه ووقته بفضل العقيدة تلك هو الذي ينشئ الثقافة الكفيلة بالتغيير الداخلي فالخارجي … تلك الثقافة التي أساسها الأخلاق الإسلامية والتكنولوجية والمنطلق العلمي والذوق الجمالي.

إن الوصفات العلاجية التي قدمها مالك بن نبي من خلال إنتاجه الغزير ما تزال تحتفظ بقيمتها وحيويتها وما تزال الأمة الإسلامية ولا سيما المغرب العربي و إفريقيا في أمس الحاجة إليها في هذه المرحلة المتدهورة من حياتنا، ذلك التدهور الذي يستنزف أمتنا كل يوم إلى درجة أن مجتمعاتنا قد تفقد مناعتها فقدانا تاما فتنشغل فقط بتخفيف الآلام وتزيين المظهر مع اليقين أننا هالكون ومستبدل بنا غيرنا سنة الله في توارث الحضارات (فإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم(

إن الأمة التي يشغل بالها أن تنهض يجب أن تترجم إلى إرادة وعزم وتنفيذ بناء على مخطط علمي وتقني مدروس يترجم اختيارها الذي استقرت عليه، ولنا في الصين واليابان وألمانيا بعد الحرب، وما ليزيا الإسلامية التي بهرت العام وتركيا في ظل حزب العدالة والتنمية التي أذهلت العالم أيضا بحسن إدارتها واتزان سياستها وبُعد نظرها وقوة حزمها وإحكام منطقها وحسبان خطواتها وطول صبرها ونَفَسِها وعفة أياديها وترَفُّع همتها، فأمامنا إذن أمثلة حية بعزائم التقدم والنهوض وتجارب الإرادة والإدارة مع الأهداف والوسائل لتحقيق الاختيارات وتحويل النظرية إلى واقع معيش وملموس، والآمال إلى حقائق ماثلة ومتنامية تبشر دائما بالظفر والفوز والفلاح.

إن أفكار مدارس الإصلاح الإسلامي ماضيا وحاليا تتكامل فيما بينها وقد أفاد منها مالك بن نبي في مشروعه إفادة كبيرة، فهو بذلك عصارة تلك المدارس والمشكل ليس في صلاحية المشروع، ولكن المشكل في عدم دراسته دراسة علمية وإرادة تطبيقه تطبيقا واعيا وللحرص على أن يكون الإقلاع سليما ومعالم مسيرته واضحة وهادية ناصحة ...

     

* رئيس تحرير صحيفة المحجة المغربية