حوار مع الكاتب القصصي التونسي محمود بلعيد

الكتابة في نهاية الأمر هي سبر لأعماقي ولذاكرتي

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

الحوار مع  الكاتب القصصي محمود بلعيد قد يدخلك إلى فضاء القصة . إلى مكتب الدكتور طبيب الأسنان المجانب لقاعة الفحص . حيث يتجاور الطبيب مع المبدع ويتلازمان . المكتب المنفرد أشبه بغرفة مسرحية تتكون من ثلاث جدران . أما الجدار الرابع فبه نافذة بلورية تطل على الشارع الرئيسي بالعاصمة . الرؤية للمدينة من فوق كفيلة بأن تجعل الكاتب يبني عالمه الافتراضي . ومن هنا تتراءى الأشياء والشخصيات ترسم مشاهد المدينة المدهشة .

ويتحدد حافز الخروج للتواصل مع الشخصيات والعوالم الخارجية ، وتتحول عيادة الدكتور طبيب الأسنان إلى فضاء للقصص بدورها  . فكم من قصة قرأناها قد جرت داخل العيادة وخاصة في مجموعته القصصية الأخيرة " حب من نوع خاص " . أما ديكور الغرفة فهو مكتب مكون من أدراج مقفلة تحكي سر قصص لم تنشر . يفتح الدكتور الأدراج لتبدو ملفات من القصص المخطوطة الشاهدة على فترة الستينات والسبعينات . فهذه أول قصة كتبها محمود بلعيد في فرنسا في 1963 . وهذه قصة تجريبية كتبت في المكتبة الجامعية للكلية بباريس . وقصص عديدة كتب أغلبها بقلم الرصاص على أوراق بهت لونها ، لكن الكتابة مازالت تسرد الحكايات بتوهج . مائة وست وتسعون قصة من رافد الذاكرة لم تنشر بعد ..  وأربع مجاميع قصصية وروايتين ومسرحية " لوز عشاق" مرقونة على الكومبيوتر . وقصة جديدة كتبها في بحر هذا الأسبوع . والزخم الإبداعي مازال متدفقا لكاتب تونسي خلاق نحت بصمته في كتابة القصة التونسية ببراعة لافتة . وذلك من خلال مجموعاته القصصية : «أصداء المدينة»،«عندما تدق الطبول»،«القط جوهر»،«عصافير الجنة»،«شكرا أيها اللص الكريم» و «حب من نوع خاص».

قدم الأستاذ محمد داوود مؤخرا أطروحة ماجستير حول  مجموعتك القصصية " عصافير الجنة " في جامعة صفاقس بإيعاز من الدكتور محمد الباردي وتحت إشراف الأستاذ أحمد السماوي ، كيف تلقيت هذا التفاعل الأكاديمي مع أدبك ؟

لقد تفاعلت مع هذه الدراسة العميقة من أستاذ متمكن خاصة وأنني حين أنهي كتابة مجموعة قصصية وأنشرها أضعها آليا تحت تصرف النقاد . وقد تلقيت هذه الأطروحة بصدر رحب ، وقد تناقشت مع الأستاذ محمد داوود أثناء إنجاز الدراسة ، وتطارحنا الآراء والأفكار النقدية ، صحيح الاختلاف موجود بين المبدع والناقد ، لكنني وجدت في هذه الأطروحة الإضافات التي ألقت الضوء على كتابتي القصصية ، خاصة وأنه قام بمقارنات بين قصصي والقصص التونسية ..

تتوفر في كتاباتك القصصية سمات الرواية مثل الفضاء  وتعدد الأمكنة والأحداث والسجلات اللغوية ، وتعدد زوايا النظر ، ورسم الشخصيات ، فما هو الحد الفاصل بين القصة والرواية سيما وأنك كتبت روايتين ولم تنشرهما بعد  ، ومازلت مواضبا على كتابة القصة القصيرة ؟

االاختلاف بين القصة والرواية هو اختلاف في الطول في رأيي . فالقصص القصيرة بالإمكان أن تكون طويلة وذلك قياسا على قصص لأدباء كبار مثل "ارنست همنغوي" في قصته " الشيخ والبحر" ، وبالإمكان أن تكون مكثفة أيضا .  القصة والرواية كلاهما عمل إبداعي ، يكتسب كل صنف قيمته الفنية ولكنهما يتداخلان كأعمال إبداعية . ولكن هناك سمات عامة بين القصة والرواية ، فأنا حريص في كتاباتي على تعدد السجلات اللغوية لأن المحلية لها قيمة في النص .فأنا ككاتب لست معزولا عن واقعي ومرجعيتي الثقافية . فالكاتب ينطلق من أرض ما من مكان ما ، وإذا انبت عن واقعه كان نصه القصصي خال من الهوية ويفتقد للأصالة . وانطلاقا من هذا التجذر في واقعي  أعتمد اللهجة الدارجة إلى جانب اللغة العربية  . فلا يمكنني أن أجعل أبطال قصصي الشعبيين البسطاء وهم من صميم الشعب يتكلمون بلغة عربية لا تتناسب مع ملامحهم ، سيما وأنهم يتحركون في أماكن وأجواء تونسية صرفة . فليعبروا عن مشاعرهم وعلاقاتهم بتلقائية وبلهجة التونسية . كما أنني أتوخى تعدد زوايا النظر للواقع واعتماد أساليب السخرية والغرابة . لأن الواقع هو مزيج من الصور ولكن انطلاقا من لمسات روحي الخاصة . وبتوخي أنماط الكتابة عبر التعاليق التي تخدم الحوار ، كما أن كسر منطق الواقع بإحداث أجواء من الغرابة نابع من الحكايات العجيبة ومن عوالم الليل الغريبة ، والخلق الفني لا يتحقق دون خيال ، فأنا لا أسجل حدثا اجتماعيا ولكنني أخلقه انطلاقا من التفاصيل ومن الخيال . فكتاباتي تتراوح بين الواقع والفانتازيا . أما تعدد الأمكنة فلأن الفضاء يجب أن يكون مكانا للحدث والشخصيات التي تخترقه وتتحرك فيه . ووصف المكان هو "عين الدار" كما يقال أي الوصف له قيمة بصفته التلقائية ، والاستبطان خاصية الوصف السينمائي  ، فعندما تقرأ لهكتور هيقو ترى الصور تتحرك أمامك ، ولامارتين يتمثل المكان عبر أحاسيسه . فأنا أرى ما يصف هيقو انطلاقا من ذاكرته البصرية بصدق وتلقائية المخيلة ، و أسمع انطلاقا من شخصيات لامارتين وعندما يتكلمون أسجل مستواهم الثقافي . ولكنني أحاول التركيز على الوصف وعلى نقل الملفوظ اللغوي .  لأحدد نمط كل مجموعة من الأبطال .

حضرت المدينة بشكل مكثف وهام في مجاميعك القصصية هل هي تداعيات الذاكرة أم أن بناء الشخصيات ورسم عوالمها الداخلية يؤديان إلى الالتصاق بالبناء المعماري ؟

هل ارتبطت ذاكرة المدينة بتجليات الذات التي عاشت تراكمات شتى ( نفسية ، اجتماعية ، معرفية ، فنية ..) مما صبغها بهذه الحركة التي تتقدم نحو الواقع المكاني ؟؟

في مجموعتيك القصصيتين الأولى " أصداء في المدينة " والثانية " القط جوهر " نلاحظ أن رسمك للشخصيات ينقل عفوية الشخصية لكنها العفوية الفنية المتمكنة المقترنة بالقدرة على التصوير التلقائي ، فكيف يتلازم العفوي والحرفي في كتابة القصة ؟؟

المهم أن يأتي الكاتب بالصور والأشياء ليأتي النص بصفة عفوية وله ذبذبات خاصة وروح خاصة ، وينقل أمورا مميزة في الصميم لتصير تلقائية  ، وذلك مرتبط بالقدرة الفنية والتدقيق في الوصف والتركيز على الشخصيات ، فهم لا يمرون مرور الكرام في ذاكرة القارئ ،  لأنني أعالج شخصياتي من الناحية النفسية و أنتقي كلماتهم . فالإقدام على عمل إبداعي لا يتطلب حركات مجانية .

في "القط جوهر" مثلا تركت القط كشخصية يتصرف تصرف قط ويفكر تفكير قط . وأنا ككاتب كنت أعاين وأرقب وقع الأشياء على حركاته وأعكسها على نفسه وعلى مخيلته ، ليعلق القط على الأشياء في الإطار الذي يعيش فيه هو الأساس .  فالعفوية مقترنة بالحرية المطلقة التي أستشعرها ككاتب وأعكس تلك الحرية على الشخص لأترك له الحرية المطلقة في تعامله مع الناس ،  ليعبر عن حياة كاملة متكاملة . وقد طالب توفيق بكار بمسرحة هذه القصة للأطفال فهي مفيدة وهامة وهي تبرز على الركح .  بالنسبة لقصة "عنتوف في المدينة" المنضوية في مجموعة " القط جوهر" فقد رصدت انتقاله في الفضاء المكاني بكل حرية بعد أن فر من "المرستان" ، ولكننا لمحنا هذا المجنون  يتصرف بمثالية وبطيبة ، هو حنون وطيب وكريم ويتصرف ببراءة الأطفال على خلاف العقلاء . فالانطلاقات حرة لتعبر الشخصية عما يعتمل في أعماقها وتركته يتحرك في المدينة ليلقى دروسا في السخرية من الآخرين انطلاقا من تصرفاته . فالعفوية مرتبطة بدقة الوصف والتركيز على التفاصيل والانطلاقات الحرة في التعامل مع الشخصية بوجهها الظاهر ووجهها الباطن .

في مجموعتيك الأخيرتين عدت إلى المكان كمكون هندسي وكفضاء للقصة ، ولكننا نلاحظ أنك استخدمت المكان في " شكرا أيها اللص الكريم " انطلاقا من كتابة الذاكرة بروح الحاضر ولكن في مجموعتك " حب من نوع خاص " ثمة تجاوز عبر التعلق بالمكان الثابت وشخصيات ملتصقة بأحداث الحاضر ، فما هو الحد الفاصل بين ديناميكية الحدث وثبات المكان ؟

في المجموعة القصصية " شكرا أيها اللص الكريم " وتحديدا في قصة "الوجه الآخر للمدينة" انطلاقا من تفاصيل القصة بإمكان القارئ أن يستشف روح السارد والراوي الحاكي الذي أتى بأبطال وأجواء قديمة وعاد بها إلى الحاضر وتحدث عنها بإطناب وهي تتحرك وتتكلم في فضاء المدينة .  وكان التكلم بفعل الحاضر لأن الحدث وسرده له ثقله ووزنه في حضور النص القصصي .  ولكن في نهاية القصة تعود الأمور إلى نصابها . بخروج حسن بطل القصة من حيرته وعودته إلى الدكان . . العودة إلى الواقع وإلى ذلك المكان عبر عملية الاصطدام بالواقع . فالحيرة التي خلقتها في ذهن حسن وهو يشاهد صور الماضي ويرى بعض الأشخاص الموتى مازالوا يعيشون في فضاء المدينة ولكن بأسماء أخرى مرده التعلق بصور المكان وشخصياته العالقة في الذاكرة ، وعبر حيرة حسن يجد القارئ المفاتيح لفهم النص وماذا يريد الكاتب من وراء هذا النص . ويشارك القارئ في الرؤية .  وهو يسرد قصة استمرار الماضي من خلال الحاضر.

فكل شخصيات المجموعة لها همومها ، وحيرتها الوجودية وهي تلقي أسئلة الموت والحياة ، ولكن من خلال موضوع ما غير منفصم عن تفاصيل الواقع المكاني فالالتصاق هو بالمكان لأنه شاهد على أحداث الذاكرة وشخصياته ، وتلك الأحداث والشخصيات مازالت راسخة في الذاكرة  .  وفي الأثناء أنا أرسم علاقة الشخصية في أجواء المدينة وعلاقتها بالآخرين . لأن الكتابة في نهاية الأمر هي سبر لأعماقي ولذاكرتي ، وبقدرتي على إعادة بث الحياة في صور الذاكرة انطلاقا من قصص تحدث هذه الحيرة في ذهن القارئ وتجعله يلقي بدوره أسئلة المكان .

في مجموعتي القصصية " حب من نوع خاص " تركت المكان كأرضية لرصد العلاقات بين الأفراد وأن أجعل من عوالم الفضاء المكاني مختلفة عن المجموعة السابقة لأن الفضاء المكاني مرتبط بنمط الشخصيات في الحاضر والأحداث المقترنة بزخم الحاضر .  لأجعل كل عالم من عوالم قصصي مختلفا عن الآخر ،  فالمكان نبع متدفق بكل مكوناته والثراء  موجود في الأمكنة. والأبطال الذين يتحركون في هذا المكان يأتون في مرحلة ثانية ، فأنا ككاتب أحيا المكان وأكتب في صلب ذلك المكان حيث الحركية والحيوية . وإطلالة خاطفة من شباك عيادتي التي تنفتح على الشارع الرئيسي بالمدينة تتخلق الأجواء من جديد ، وأثناء تحركي بين مكونات المدينة ومقاهيها كنت أتأمل الصور وأستبطن ملامحها وأحمل تلك المواقف والأحداث ، والحوارات لأحولها إلى إحالات وتعاليق . وكتبت عن مقهى باريس في قصة " قبة وبطحاء " في مجموعتي القصصية الأولى "أصداء في المدينة " وقد أعجب بها الأديب المرحوم البشير خريف بشكل كبير وأعطاني آراءه حولها على أوراق كراس . فالحياة موجودة في المدينة كمكان ، بحركته ، وضجيجه و ديناميكيته . وهذا ما يخلق الثراء . وفي مجموعتي الأخيرة عدت إلى الفضاء المكاني بباريس حين قضيت عطلة الصيف في 2006 . وللمكان ألفته في فرنسا أيضا بما أنني درست بفرنسا وبدأت كتابة القصة هناك وأنا طالب ، وأزوره من حين لآخر . وبذلك فللمكان أهميته في كتابة القصة . والكتابة هي عملية تراكم . فللكاتب حياته وأجواءه والحياة تمر وتتنوع وتتلون بالعصر.

قضايا الموت والانبعاث هي أسئلة وجودية طرحتها بجدية في مجموعتك القصصية " شكرا أيها اللص الكريم" ، هل أن إثارة مثل هذه الأسئلة مرتبط بالتساؤلات الكونية التي يعيشها الإنسان في هذا العصر ؟

بدوري أنا إنسان أعيش في هذا العصر ، والموت أمام أعين كل البشر ونصب أعين أي إنسان يتحرك ويعيش ولكن لكل إنسان طريقة في التعامل مع الموت كنهاية الحياة . أنا أطرق الموت من هذا الباب ، الموت الذي يشعر به الإنسان ويخاف منه . يجب أن نتحاور معه سيما وأن الإنسان يموت ساعات عند النوم ( الانقطاع الجزئي ) ومع ذلك فهو يحلم بالحياة ، لكل ليلة موتة صغيرة فلا يجب أن نخاف الموت أو من تلك القفزة التي تعتبر نقطة تحول ، فثمة دراسات متعددة وضخمة من طرف كتاب وباحثينن في أوروبا تحدثوا عن هذه النقطة . وقد أردت أن أقدم قصتي " سكرات الموت " ومن خلال البطل عامر زبدة ما اطلعت عليه بصدق وتلك القفزة عند الانتقال من الحياة إلى الموت ، فينتقل الإنسان من حياة إلى أخرى .

إذن لم يعد الموت كابوسا بقدر ما هو حلم وانبعاث وتجل ؟

نعم ولقد اعتمدت على نصيب من الهزل ونصيب من الحوار طيلة الحديث عن الموتى وهم داخل القبور ، قرب مقهى فوق الجبل ، وبذلك كسرت طابو الكابوس وانفتاح الموت على العالم لإعطائه الوجه الآخر وخاصة من خلال شخصية عامر التي تحب الهزل والابتسامة على خلاف شخصية حسن في قصة " الوجه الآخر للمدينة " .

هل تبحث هذه القصص  عن الحياة في آخر الأمر ؟

يكمن الكابوس من خلال شخصية غريبة الأطوار ، منكمشة تنتقل في المدينة بمفردها ، تتحاور مع الأموات " حسن " فتكون نهايتها المفاجئة السواد والضباب ، ذلك هو الكابوس الليلي المخيف ، أما في قصة " سكرات الموت " فقد افتتحتها بهذه العبارة " القفزة الأخيرة التي تجعلهم يدخلون دفعة واحدة إلى عالم الأموات " ص ـ 81

الانبعاث من الموت ، ثم السخرية من ذلك الانبعاث ، هل مرد ذلك السخرية من حركة الانبعاث من الماصي وضرورة التركيز على تجليات المرحلة في قصة " الوجه الآخر للمدينة " ؟

الانبعاث كالإبداع بحث مستمر ودائم وإلا تخمد شعلته وتركد وتؤدي غلى العودة إلى الماضي أو سيتحول الموضوع إلى حدث عابر . الشيء الذي له قيمة هو القدرة والملكة الفنية عند الكاتب لتكون معالجته للموضوع والأحداث معالجة فنية وفكرية في آن ، لذلك يمثل الكاتب بالموسيقار والعصفور الذي يأتي بألحان جميلة ، فهو يعزف على الحروف فيأتي بما يريد الحديث عنه ، قصة ، رواية ، شعرا . أريد أن أقول باختصار للصياغة والنص قيمة كبرى .

أفهم من ذلك أن وقع الحروف مرتبط بنبضات الذات وأن هذا العزف المتداعي من المدينة ، الغموض ، أسئلة الموت والحياة ، الأشخاص الذين يعيشون في الذاكرة لكنهم يسخرون من وعي الإنسان الزائف ، فهل هي محاولة لتنسيق جوانب الإنسان المبعثرة ؟

نفس الإنسان دائما مبعثرة ، مشتتة ، في أخذ ورد دائمين مادامت الحياة . الكاتب يأخذ بعض الجوانب للإضاءة وإعطائها أبعادها وجماليتها بتسلسل منطقي فني ، الكاتب عندما يكتب تكون كتاباته كوقفات لسبر أعماقه ، الحياة تسرع وتتغير مع مرور الأيام ، والكاتب يجتهد ويتسم بالعطاء الفني ليأتي بعمل له قيمة على خلاف الحياة والزمن . فالحياتاة تمر وتنسى مع الأيام وتطوى ويبقى العمل الفني إن كانت له قيمة .

فكم من مدن انتهت وطوتها الأعوام والسنون ولم تبق إلا الآثار المكتوبة وذلك له قيمة . أتعرفين أن المبدع الأول هو الله ، ما نكتبه لا يساوي نقطة واحدة من إبداعه وخلقه ولكن السؤال الهام : ماذا بقي من الآثار الإبداعية لذاكرة المدينة العربية والناس من قبل ، فقد عاشوا إرهاصات وتمخضات وعوامل لا نعرفها لأنها لم تنحت فنيا فلم نستحضر ملامحها رغم وجود الموهبة لدى من سبقونا نظرا لغياب القصة في عالمنا العربي باستثناء بخلاء" الجاحظ" و"الف ليلة وليلة" فرغم اعتمادها على الخرافة والخيال فنجد بها الأحياء والأسواق . القصة كأنموذج فني مستوردة ومتأتية من الغرب أحببنا أم كرهنا ويكفي أن نعود لكتب الواقعية الفرنسية في القرن التاسع عشر على غرار بلزاك وزولا لنتعرف على تصاميم المدن في باريس والأرياف ، الديار والنزل والناس إذ نعيش معهم ونراهم كيف يعيشون بل كيف عاشوا في هذه الدنيا أكاد أقول رأي العين .

ولكنك كنت قد تخلصت من  الفضاء المكاني في مجموعتك القصصية " عندما تدق الطبول " ؟

لا يسلك الكاتب طريقا واحدا في كتابة القصة ، أو طريقة معروفة يكرس من خلالها نفسه فعليه أن يسلك اتجاهات كثيرة ليفرز ذلك الثراء في المجموعات القصصية ، ويجد مشاربا مختلفة وأجواء مختلفة . وليجد القارئ المتعة حين تكون القصص مختلفة وحين يتحكم الكاتب في أفكاره ، ويتحكم في الإبداع ليكون حرا ويستشف منه القارئ تفاعله مع العمل الإبداعي من مجموعة قصصية إلى أخرى .

من خصوصيات القصة عند محمود بلعيد أن هناك رجات قوية تهز القارئ ، هل هو اختيار مقصود ؟

بالطبع ، إذا خلت الرجة تغيب القصة ، فالرجة أشبه بالتيار القوي ، والتساؤلات هي ردات مزعزعة والقصة بذاتها تكون مكتنزة لتكون نهايتها قوية ويخرج القارئ بصورة معاكسة للبداية ، فلا يخرج كما دخل .

في هذا الإطار أذكر قصة " شجرة التوت " الصادرة في مجلة "قصص" في العدد 15 فالفتاة كانت تتعرض للضرب من قبل خالتها عند جمع التوت لتنتهي القصة بحركة معاكسة حين تعنف الفتاة خالتها بأكثر ضراوة وتجلسها مكانها ؟

الحياة مليئة بالعنف وهناك مقولة فرنسية تقول إن الأحاسيس الطيبة جدا لا تعطي أدبا رائعا . فالأدب يجب أن يكون صارما وشديدا ليأتي بأشياء كما يجب أن تكون دون در العطف بكثرة . فالتعاطف يخل بالموضوع ، ولكن هناك شخصيات تبنى على المحبة فلكل مقام مقال والثورة على الأوضاع لا يجب أن تغيب بل حاضرة دائما .

إذن أنت وفي للفكرة التي تبنى عليها القصة ، فنحن ندرك في نهاية المطاف أن العنف يولد العنف ؟

الوفاء للفكرة خروج عن الصور المألوفة . القص ليس بعمل اخلاقي أو تعاطفي لأن في ذلك إساءة للأدب والإبداع وأنا حريص على أن أكون أمينا وصادقا مع أبطالي .

ممن خلال مداخلاتك في نادي القصة لا حظت أنك تمسك بعصب القص من خلال إثارة وقائع حقيقية رسخت في ذاكرتك لإعطائها أبعادها الفنية ، إلى أي مدى ترجمت قصصك هذه الوقائع ؟

إنه الفن الواقعي وعلى سبيل المثال ذلك الشيخ الذي كان يعنف زوجته كل ليلة في قصة "دو" وكانت تحكي عن معاناتها مبرزة آثار العنف التي تبدو على كامل جسدها . لم أقدم العمل كما هو في الواقع بصورة مبتذلة بل عالجت الشدة والقسوة بصورة مثيرة وذلك هو " القص الواقعي " ففي القصة كان الشيخ يعنف زوجته يوميا وكان مغربيا يعمل حارسا بمستودع السيارات وفي اليوم الأخير من حياته استطاعت زوجته أن تقص عليه كل أفعاله ليلة موته . ما قامت به المرأة خرج من أعماقها كتصفية حساب ، من جهتي أردت أن أعكس معاناة المرأة في زمن تأتي فيه مواقف كهذه فأنا ميال للأخذ بيد المرأة والوقوف بجانبها لتأخذ حقها .

وما هو الحد الفاصل بين الكاتب والشخصيات ؟

على الكاتب أن يحترم البطل إذا أراد سرد قصته ، فالتعليق يضر بالقصة فليترك للأبطال حرية التعبير عما بأنفسهم كي لا تقع عملية ذبذبة أو كسر البطل وجعله يتكلم بلغة أخرى وبلسان آخر فينقلب ويتغير ويذوب وذلك مضر بالقصة ، فهنالك شخصيات في قصص وروايات صادرة تنتهي بلسان الكاتب وهو يتحدث بمفرده وقد تلاشت الشخصيات واضمحلت وغابت خصوصياتها ..