حوار مع الشاعر الأردني جريس سماوي

حاورته : هيام الفرشيشي

[email protected]

الصمت يرفع المعنى إلى مستوى القداسة

جريس سماوي الشاعر الأردني المعروف هومدير عام مهرجان جرش السابق للثقافة والفنون وأمين عام وزارة الثقافة في المملكة الأردنية الهاشمية حاليا. درس جريس سماوي الأدب الانجليزي والفلسفة وفنون الاتصالات في أمريكا ، حيث دامت إقامته هناك 12 سنة ، ثم عاد للاستقرار في الأردن . فعمل في البداية بالتلفزة الأردنية كمعد ومقدم لبرامج ثقافية وفنية وسياسية . وهو ناقد وله بصمات في قطاعي الترجمة والصحافة . كما عمل بإذاعة "مونتي كارلو" ، ونشر كتاباته في عدد من الصحف والمجلات العربية وترجمت بعض قصائده إلى الأنجليزية والإيطالية والفرنسية .

وهذا الحوار مناسبة للتواصل معه حول مساره الإبداعي في علاقته الحارقة بسؤال الشعر الراهن ، وحول ديوانه الشعري " زلة أخرى للحكمة " .

هجرتك إلى أمريكا ومدى تأثيرها على مسارك الشعري ؟

الهجرة وتحديدا إلى الولايات المتحدة الأمريكية نقلتني في سفر ثقافي وإبداعي . ذلك أنني استطعت أن أمس الكثير من الثقافات المختلفة في مدينة مثل نيويورك إذ اكتشفت الثقافة السكسونية والثقافة الهندية واليابانية والإغريقية . فالثقافات مجتمعة في هذه المدينة الضخمة وكل هذا يحمل معه نمط حياة  وهذا يشكل إثراء لمن يطل على هذا المشهد . على المستوى الدراسي استطعت أن أسافر من خيمة الشعر العربي التي ضمت أصدقاء قدامى كامرئ القيس وطرفة بالعبد والمتنبي وشعراء العصور الإسلامية المختلفة ، لأنتقل في هذا السفر إلى مساحة أخرى في الشعر أطل من خلالها على الشاعر الأنجليزي الأمريكي " اليوت " والشاعر " عزرا باوند " وعلى الكثير من الشعراء الفرنسيين مثل " أراغون " والشاعر الاسباني " لوركا " ، واستمر هذا السفر لأطل أيضا على مسارات الشعر الإغريقي ، الأمريكي والشعر  " الأسود " ، ومن ثمة على شعراء عالميين آخرين استطاعت مكتبات وأروقة ومؤسسات مدينة عريقة مثل نيويورك أن تستقبل نتاجهم وتترجمه وتقدمه لمغامر مسافر حالم مثلي . فهناك تجريب عال ومساحة عالية من الحرية غير المحدودة للمبدع وللإنسان عموما . وثمة مغامرات فنية خطيرة وأيضا لقاءات صاخبة لتجارب فنية قادمة من مختلف بلدان العالم تفرز مناخا عربيا لافتا للانتباه ومحفزا على الإبداع . إنها كتلة ملتهبة من الحراك الثقافي إلى جانب فناني الأرصفة ، المتسكعين بآلاتهم الموسيقية على الأرصفة وفي الشوارع .. في هذا الإطار أستحضر قولة ل " شتاين باك " : " إنها مدينة المتناقضات ، الفضيلة إلى جانب الرذيلة والخير إلى جانب الشر "..

فلنعد إلى بداياتك الشعرية في الأردن قبل السفر إلى أمريكا : الأردن وما تحيل إليه من مشاهد حول بيئة البادية ومن عمق ثقافي لا يخلو من أصالة وخصوصية . كيف حضرت هذه المشاهد الطبيعية في بانوراماك الشعرية ؟

دعيني أعترض أولا عن تصور خاطئ حول الأردن ، فالأردن ليس بيئة بادية رغم أن الإعلام والمنتج الأردني قد رسخ هذا المفهوم ، ذلك أن الأردن اجتماعيا وثقافيا هي جزء من بلاد الشام والفلكلور هو مزيج من المنتج الفلاحي الزراعي وهو الطاغي و المنتج الرعوي البدوي . هذان المنتجان مسيطران على مجمل بلاد الشام ولكن بحضور طاغ لمنتج زراعي وبحضور أقل للمنتج المدني . وعودة إلى الحالة الأردنية ، لم يكن ثمة منتج مدني قبل استقلال الدولة فالمنتج الذي سيطر هو الفلاح ، فالأردن بلد فلاحين مزارعين وليست بادية . وإجابة على سؤالك أنا قادم من خلفية زراعية ، من منطقة مليئة بكروم العنب والزيتون وعائلتي هي أول منتج للخمور المعتقة من العنب إضافة إلى أن أهل المنطقة يبيعون الخمور في القدس كأقرب مكان كنت أطل منه عليه من منزلنا . وقد تجلى تأثير ثقافة البادية على شعري إذ كنت على تماس مع أشخاص من أصول بدوية ، فقد كان والدي رحمه الله ضليعا جدا بما يسمى الشعر النبطي المحكى والمغنى على الربابة . فالمنتج الرعوي البدوي زحف على المناطق الزراعية بجمال الفن الذي فيه ، كذلك حضور رقصة الدبكة فثمة تأثير رائع للبادية خصوصا وأنه كان ثمة خزان بشري في المناطق وفي الصحراء العربية والجزيرة العربية ، كانت تخرج في هجرات لبلاد الشام ، فالتماس كان عفويا دائما مع البادية وذلك ما تجلى في قصيدتي " رحلوا إلى الماضي بدوني " . هؤلاء هم الأهل الضاربون في عمق التاريخ قد رحلوا في سفر معاكس .

 قلت في إحدى قصائدك : إن روحي روح فلاح خفي يهتدي بالنجم .. ما هي ظلال الصور في شعرك ومدى كثافتها وايحاءها ؟

السؤال مهم لأنه يتعلق بصلب كتاباتي الشعرية ولأنني أهتم اهتماما عاليا بالتشكيل البصري في النص وببناء الصورة فيه . فبناء النص عالم مبنيا بناء واضحا وليس غامضا ومبهما . هناك وضوح في الصورة على عكس الشعر الذي يميل إلى الفنتازيا الغموض مضاء بمفاتيح تبنى حسب القصيدة وهي الصورالمركبة في مجمل النص . وقد أثرت التجربة الإنسانية بكافة التفاصيل المشهدية على هذا التكنيك .

 أتساءل أيضا عن المزاوجة بين الجانب النفسي والجانب الحسي في أشعارك ؟

الكتابة لدي تأتي من مصدرين : مصدر اللاوعي ومصدر الوعي . في اللاوعي تنصهر كافة التجارب والخبرات والمعلومات وكل ما ينقل عن الحواس ويتشكل غي غفلة منا ولكنه يساهم مساهمة فاعلة في حركتنا وخصوصا في الإبداع ، ولذلك عندما تبدأ القصيدة في التفتح داخلي كما تتفتح الوردة دون استئذان ودون سابق إنذار حيث تفاجئك اللحظة القادمة من عوالم اللاوعي ، أنصاع في أغلب الأحيان إليها وأكتب , بعض الشعراء انساقوا انسياقا كاملا وراء الهاجس اللاواعي ولديهم تنظير وطروحات في هذا الأمر ، لكن أنا أميل إلى المدرسة الأخرى . فما يقدمه اللاوعي لي أقدمه إلى مساحة الوعي ، أهندسه ، أرتبه ، أقص منه الزوائد . فالاشتغال على النص كالاشتغال على الجوهرة الخام القادمة من المنجم .

وماذا تعني لك عبارة الخلق الشعري ؟

بعد فترة صمت ...

الخلق الشعري محير ، بناء عالم أو عوالم محسوسة.. هناك وسيط لهذا البناء . فكما يبني المعماري بالحجر والطوب والاسمنت ، وكما يشتغل الفنان التشكيلي على القماش والألوان ، يبني الشاعر الشعر في الهواء ، في الكلمات ، بالحبر على فضاء الصفحة .. عالم محير وفنتازي وغريب وأحيانا نشعر أنه هباء ، لا جدوى منه . ثم ينتابنا شعور آخر بأهمية الكلمة وبفعلها الساخر من اليقين . أحيانا نلمس هذا العالم الذي نقوده بالكلمات والأصوات ونراه حلما كبيرا متحققا على الورقة ، وأحيانا نشعر بالسدى والعبث . أتساءل أحيانا : هل أستمر في هذا اللعب الكوني وما الفائدة ؟ خصوصا ونحن في العالم العربي الآن نعاني من فقدان الثقة بالكلام ومن الطروحات النظرية وهذا يوجع المشتغل بالخلق الشعري : الوجدان والضمير والعقل . فبعد كل هذه المعاناة وهذا الترف يرى الشاعر أن ثمة فقدان الثقة بالكلمة . وهذه الحالة ليس مسؤولا عليها المتلقي لأن بعض السياسيين العرب والمنظرين لهم من مثقفي السلطات شوهوا الكلمة وأفقدوها مصداقيتها .

كيف يتحول الواقع الحسي إلى شكل شعري يحمل بين طياته المعنى وارهاصات النفس ؟ وما هي البواعث التي عكست تجربتك الشعرية في البداية ؟

في بدايات التفتح الأولى تتلمذت على الشعري الجاهلي والمهجري لذلك ثمة مراوحة بين التراثي والحداثي ، إضافة إلى الموروث الكنسي المتمثل في شعر الترانيم والتراتيل والموسيقى الكنسية والاهتمام بلغة القرآن الكريم والانجيل .

اشتغالك على اللغة هل هو هاجس آني أم متواصل ؟

الاشتغال على اللغة هاجس متواصل . فاللغة شيء مقدس جميل فاتن ، تخيلي أن يكتشف مبدع للوهلة الأولى أن الكلمات لديه تصبح كالطوب الذي يبني به ويستطيع أن يبني بيتا ، مدينة ، قرية ، قلعة ، أشخاصا ، شيئا مبهرا يثير الدهشة . الكلام شيء فاتن وفن على درجة عالية من الإبداع .

هل للكلمة أو المفردة أهمية في إنشاء العبارة ؟

السؤال جميل لأنه يدخل في صلب تجربتي . أنا دائما أنتقي اللفظ انتقاء وأقصد معناه أرغب في أن لا يكون لفظا غائما أو غير مفهوم . أنا أؤمن بعملية بناء اللغة . والمفردات كلمات تسوق المعنى إلى جسد القصيدة ، وهذا الأمر يبتعد عن التقريرية . فالتقرير هو أن يكون هناك عبارة مقررة وبها أفكار مسبقة وهذا لا تحتمله العبارة . فعندما تقرر فهذا يضر بالشعرية في القصيدة . اللفظة المفردة واضحة ذات معنى واضح . وحين أبني العبارة أو الصورة فإني أقوم ببناء غرائبي .

ايقاع الكلمة مقترن بتدافع الحروف الضاجة بواقع نفسي معين ، إلى أي مدى يسكب الجانب النفسي حيوية الحركة ؟

لدي اهتمام بالموسيقى الداخلية والخارجية لذلك ثمة مناخ للمفردات يمزج بين الموسيقى والانسجام اللغوي . الهاجس اللساني أو الصوتي يستجيب للمناخ النفسي استجابة فنية . أصوات غاضبة تصور حالة غاضبة من خلال القرع . أصوات حزينة هادئة عبر انثيال الأصوات إذ تتهادى الكلمات تهاديا ناعما بالتأكيد ينسجم التركيب الصوتي مع بنائية القصيدة ومناخها النفسي كما أن اختيار البحر العروضي في اللاوعي جزء من هذا الانسياق بين الحالة الشعورية والانتظام الشكلي الذي يضم هذه الحالة . الشعر في الأساس كما هو في المتخيل أصلا صعب أن ينقل الحالة كاملة وإن كان هذا الوسيط لغة . فاللغة عاجزة تحاول أن تقترب من المعنى ولكن لا تقربه تماما وأبلغ ما ينقل الحالة الشعورية هو الصمت الذي يرفع المعنى إلى مصاف الصوفية والقداسة . من هنا وعلى عكس الصمت فالثرثرة تفسد المعانى وتفسد الإنسان وتقوده إلى الصخب كعداء للشعر . لذلك فأنا في النص أحاول أن أختزل قدر الإمكان وأن أصل إلى أقصى المعنى بأقل طرق الكلام ، فيصبح للفظ أبهة وسحر وأنا لا أنقل الكلمة المبتذلة لأن التداول لها يقلل من قيمة الكلمة .

نحت المعنى من خلال اختيار الكلمات المكثفة ألا يؤدي إلى الانحراف عن المعنى ؟

الأمر يتعلق بتجربة الشاعر ومغامراته الشعرية وبقلقه وتعبيره عن هذا القلق . التكثيف لدي يخدم الشعرية ويقف في عداء في مواجهة النثرية والتقريرية والخطابة المباشرة .

كيف تنأى الأفكار في شعرك عن التقريرية المباشرة والمشاهد الواقعية ؟

أنا أبتعد عن المباشرة وتقرير الأفكار وأعطي للقارئ مساحة الحرية لكي يكتشف النص ويقيم تصالحا نفسيا معه ، أنا في الواقع أدخل القصيدة حائرا وأدخل القارئ إلى حيرتي لكي نتلمس معا يقينا ما وقد لا نصل إليه .

كثيرا ما تنفذ الفكرة في صورة شعرية وذلك مرتبط بتعامل الشاعر مع الواقع الخارجي . فكيف تحسم ازدواجية العلاقة بين الواقع الخارجي والواقع التصويري ؟

أريد أن أقفز من هذا السؤال إلى ما يؤرقني . عندما نقرأ المورث الشعري العربي نجد أنه يقوم على الخطابة وعلى الفكرة . لا أنفي وجود الصورة في التراكيب العربية لكن المنجز الشعري انزاح بعد العصر الأندلسي حتى عصر النهضة الحديث إلى مساحات الفكرة المقررة والخطابة المسموعة . بينما كنا نصغي في نصوص العباسين والجاهليين إلى همس الشاعر وهو يقترب من حبيبته أو من رحلة نحو المجهول ، وما بين هاتين الحالتين ، وما بين الهمس الملون بالشعرية وما بين الخطابة التي يحييها عسكر الخليفة في الحروب فرش الشاعر عباءته . أنا أميل إلى تحويل الواقع الحسي الملموس إلى جدل داخلي وإلى تساؤل وقلق لأنه لا يوجد في الكون من يملك الحقيقة ليقولها . الشعر يفتح بابا للسؤال ويقودنا إلى أروقة الروح في بناء من الصور والخيالات والأشكال والألوان جميل جدا لكنه لا يعطينا الإجابة كاملة .

كيف يستحيل الواقع الشعري إلى واقع مبذول ؟

الشاعر لا ينقل الواقع فوتوغرافيا ، تسجيليا بل ينقل الواقع كما يراه وكما يدخل هذا الواقع في لا وعي الشاعر . نحن ننظر إلى أي صورة حسية بعيون مختلفة . كل فاعل يتعامل مع الموجودات تعاملا مختلفا سواء بالحواس أو بالفعل . الصورة تدخل في تجرية الشاعر الوجدانية وتمس قلق الإبداعي وتتزين بأسئلته ويقدمها الشاعر لقرائه ومتلقيه على هذا النحو .

كيف تخفي صنعتك وتحقق المعنى ؟

سؤال مهم ، كيف أحاول أن أفعل ذلك ؟ ما يهمني في الكتابة هو ما يخرج لدي من اللاوعي ويتشكل ذلك التشكل التلقائي الإنساني بلا اصطناع ، ثم أبدأ بالاشتغال على النص ، لكني أحاول جاهدا الابتعاد عن التكلف وإذا شعرت أن هذه الصنعة ستفسد الحالة الشعورية البكر أتراجع .

هل تستجلي رؤياك الشعرية الخالصة غير المدنسة ؟

أحيانا نعم ، بل في أحيان كثيرة ، في حالات كالحب والألم وفي حالات أخرى مثل التأمل والاستبطان الداخلي والسفر إلى الذات يؤدي إلى هذا الصعود إلى تخوم المعنى .

كيف نجى الشاعر جريس سماوي من أصوات الشعراء الكبار ؟

في تجربتي الخاصة كان لدي هاجس مسيطر وهو أن أنجو بصوتي الشعري من تأثير أصوات كبار الشعراء ، وأن يكون لي صوتي الخاص ، وأسلوبي الخاص . فالقصيدة هوية لي على صعوبة هذه المهمة ، لذلك دخلت في كثير من الأحيان طقس التجريب في اللغة والوزن . واستطعت أن أهندس قصيدتي وأبنيها بناء خاصا بي ، بالتكثيف العالي وبالاختزال . أنا مهتم بالموسيقى وببنائية الصور بناء يثير المخيلة ويحفز المتلقي على المشاركة في النص من خلال أفق لديه وإقامة علاقة مشتركة مع المتخيل الذهني لدى المتلقي .

ما مدى حضور الرمز في تجربتك الشعرية ؟ وكيف ينفذ الرمز إلى المعنى ؟

الرمز المفرد ليس هاما لدي كما هو في تجربة شعراء الحداثة الذين اعتمدوا الرمز الاغريقي ، العربي القديم واليوناني والفرعوني . في نصي أحاول أن أقيم طقسا كاملا يحيل المتلقي إلى حالات تاريخية سابقة دون ذكر الرمز إلا إذا اقتضى الأمر عبر ايراد رموز تاريخية مثلا . أحاول أن أبني طقسا كاملا ، مناخا نفسيا وتاريخيا يستطيع المتلقي أن يستنشقه ويتسرب إلى مساماته لا أن " يلقم بالملعقة " إن صح هذا التعبير . فحين أبني رموزي داخل النص تكون بمثابة مفاتيح تقود القارئ إلى أروقة القصيدة .

وتوظيف الأسطورة ؟

أتعامل مع الأسطورة كما أتعامل مع الرمز ، فأنا أكتب لمتلق أعمى ، لكنني أقود المتلقي . وأفترض في المتلقي عدم معرفته للأسطورة . ولا يفهم ذلك بأنني أستهين بثقافة المتلقي فثمة اختلافات في ثقافة القارئ . في هذا الإطار قد أتحدث عن أسطورة وردت في " الالياذة والأوديسا " فعندما تترجم هذه القصيدة إلى أية لغة من اللغات الآسيوية قد لا يفهم المتلقي معنى الأسطورة اليونانية . أنا أستخدم مناخات الأسطورة وليس رموزها وأشخاصها . في نصوصي طقوس أسطورية ولكن استخدام الأسطورة حسيا بجسدها الواضح والملموس ليس حاضرا بهذا الشكل كما هو الشأن في قصيدتي " كما يرى الرائي " .

هل بالإمكان أن يتجسد المعنى بصور متعالية تنأى عن الواقع المحسوس وتتسم بنوع من التجريد ؟

طبعا بالإمكان . لكنني لا أميل إلى هذا التكنيك . أميل إلى تنامي الصور الحسية وتوالدها ولكن لكي تفضي إلى غاية وإلى قصدية واضحة . لا يكفي بناء عوالم من الفانتازيا الملونة ، المزركشة والجميلة دون أن نلمح شكلا لهذه العوالم . ما الجدوى من إقامة صور توليدية متراكمة كالمعماري الذي يبني عمارات مركبة لكنه لا يبني مدينة . أريد أن أقيم مدينة ولكن بها بشر وأطفال يلعبون في الحواري والشوارع .

هل تفضي الصور المتوالدة المجردة إلى التأمل أو العكس ؟

أحيانا تولد لدي حالة التأمل مشهدية في الخيال وأحيانا العكس أيضا . إذن هذه المعادلات ذات الاتجاهين مهمة في الإبداع . فالطريق ذات الاتجاهين تؤدي إلى تفاعل معاكس .

هل هناك قوانين ثابتة للإبداع الشعري في رايك ؟

ليست هناك قوانين ثابتة للإبداع ولو كان الأمر كذلك لأخرجت الجامعة شعراء . لكل مبدع منطقه الخاص في الإبداع تماما كما في البصمة للإصبع التي لا تتشابه . لكن ثمة ملامح عامة مشتركة لبعض الحالات الإبداعية ، مثلا ثمة قصيدة عربية حديثة شابة تنسحب  على مجمل الوطن العربي ، قصيدة حائرة تحاول أن تتلمس أجوبة على قلق يلفنا جميعا ، في بعض التجارب الشعرية في الأردن ولبنان والعراق وتونس ثم تنسحب في بقية الوطن العربي على غرار مصر وسوريا . ثمة ملامح مشتركة للقصيدة هنا ، ربما لأن البؤر الثقافية التقليدية مثل القاهرة ودمشق وبيروت أصبح لها هواجس إبداعية خاصة وتقف على الأطراف بمعنى التجاوز إن صح هذا التعبير .

هذه التجربة تصور حالة البحث والسؤال الدائم والقلق المستمر والإصرار على الشعر في مواجهة الخراب . هذا جمرنا الذي نقبض عليه في مواجهة الانكسارات والهزائم . وعودة إلى البعد التكنيكي في سؤالك فأنا ألاحظ أحيانا أنه ثمة لغة مشتركة على السبيل التقني . حيث ثمة حالة واحدة تعصف بالمبدع . ما لاحظته وما أثار انتباهي أننا في المشرق العربي نحن نمر بحالات من الصمت أحيانا أو التأمل الحزين يدخل الشعراء في بلد كتونس طقسا مختلفا ، ينشطون في الكتابة وفي إثبات مواقفهم . وهذا شيء مهم للتاريخ ومهم للوجدان العربي . 

بالنسبة إليك ، ما هو موقفك إزاء هذا القلق ؟

أنا الآن في مرحلة تأمل حزين دون شعور بالانكسار أو الهزيمة ، لكنه لن يطول . نحن في الأردن لنا الحدث الثقافي الساخن في فلسطين والعراق وهو يمسنا في الصميم . وأحداث صغيرة تتناثر هنا وهناك ونحن في نواة هذا البركان .

في صوتك جرس معبر عن قوة إحساس بما ذكرت ..؟

الحالة النفسية هي التي تولد المعاني والهاجس الصوتي يخرج من داخلنا ولذلك فله بعد خفي بالأساس .

هل لديك استفهامات ما ؟؟

 إلى أين يقودنا الشعر ؟ هل يقودنا إلى هاجس معرفي ؟ هل يأخذنا إلى القلق الكوني الذي لا ينتهي ؟ هل علينا نحن الشعراء أن نحدث حلولا لما يحدث في عالمنا ؟ وهنا نقول لا بل إننا نحن " المجانين " الذين يرغبون في التعري أمام الشمس لا كي نقيس ثيابا جديدة ولكن من أجل إعادة القدسية إلى أجسادنا وأرواحنا وضمائرنا ، علينا نحن الشعراء أن نهرب من الساسة وتجار الكلام من أجل إعادة الصدق والثقة إلى الكلمة الحافية السائرة في الطرقات والأحلام .

أحتمي بالجمال من أجل الحياة

في دويوانك  "زلة اخرى للحكمة " تحول الجسد في قصيدة " رقص " إلى طاقة إبداعية متفجرة  ، جسد يرنو إلى التوحد مع الآخر في عوالم يكتنفها الغموض والجمال ، فهل هي لحظة التطهر والارتقاء الذاتي نحو المعنى أم أن ظلال اللحظة الشعرية ولعبة الضوء والعتمة هي ظلال لذاتك الشعرية الخالصة ؟

ثمة في ما تحتكم إليه النصوص ، في ما يتعلق بما هو غريزي وجسدي في استحضار اللذة سواء كانت هذه اللذة خاصة بالجسد أم أنها روحية تبحث عن معرفة ما ، وتجيب على أسئلة كونية . في قصيدة " رقص " تحديدا هناك محاولة للتماثل مع الحالة الإنسانية الأولى حيث آدم وحواء التفاحة . وكأن حالة الأقدام في مراوحتها بين الاقتراب والابتعاد تعبر عن حالة الإغواء والدعوة إلى الاندغام ما بين جسدين .

المرأة في قصيدة " كرسي الاعتراف " صورة يكتشفها الشاعر قصدا " راهبة في حالة عري " ، فهل تهدف إلى رسم صورة الإنسان النقي المتطهر من الأدران في حالة العري وبالتالي رغبة في تجسيد حلم الإنسان بالخلود ؟ أم تدنيس المقدس ؟

يظهر الجسد في صورة أخرى في قصيدة " كرسي الاعتراف " حيث تظهر تيمة الكشف والإخفاء ، الإخفاء الإقصائي للحفاظ على قداسة الجسد عند الراهبة . نحن نعلم أن العري في أساس المجتمعات الأولى كان مقدسا ، لكنه في أدياننا الآن أصبح الإخفاء هو المقدس ، لذلك رمز الراهبة هو الحفاظ على قداسة الجسد ، واختراق هذه الحالة الاقصائية عودة إلى الغريزة الأولى إلى إنسانية الإنسان .

قصيدة أخرى تعالج هذه المسألة من وجهة نظر إسلامية ، تتحدث عن النقاب والمبالغة في إخفاء الجسد ولكن ثمة عري في العينين الظاهرتين وهما مكحلتين بنعاس الشعر ، ووكأن هاتين العينين هما نافذتان على الجسد المحنط . ينظم هذه الحالات الشعرية كما هو واضح لقارئ الديوان الاشتغال في بناء الصورة بحيث تصبح مركبة وسينمائية لدى اقتناص اللحظة وإدارتها في شكل بصري متحرك . وقد تنتقي المخيلة حالة درامية تمزج الرؤى البصرية المتلاحقة بالصوت والحركة . وهنا تصبح القصيدة مجموعة لوحات هي في الواقع نوافذ مفتوحة على حالات إنسانية ورؤى لها صفة فلسفية تثير أسئلة وتضع المتناقضات في قالب بعضها من أجل إثارة هذا الجدل وهذا السؤال الكبير الذي يطرحه دائما الشاعر .

يرى " ألبارتي " أن اللوحة نافذة مفتوحة على التاريخ : التاريخ الذي يرسم ويصف ويسرد . اللوحة هي شرط التاريخ تروي ولادة التاريخ المسيحي الذي يرتبط بحلول الله في الجسد الإنساني للمسيح . أنت مسيحي  طبعا ، فهل أن تصوراتك الدينية أثرت على رؤيتك في تجسيد الصور شعريا ؟

مجتمعي هو تجمع بشري أصوله تعود إلى مملكة الغساسنة . المسيحية العربية كانت قائمة في جنوب بلاد الشام أيام الفتح الإسلامي . وقد بقي البعض الآخر على مسيحيته العربية . تربيت في حضن الكنيسة في المدرسة الابتدائية وأثرت في تكويني الفنون الكنسية من أيقونات قديمة وموسيقى كنسية . الطقس الديني والآداب والثقافة والكنيسة في ما يتعلق بالكتاب المقدس والصلاة ، كل ذلك ساهم في التكوين الفني لدي .

اللوحة المرسومة للمرأة هي لوحة تغيب فيها الألوان في قصيدة " امرأة وتمثال " :

لكأنها تلامس شهوة أخرى وكأنه الذكر الضرير

المرأة هنا تتجلى كالآلهة اليونانية " اكسوانا " حين حررها " ديدال " بعدما كانت مجرد تمثال . لم تحضر الصور بالغياب ولا تحضر بجسدها الواضح ؟ 

يحيلني هذا السؤال إلى الأسطورة . أنا لا أستخدم الأسطورة بشكل مباشر في القصيدة بل أحاول أن أقيم مناخات أسطورية ، أن أصل بما هو إنساني وعادي إلى مستوى المجاز الشعري الأسطوري ، وكأني آخذ موجوداتي في سفر عالم الإغريق الأسطوري ، أساطير بلاد الشام القديمة . والمرأة هنا بين الرمز الأسطوري في الأول لأن الكثير من أساطير العالم كانت المرأة بطلتها ، وكانت العنصر المحفز لحركتها وإرادتها . ربما إشارتي إلى التمثال في قصيدة " مطر وتمثال " تقاطعت مع الموروث الإنساني الفلسفي ، الصور التاريخية ، الحياة الحاضرة في مساحة جامدة كالتمثال ، كأنها صورة محنطة قادمة من التاريخ وهنا وظيفة الشعر أن يضع الحياة ويجسدها وكأنها اللحظة الغائبة .. قد تكون هناك صلة مع أسطورة " بيقماليون " التي أخذها العديد من الكتاب مثل " برنارد شو " حين يقوم النحات بنحت تمثال المرأة في خياله ، وتدب الحياة في هذا التمثال وتتمرد على خالقها ، وكأني في قصيدتي " مطر وتمثال " ربما أجسد حالة الخلق ، حالة تزاوج بين المطر والتمثال ولكن الذي يحدث أن المطر ضرير قاصر على الحياة وفي المقابل الحجر بداخله حياة وصخب وضجيج فهي تلامس شهوة جديدة ، والمطر كالذكر الضرير الذي يجوس جسد المرأة دون وعي .

المرأة الكامنة في ديوانك " زلة أخرى للحكمة " هي زلة الشاعر وهو يكشف عن عالمه الروحي في غياب أقنعة حسية ؟ هل خطيئة الشعر أن تظل الروح عذراء ؟

يختلط المدنس والمقدس ، ما هي خطيئة الشعر تصبح فضيلة الشعر ، الروح العذراء والجسد الذي يمارس الخطايا . وذلك يتم في منطقة واحدة ، في التاريخ القديم كان المدنس والمقدس مختلفين . كان هناك البغي المقدسة وفي بعض الأديان المقدسة العري جزء من قداسة الطقس الديني ، بعد ذلك اختلفت الأدوار : الشعر يحاول أن يقبض على اللحظة الإنسانية وكأنها لحظة واحدة ، بحيث تصبح البغي المقدسة والراهبة غير الممسوسة ربما شخصية واحدة ، ما هو مختلف أن هذه الشخصية يعاد إنتاجها في أزمان مختلفة .

في قصيدة " قبلة " رسم تشكيلي لدائرتين متوهجتين بالضياء تدللان على التحول ، القبلة رسم شكل فني تخطيطي لقصيدة الشاعر المنسابة ..

في إشارتك إلى قصيدة قبلة وعلاقة التشكيل المشهدي أقول بأنني في قصائدي أستخدم فنونا أخرى غير الشعر ، الفن التشكيلي وتقنيات التشكيل تدخل في صياغة القصيد ، حيث أني أستخدم وسائط فنون أخرى من أجل الاشتغال داخل القصيدة ، وهذا يأتي من اهتمامي بهذه الفنون . فقد أدخلت الرسم التشكيلي ، الموسيقي ، والرقص . ولدي اطلاع على فنون أخرى ساعدتني كثيرا في الاقتراب من روح الشعر . الشعر موجود في كل هذه الفنون .

المرأة في " زلة أخرى للحكمة مشتهاة ولا توجد دلالات لوجود حسي لهذه المرأة ، وغالبا ما توصف بالمرأة العذراء ، الغجرية ، السابحة ، النارية ، و.. صور توحي بالرحيل والتحول وانسياب الحياة في شكلها الدي يحيل على الديمومة والخلود . هل قدر الشعر هو الانشغال بقضايا الحياة والخلود ؟

ثمة امرأة كونية لدى الشاعر هي غير موجودة ، ليست في متناول اليد ولا في متناول الفم ولا في متناول الروح . في هذه المرأة عدة نساء : فيها الغجرية العارية والمدنسة والخبيئة ، كل ما يمكن تصوره من صفات وحالات للمرأة موجودة في هذه المرأة العصية عن الحضور والجارحة والمعذبة ، لذلك هي خالدة وليست آنية ، والقصيدة في بحثها عن هذا الكائن الغريب تحاول الخلود ، هل تضيء هذه المرأة ذات الشاعر أم تجره إلى العتمة ؟  هذا ما يؤرق الشاعر . هل هذه المسألة قضايا كبيرة ؟ لست معنيا بحلها . إني معني بالوصول إلى حالة الصفاء الداخلي والمصالحة مع الذات والكون . إني معني بسؤالي المعرفي الطفل . هل بين هذا السؤال الطفل قضايا كبيرة ؟ ربما ..

هل يكشف الشاعر عن الجمال النمطي ؟ هل خاصية الرؤية والاستحواد على الشكل الجوهري هما الملكتان المحددتان التي يكشف الشاعر من خلالهما عن حقيقة الأشياء الجوهرية كما بين ذلك " رسكن " ؟

ليست هناك قصدية في الكشف عن الجمال النمطي . هناك أسئلة . أنا مسكون بالأسئلة وبمحاولة إثارة الأسئلة . أحتمي بالجمال من أجل مواصلة الحياة . أحاول أن أبحث عن الجمال الداخلي الذي أربطه بصداقات مع اللحظات الجمالية . في هذا الكشف تحدث حالات النشوة الإنسانية كنشوة الصوفي ، ثم إن الجمال لدي ليس حالة نهائية جادة ، إنه حالات متحركة وقابلة للتغير والانتقال من مكان إلى مكان .

بالنسبة للاستحواذ على الشكل الجوهري فهي إحالة إفلاطونية فيما يتعلق بعالم المثل لدى افلاطون ، الأشكال الجوهرية التي ترمز للموجودات في أشكالها المجردة . عندما نبحث عن المرأة في الشعر نبحث عن المثال ، لا نرى حصان المتنبي مثلا لكن نرى الحصان الذي ركبه الفرسان والشعراء في التاريخ ، عندما ننظر إلى السيف نرى سيفا مجردا حاول أن يفتح عدالة ما ، عندما نبحث عن الوردة لا نقصد وردة الأمير الصغير فإننا نفتش عن الوردة الموجودة في شعور كل النساء والملكات عبر التاريخ . وهكذا نحاول أن ندقق في الرؤى والرؤيا لكي نرى الأشياء في أشكالها الجوهرية . الثعبان الذي أغوى حواء الثعبان المجرد الذي أتى في ما بعد إلى العالم . أيضا إلى الثقافة الأولى التي كانت شاهدة على القضمتين التين اجترحتهما حواء ثم آدم ، ورقتي التوت في حالة ستر العري لأول مرة في التاريخ الإنساني . هذا ما يود أن يصل إليه الشاعر . والجمال هنا في جمال الحالة الإنسانية ، وليس في الجمال المجسد في صورة لمثال أو جسد . إنه جمال وكأنه جمال الخطيئة الأولى حيث الشجرة الثعبان والتفاحة وحواء ثم آدم .

حول هذا الحوار ؟؟

انت تنتقلين في هذا الحوار من كونه عادي يثير أسئلة سريعة إلى حوار عميق وفلسفي ، واعترف أن أسئلتك تثير وتستفز الشاعر لينظر بعمق وجدية إلى ما اقترفته يداه من شعر . وأنا أجيب عن أسئلتك وأشعر بأنني أضيء أشياء في داخلي كانت غامضة بالنسبة لي .. شكرا لك.