حوار مع الشاعر السوري فرج بيرقدار

حرّرني السجن من القوالب الأدبية والثقافية والسياسية

فرج بيرقدار

غياث المدهون - ستوكهولم

هو شاعر وصحافي سوري من مواليد حمص 1951، يتأبط 14 عاماً في السجون السورية، مما يعني أنه حائز أكثر من دكتوراه سجوناً، بعد تخرجه في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق. حائز أيضا خمس جوائز عالمية، يعتقد أنها على أهميتها لا تعوّضه عن خمس دقائق في السجن. شارك بعد الإفراج عنه في كثير من المهرجانات العربية والعالمية: عَمَّان وبيروت وبرلين وفرانكفورت وباريس وجنيف ولندن وبروكيسل وستوكهولم وبرشلونة وأوسلو وكوبنهاغن، ولكن لم يتح له أن يقرأ قصائده في أي مؤسسة ثقافية سورية. صدرت له خمس مجموعات شعرية وكتاب عن تجربة السجن، وترجمات إلى لغات عدة. يقيم في ستوكهولم، وهو عضو اتحاد الكتَّاب في أسوج وعضو شرف في نادي القلم العالمي. لكنه، على قوله، لم يحظ "بشرف" عضوية اتحاد الكتاب في بلده. في ما يأتي حديث معه.

 • قلت، عند تسلّمك جائزة توشولسكي، إن الكلمات التي سُجِنتَ في بلدك لأجلها 14 عاماً، هي نفسها التي منحتك تلك الجائزة في أسوج.

- نعم قلت ذلك، وكم يؤسفني أن الواقع هو كذلك فعلاً. الكلمة في أسوج آمنة ومصون، بغض النظر عما إذا كانت أو كان صاحبها "مع أو ضد". أما في سوريا "ما بعد الحداثة" فلا شيء ولا أحد مصوناً أو حتى آمناً. ثم ما الذي كان ينبغي لي قوله في حضرة نادي القلم وممثل الحكومة الأسوجية الذي سلَّمني الجائزة؟ هل كان عليّ أن أستنفر حميَّتي الوطنية وأقرع مسامعهم بقول توينبي "إن سوريا هي الوطن الثاني لهم"، وإن على أسوج أن تحترم نفسها وأن لا تعطي الجائزة لشاعر سوري متَّهم "بتعاطي" الديموقراطية التي تسيء الى سمعة سوريا وتاريخها العريق؟

• أربعة عشر عاماً في السجن، ثم بعد خمس سنوات من إطلاق سراحك ذهبت بك رياحك إلى المنفى. ألا تشعر أن المنفى هو جزء من العقوبة التي تفرضها الأنظمة العربية على مثقفيها، وأن الدوامة هي نفسها؟

- ليس جديداً قولي إن السجن والمنفى وجهان لميدالية واحدة. بعد الإفراج عني دعيت إلى ألمانيا 8 شهور وعدت إلى سوريا، ثم دعيت إلى هولندا لسنة وعدت أيضاً، وحين دعيت إلى أسوج في 2005، كانت نيتي العودة بالطبع. كنت أعتقد أن اعتقالات ما سمّي "ربيع دمشق" غلطة عابرة وإن كانت فاحشة، وأن قليلاً من الحكمة يقتضي عدم تكرارها. ولكن استدعاء الأصدقاء الموقعين "إعلان بيروت- دمشق" وتهديدهم وتسريحهم واعتقالهم، غيَّر حساباتي واقتناعاتي ومزاجي أيضاً.

سوريا بعد اعتقال هؤلاء، ولاحقاً اعتقال زملائهم في "إعلان دمشق"، لم تعد سوريا التي أراهن على إمكان العيش فيها. عقوبة المنفى مع شيء من الحرية والكرامة والأمان، أقل وطأة من عقوبة السجن. سوريا الآن بدون أي معايير. والمنفى وإن كان عقوبة بمعنى ما، إلا أن ذلك لا يرقى، أقصد لا ينحطّ، إلى ذلك الدرك الذي بلغه الداخل. عقوبات الداخل ولعناته وتحيّفاته الآن أكبر وأخطر.

 • كتابك "خيانات اللغــة والصمـت" تحدث عن تلك التجربة، ولكني سمعت منك، خلال لقاءاتنا الأخيرة، الكثير من القصص التي لم ترد في الكتاب، ألا تعتقد أن تلك التجربة بكامل تفاصيلها تستحق التوثيق؟

- معك حق. ولكني لست قادراً بمفردي على كتابة ألف لعنة ولعنة. ثم إني هرَّبتُ ما كتبت على ورق السجائر، الأمر الذي اضطرني إلى التكثيف والتركيز على ما اعتقدت حينها أنه أكثر أهمية، إضافة إلى أن الأمر كان محكوماً بطريقة أو بخطة كتابية معينة لم أستطع مقاومتها بالمعنى الأدبي. الآن أشعر أن هناك الكثير مما تمكن كتابته بصورة مختلفة أو إضافية، وقد حاورت وحاولت مع الكثيرين ممن أعتقد أن لديهم الإمكان لرفد مشروع الكتابة عن تلك "الميثولوجيا" الرهيبة.

تجربة السجن في سوريا خلال الثلاثة العقود الأخيرة تحتاج إلى مجلدات، وفي وسعي الزعم أن الزمن لم يفت بعد، وإن كنت أضع يدي على قلبي خشية أن يرحل من ينبغي لهم أن يدلوا بشهاداتهم بأنفسهم، لا أن يتركوا الرواية للآخرين، كما حدث مثلاً مع "الحديث". على أن ذلك لا يعفيني من القيام بواجبي ما استطعت إلى ذلك قتيلا.

• يقول البعض إنك شاعر مرحلة في عينها، وذلك بسبب التباسات وضعك كشاعر وسياسي في آن واحد. إذا صح ذلك أو بعضه، ففي رأيك ما مدى تأثير الإيديولوجيا التي تبنيتها على مشروعك الشعري؟

- كتبتُ الشعر العمودي والتفعيلة وما يسمى الشعر النثري. فهل من مرحلة، مهما يكن التصنيف، تستغرق ذلك؟ لم أكن متعصباً ايديولوجياً في يوم من الأيام. كان همي إنسانياً وسياسياً وثقافياً بصورة عامة، ولم أجد أيّ رادع فني في ذلك. وقد قلت مراراً أني وردتُ السياسة من باب الشعر، ولم أرد الشعر من باب السياسة. أيضاً قبل السجن وخلاله وبعده، كتبتُ عن الحب والسموات والحزن والسجن والمنفى والبلاد والأهل والأصدقاء والخبز والخمر والأنبياء والوردة والجمر والأطلال والموت والتصوّف والحرية والكفر والملكوت والنهر والصمت والولاويل والأمهات إلخ. فهل ثمة ايديولوجيا تجمع وترعى وتسوس ذلك كلّه معاً؟

• السجن مثله مثل أي منعطف كبير في الحياة، لا بد أن تنعكس تأثيراته ولا سيما على الخلاّق، كيف كان ذلك التأثير على تجربتك الشعرية؟

- إذا اسثنينا الألم والمعاناة، فإن كل شيء في حياتي كان إيجابياً بما في ذلك السجن، وقد منحني عيوناً إضافية. أقول ذلك كإنسان وكشاعر في الآن نفسه. ولكن التأثير الأهم للسجن كان "للمفارقة" تحريري من كل قوالب شعرية أو سياسية أو ثقافية.

• بعد إقامتك في أسوج، هل تجد نفسك على قطيعة مع سوريا؟ وما مدى احتمال عودتك إليها؟

- يسعدني بالطبع أن أعود إليها، ولكن كبني آدم لا كأبناء الدم. أخجل من العودة وفي السجون أصدقاء كثر يمتلكون من الشرف بجميع معانيه، ما لا طاقة ولا سبيل للطغيان إليه. بالطبع أحنّ إلى حواضن ذكرياتي الهادئة والصاخبة، الحزينة والسعيدة، المنفلتة والمقيّدة بالأعراف والتقاليد والمجتمع والسلطات والمعارضة اللاهثة وراء إثبات وطنيتها التي لا تحتاج إلى إثبات، وأخيراً إلى نهر العاصي الذي غدا ذليلاً ومطيعاً إلى حد التلوّث والضراعة ثم النشفان.

• سمعتُ وقرأت الكثير عنك سابقاً، وبعد لقاءاتنا المتكررة في هذه الـ "ستوكهولم" الفردوسية، بدأتُ أشعر أني أعرفك عن كثب، ومع ذلك أحس أحياناً بأنك محاط بالكثير من الغموض؟

- ابحثْ عن السبب في أربعة عشر عاماً من حياتي التي تشبه نصّاً مدروزاً باللعنة والعقارب والأشواك. ولكن بما أنك لا تزال شاباً، فإني أنصحك بالبحث عن الجمال. هنا في ستوكهولم الجمال واضح غالباً والبشاعة أيضاً، وأنت الآن في ستوكهولم لا في دمشق.

 • ما مشاريعك الشعرية الآن؟

- ثمة محاولات جديدة لا أدري إن كان يمكن تصنيفها كشعر. يبدو لي أن رياحي لم تهدأ بعد، كما أن تعلُّم الأسوجية "لغة وامرأة" وزحمة النشاطات والمشاركات الأدبية وكذلك الترجمات، تهتك القسط الأوفر من وقتي. والهتك هنا لا ينطوي على أي دلالة سلبية. انتظرت كل شيء بصبر ولا أزال.