د. عماد الدين خليل

حول هموم الأدب الإسلامي المعاصر

حوار مع د. عماد الدين خليل أجراه: رشدي عبيد

* هناك، في الحقيقة، أسئلة عديدة تدور في الذهن بصدد هموم الأدب الإسلامي المعاصر ومساراته، لعلّ هذا اللقاء يكشف بعض جوانبها، ولأبدأ باستطلاع وجهة نظركم عن أهم الطروحات الفكرية والجمالية التي يجب مراعاتها في أية محاولة لتنظيم وتأسيس وإثراء نقد إسلامي معاصر يتّسم بالأصالة والعمق والشمولية والمنهجية

- أعتقد بأنك معي في أن الحيّز المتاح لهذا اللقاء قد لا يتسع للتحدث بإسهاب عن الكثير من القضايا الملحة، وإذا سبق وأن عرضت لهذه المسألة في خطوطها العريضة في الفصل الرابع من كتاب (مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي) فلا أجد مبرراً لإعادة القول فيها.

* هذا صحيح، ولكن إذا كان خلوص الغاية أو (التوجه الإيماني) من أضوأ وأحلى السمات المميزة للناقد المسلم، فما هي الانعكاسات الإيجابية لهذه السمة على عمله النقدي؟

- يمكن أن تكون المسألة ذات وجهين، وهي كذلك بكل تأكيد، فأما وجهها الأول فيتمثل بقدر كبير من التجرد والموضوعية يأخذ بهما الناقد المسلم نفسه وهو يمارس عمله النقدي، وهذا يعني - دون حسم أو جزم تجاوزاً طيباً للميول والظنون والتحزبات والأهواء، تلك التي جرفت الكثير من الأعمال النقدية غير الإسلامية، وبخاصة في العقود المبكرة الماضية. إنّ النقد الإسلامي لأية فعالية تنسج خيوطها في دائرة الإيمان الوضيء، يجد نفسه ملزماً -ما وسعه الجهد- بتجاوز المصالح الصغيرة والأنانيات الشخصية من أجل إصدار تقويمات وأحكام أقرب إلى الصواب.. وقد تحدث حالات مخالفة وهذا وقع بالتأكيد، لكنها يجب ألا تكون المساحة الأوسع في نسيج الممارسة النقدية. يجب أن تظل استثناءً.. أما القاعدة الأوسع والأعرض فهي تلك التي ألمحنا إليها.

وأما الوجه الثاني فهو أن التوجه الإيماني للنقد الإسلامي يفرض عليه التزامات معينة، بما أنّ الأدب الإسلامي عموماً هو أدب ملتزم، بمعنى أن هنالك سلّماً من القيم والمعايير الفنية على مستوى الشكل والمضمون، تلزم الناقد المسلم بالعمل من خلالها وهو يعاين النص الإبداعي ليس على سبيل القسر الرياضي الصارم، ولكن من خلال قناعات كافية تتسرب بعفوية خلال عقل الناقد المسلم وحسّه الجمالي ووجدانه.

* إن هذا ينقلنا إلى ما يراه بعض المختصين بالأدب الإسلامي من أن وصفه بصفة الالتزام يجعله منحازاً إلى أحد تيارات الأدب الأوروبي، وكأن إسلامية الأدب واستقلاله وأصالته تحرّم أسلمة وتوظيف المصطلحات الجمالية العالمية لتوصيف وإضاءة أبعاد الإسلامية في الأدب ورسم معالمها وتنظير منهجها ومقارنتها بما سواهما من المذاهب والنظريات.. ما مدى مصداقية هذا الرأي وصوابه في نظركم؟

- لقد طرحت في إشارتك لهذه المعضلة مسألتين وليس مسألة واحدة، الانحياز والمصطلح.

بالنسبة للمسألة الأولى فإن الالتزام - إذا توخينا الدقة - لا يمثل مذهباً في سياقات الأدب الأوروبي، والوضعي عموماً، إنما هو منهج عمل، وثمة فرق كبير بين المذهب والمنهج.. المذهب يعبّر بشكل أو آخر عن رؤية للكون والحياة والعالم والوجود، ينبثق عن فلسفة أو تصور أو عقيدة متميزة، وفي هذه الحالة فإن الإسلامية ترفض الإذعان -ابتداءً- للانسياق وراء المذهبيات الأدبية لأنها عند ذاك ستتنازل عن الكثير من مقوماتها وستفقد شخصيتها المستقلة، ربما..

أما المنهج فهو أداة عمل، وهو في بعض الأحيان قد يعكس تمذهباً ما بدرجة أو أخرى، ولكنه يظل في معظم الأحيان حيادياً يمكن توظيفه لهذا المذهب أو ذاك، إنه يذكرني بالتلفاز -مثلاً- أو السينما، فهما بحد ذاتهما قد لا يعنيان توجهاً معيناً على مستوى التصور ولكن توظيفهما هو الذي يحملهما بتصور كهذا.

وإذا كان "ساتر" قد أكد في أدبياته الوجودية مسألة الالتزام هذه (فيما عدا دائرة الإبداع الشعري كما هو معروف) فإن هذا لا يعني أن الالتزام معطى سارتري أو وجودي صرف، ومن ثم فهو لا يعني أن المناداة بالتزامية الأدب الإسلامي تسوقه إلى الانحياز إلا أن أحداً لم يخطر على باله بأن التزامية الماركسية تمثل انحيازاً للوجودية وهي التي سبقتها بكثير، ثم إن الالتزام الأدبي والفني عموماً ليس أمراً جديداً في عالمنا الحديث لكي يكون حكراً على هذا المذهب أو ذاك.. إنه موغل في القرون البعيدة، ويكفي أن نتذكر فيلسوفين نصرانيين "توماس الأكويني" و "القديس أوغسطين" بل يكفي أن نتذكر شاعرين مسلمين "حسان بن ثابت" و"قطري بن الفجاءة" لكي نعرف أن توظيف الإبداع الفني لتصور أو قناعة ما، يندّ عن مقولات التأريخ والجغرافية، ليتحرك بعيداً عن نسبياتهما المحددة ومتغيراتهما المنظورة.

بالنسبة للمصطلح يمكن أن تجد في الكلمة اشتقاقاً عربياً أصيلاً ومع ذلك فليس قدراً أن نسمي المحاولة التزاماً ليسمّها المتوجسون من لعبة المصطلحات الغربية -وهم محقون- ما شاؤوا من تسميات قد تبعدها عن النحت الغربي للكلمة، ولكن يبقى هناك، قبل هذا وبعده حقيقة أن الأدب الإسلامي أدب مذهبي بمعنى أنه يعبّر إبداعياً عن منظور متميز للكون والحياة والإنسان.. يلتزم بمعطيات هذا المنظور ويرفض قبول أو احتواء كل ما من شأنه أن يعارض أو يصدم هذه المعطيات.

وإذا كان المصطلح عموماً جسراً للتواصل، للعبور إلى الآخرين وتقديم رؤيتنا إليهم، فإن اعتماده بصبغته غير الإسلامية ليس جرماً، بل قد يكون ضرورة من الضرورات.. وهو في الوقت ذاته يمثل تحدياً ملحاً يتطلب منا أن نشكل مصطلحاتنا الأدبية والنقدية والجمالية الخاصة بنا، وألا نقف عند هذا الحد بل أن ننشرها على الناس، أن نزيد من فاعليتها في ساحات النقد والأدب، وأن نجعلها عالمية ما وسعنا الجهد، وحين ذاك يمكن أن نعبر إلى الآخرين بالجسور التي هي من صنع أيدينا، فنكون بالتأكيد أكثر صدقاً مع أنفسنا ومع الآخرين.

* إن بعض النقاد المتأثرين بتيارات النقد الغربي يسخرون من محاولة تأصيل نقد أدبي إسلامي بحجة تقاصر الأعمال الأدبية الإسلامية المعاصرة عن مضاهاة الإبداعات العالمية المتميزة... ما هو الرد النظري والعملي على هذه السخرية الصغيرة؟

- ليست سخرية إذا أردنا الصدق، ولكنها قناعة، قناعة قد تخضع أحياناً للعبة الكراهية والهوى، ولكنها في المدى الأشمل تمثل نوعاً من اليقين لدى غير الإسلاميين عموماً (وليس فقط المتأثرين بتيارات النقد الغربي) بأن الأدب الإسلامي في دوائر الدراسة ،النقد والإبداع ليس له وجود، أو هو في أقل تقدير لم يستو بعد على سوقه لكي يفرض حضوره ويشار إليه بالبنان.

وإذا كان بمقدور المرء أن يعطيهم الحق قبل عقدين أو ثلاثة، فإنه يجد نفسه مضطراً بأن يرفض "ادعاءهم" في اللحظات الراهنة، وأنا أؤكد هنا على كلمة "ادعاء" لأن القناعة عندما تفقد مبرراتها الموضوعية ويصرّ أصحابها على التشبّث بها تصير ادعاءً.. إن هذا يبدو واضحاً في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، ولسوف يزداد وضوحاً في المستقبل القريب بإذن الله. لقد جابه أدباء الإسلامية تحدياً كبيراً والحق يقال، ولكنهم قدروا على أن يجتازوه بقدر طيب من النجاح، وهاك سيلاً من الأعمال الدراسية والنقدية والإبداعية تخرج على الناس بكثافة تلفت النظر، بحيث أن محاولة كتلك التي يقوم بها الأخ الدكتور عبد الباسط بدر في "فهرسة مكتبة الأدب الإسلامي" تضع بين أيدينا مئات من المؤلفات والبحوث، وستضع في أجزائها القادمة مئات أخرى من الأعمال الإبداعية. فماذا يمكن أن يقال عن المستقبل؟.. وهاك أيضاً فلأول مرة في تأريخ الأكاديمية يفرض هذا الأدب حضوره في أروقة المعاهد والجامعات، فتكتب عنه البحوث والدراسات وتقدم الأطروحات للمراحل الدراسية المختلفة بدءاً من الليسانس وانتهاءً بالدكتوراه، ويجب أن ننبه إلى أن دوائر الأكاديمية التي تقبل هذه الممارسة المتزايدة، دوائر لم تكن تعترف إلى عهد قريب بشيء اسمه الأدب الإسلامي، وقد لا يكونون أساساً من الإسلاميين بل إن معظمهم من أولئك "المتأثرين" كما تسميهم "بتيارات النقد الغربي".

وإلى جانب هذه الدوائر فإن أقسام اللغة والأدب العربي في العديد من الجامعات العربية والإسلامية ذات التوجه الإسلامي الأصيل، قد أقرت هذا الأدب الوليد في سياقاتها المنهجية وأعطته المساحة الواسعة التي يستحقها، ولسوف يزيد هذا التوجه عرضاً وعمقاً الجهود القيمة التي ينفذها "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" في عملية "أسلمة المعرفة" التي يحظى الأدب الإسلامي بنصيبه الطيب منها وهو، أي المعهد، الآن بصدد إنجاز كتاب منهجي شامل لتدريس مفردات هذا الأدب أكاديمياً، وتغذية الصفوف والدوائر الجامعية بإحدى حاجاتها الملحة في هذا المجال.

ويجيء قيام "رابطة الأدب الإسلامي" في الهند قبل سنوات قلائل تتويجاً لهذا كله، بل إنه في الحق البداية الصحيحة للمّ الطاقات وبرمجتها وجعلها تصب في البؤرة التي ستحرق الكراهية والبغضاء وستمزق حجب الجهل والتجاهل، وستضع في دائرة الضوء، وتنمي واحدة من أشد معطيات الإنسان الأدبية ارتباطاً بقضية الإنسان وهمومه، وأكثرها نقاءً وطهراً، قبالة عالم يكاد يختنق بالدنس، وفساد يلفّ البر والبحر والسماء بما كسبت أيدي الناس.

* والآن، فلندخل مملكة الشعر.. هناك أشياء كثيرة يمكن أن تثار ولكنني سأقف عند هذه النقطة التي يمكن أن تشكل عصب الموضوع.. فما هو الحدّ الصعب الذي يجب أن يتقارب إليه الشاعر المسلم لينجو من مساقط الغموض الدلالي والنثرية الباردة وانعدام العذوبة والنكهة والجرس، وليتجاوز الحدّ السهل المتمثل في التعلق الممل بالأغراض التقليدية، والوجدانية الإيقاعية، والتشتت الصوري، والصلب الأبدي على عمود القصيدة العمودية؟

- ها إنك قد اخترت الوقت المناسب تماماً، بعد حوار سريع عن الأدب والنقد الإسلامي، للتحدث قليلاً عن الإبداع نفسه، عن هذا النوع أو ذاك من معطياته وتقنياته.

بالنسبة للشعر -مثلاً- ثمة بالفعل أشياء كثيرة يمكن أن تقال، وقد يخطر على البال هنا ما ذكره لي مدير تحرير (المسلمون) الأستاذ محمد المختار الفال من أن الشعر هو الهاجس الأكثر إلحاحاً في دائرة الإسلامية وهذا حق إذا حاولنا بحساب الكم أن نقيس الشعر على الأنواع الأخرى كالقصة والرواية والمسرحية، ولسوف نجد يقيناً قبالة كل مجموعة قصصية أو رواية أو مسرحية، تصدر على مكث بين الحين والحين، عشرة دواوين شعرية أو عشرين!

قد يكون السبب في قصر عمر الأنواع الأدبية المذكورة في تأريخ أدبنا العربي الحديث، وما يقال -صدقاً أو كذباً- من أنها مستعارة في الأغلب عن الغير، في وقت يبدو فيه الإبداع الشعري ممارسة أصيلة موغلة في الزمن، ضاربة بجذورها في أعماق الأرض العربية، مستمدة تقاليدها الفنية الخصبة الغنية من معطيات مئات السنين.

ولكن هذا بحدّ ذاته يمثل تحدياً وإن على الإسلاميين أن يقبلوه من أجل التحقق بالتوازن في المعادلة الصعبة، فما دام أن العصر الحديث في دوائر العربية والإسلامية والعالمية عموماً يتعامل مع القصة والرواية والمسرحية باهتمام بالغ، ويضع لها مكاناً كبيراً من اهتماماته الأدبية على مستويات الدراسة والنقد والإبداع، وعلى مستوى الاستهلاك أي قاعدة القراء التي تشكل نقلاً أساسياً في الموضوع، فإن على الإسلاميين أن يمنحوها ما تستحقه من اهتمام، وأن يسعوا إلى توصيل قناعاتهم وفق تقنياتها المؤثرة ذات الشعبية الواسعة والجذب النقدي الملحوظ، وهذا لا يعني بطبيعة الحال دعوة للكف عن قول الشعر، أو تحجيمه في أقل تقدير "أبداً" فليقل الشعراء الإسلاميون ما أتيح لهم القول، وليبدعوا ما سنحت لهم منازع الإبداع، فإن الساحة ما تزال بحاجة إلى مئات أخرى من الدواوين التي تحمل القضية بالقصيدة الملحمية المقاتلة، أو الكلمة المغناة التي تعرف كيف تجتاز دروب التحسّس والوجدان.

ولكن الحضور الإبداعي الإسلامي لن يستكمل أسبابه إن لم يكن هناك في مقابل هذا الخصب الشعري عطاء مؤكد متواصل، وبالكثافة نفسها في دائرة الأنواع الأخرى التي تقدر -ربما أكثر من غيرها- على الطرق على الآذان الصمّاء، والعيون التي لا ترى، لكي تصحو فتجد نفسها قبالة أدب إسلامي سخيّ في الأنواع كافة، فتقول يومها إن هناك بحق أدباً إسلامياً!

والآن فلأبدأ معك من آخر السؤال لا من أوله كما هو معروف، إذ قد استفزتني فيه عبارة "الصلْب الأبدي على عمود القصيدة العمودية"! فلقد ضرب الشعراء المحدثون عموماً في تيه ما اصطلح عليه "شعر التفعيلة" والشعر الحر، والانحطاط الأكثر حداثة منه، وصولاً إلى قصيدة النثر.. فماذا كانت النتيجة؟ تأكيداً للقصيدة العمودية وليس نفياً لها!! بل أستطيع أن أمضي إلى أبعد من هذا، فأقول بأنها لم تستطع حتى أن تهزها عن عرشها، ولعلها زادتها تميزاً وتألقاً.. انظر إلى ما يجري في المهرجانات والاحتفالات العامة، فإن العمل الشعري الذي يحقق حضوراً أكثر كثافة على مستويي الجمهور والتأثير الوجداني إنما هو القصيدة العمودية.. إنّ ما تتميّز به من تماسك في بنيانها الفني ومن توحّد وتناظر في معمارها.. من تأثير جمالي مؤكد لتكرار الرويّ والقافية بصيغة ضربات متوازية الإيقاع، محكمة الأداء والموسيقى، تشدّ سمع الجمهور ووجدانه الشعري.. تهيمن على حضوره فتكسب الجولة.

ليست كل قصائد العمودية بكل تأكيد، فهناك من بين هذه القصائد ما يدعو إلى القرف والاشمئزاز، ويدفع للانفصال الوجداني عن الخطاب، ولا أريد أن أمضي في حديثي عن هذه المسألة التي قد تطول كثيراً في حيّز لا يتسع لقول الكثير وإنما أحب أن أنبه -قبالة هذا كله- إلى حقيقة أن شعر الحداثة، بأنماطه كافة، يعدّ -كذلك- ضرورة من الضرورات في الساحة الشعرية ويكفي أن تنظر إلى سيل من الأعمال المتألقة في مملكته لكي تتأكد من هذه الحقيقة.. يكفي أن نرى أو نلمس قدرة الخيال الشعري على التحرر عبر صيرورته الفنية من كل ما من شأنه أن يعيق تدفقه وإيغاله، من حواجز المطالب الفنية في القصيدة العمودية، لكي تتبيّن لنا صدق المقولة.

فهل بعد هذا من ضرورة للاعتقاد الخاطئ بأن القصيدة العمودية قد تنفي الإبداع الشعري الحرّ، أو أن هذا يقود إلى نفي العمودي أو الحكم عليها بالإعدام؟

إن المسألة على العكس تماماً، فهذا التنوع الخصب في صيغ الخطاب الشعري إنما يُحسب لك والعربي وليس عليه، ونحن نعرف جميعاً تنويعات الشعراء العباسيين والأندلسيين في دائرة هذا النمط من الإبداع وكيف أنهم زادوا مساحته غنىً وتلويناً ولم يقل أحد أن هذا خروج عن الحضرة أو القداسة الموهومة للعمود الشعري الذي احترمه الآباء والأجداد، فليس في تقنيات الإبداع الأدبي والفني حلال أو حرام، ولن يستطيع ناقد مسلم الادعاء بقدرته على "جدولة" هذه التقنيات وقبول بعضها ونفي البعض الآخر.. وتبقى القدرة الإبداعية للشاعر هي الحكم الفصل في الحكم النقدي على أعماله سواء قدمها بصيغة العمود أو التفعيلة أو أية صيغة أخرى.

إن الشاعر العملاق قد نجده هنا وهناك.. وأدعياء الشعر وعجزته قد نجدهم -كذلك- هنا وهناك، وليس الصراع بين أنماط الشعر كافة -إذا أردت الحق- سوى معركة موهومة لا مبرّر لها، إذا تذكرنا مرة أخرى أن القيم الجمالية قد تتواجد هنا وقد تشح وتنعدم هناك، فيسقط معها العمل الشعري سواء كان حراً أم عمودياً.

لقد كنت أنا شخصياً قبل عشرين سنة أو ثلاثين مندفعاً إلى حدّ الهوس وراء الدعوة لتحرير الشعر العربي من هيمنة القافية والعمود ثم ما لبث أن تبيّن لي خطأ هذا الموقف في أساسه النقدي، فليس المهم أن نحرّر القصيدة ولكن أن نحميها من التفكك والتبذل والضياع، وأن نغنيها في الوقت نفسه، وننوّع عليها.. أن نتحرر إذا جاز التعبير من بعض مطالبها وقوالبها ولكن أن نعطي لها الحيّز الذي تستحقه باعتبارها واحدة من أكثر الخبرات نضجاً واكتمالاً فنياً في آداب الأمم والشعوب كافة.

* يعني أنك تؤيد التجريب؟

- بكل تأكيد، فمن يرفض ذلك؟ وهل كان نموّ الأنواع الأدبية كافة، وتطورها وتزايد تألقها الفني إلا من خلال التجريب؟

ولكن ليس مطلق التجريب، يقيناً، وإلا غدا فوضى وهدماً وتخبطاً، إنما هو التجريب الذي ينفذه مبدعون بلغوا القمة في قدراتهم الفنية في دائرة هذا النوع أو ذاك، وفي إدراك أسرار الإبداع ومطالبه وتقنياته وفي متابعة التطور التاريخي للنوع، أي الخط البياني لتراكم الخبرة النوعية، وهذا مسألة في غاية الأهمية من أجل تجاوز الارتجال والمطبّات، أو القفز في الفضاء، بل إن على المبدع أن يملك قبل هذا كله خلفية نقدية تمنحه خريطة عمل، إذا صحّ التعبير، يعرف كيف يتحرك على هديها.

فإذا تذكرنا أن الأنواع الأدبية كافة، بما فيها الشعر هي بشكل من الأشكال خبرة بشرية متراكمة، قد يزيدها الزمن أو التاريخ الإبداعي نضجاً واكتمالاً أفنسمح لأنفسنا أن ننفي هذه الخاصية ذات الأهمية البالغة بحجة الدعوة إلى التحرر والتجديد؟ إن الجواب على هذا قد يبدو أكثر ما يبدو في تعامل مع ما تسميه عمود القصيدة.

التجريب. نعم وبكل تأكيد.. ولكنه التجريب المنضبط بالقيم والمعايير الفنية المتفق عليها.. التجريب الذي يحترم الخبرة الفنية ويحتضنها ولا يفرط بأية جزئية متألقة منها بحجة هذا المطلب أو ذاك.

* فماذا عن مساقط الغموض الدلالي؟

- يمكن أن تكون متفقاً معي، وكافة الإخوة القراء على أن الإبداع الأدبي بما أنه أساساً خطاب نتوجّه به للآخرين، فلابد أن يحمل قدرته الفنية على التوصيل. والتجربة الإبداعية التي لا تصل إلى الشاطئ الآخر.. إلى "الآخرين" فإنها محكوم عليها بالعجز لعدم القدرة على العبور، وقد تسقط غرقاً فيبتلعها التيار فلا تحظى بفرصتها للتحقّق. إن لغتنا العربية الشاعرة، الحسّاسة الخصبة بمفرداتها ومجازاتها واستعاراتها التي مالها من نفاد.. لا يمكن بحال أن تبخل بقدراتها الإبداعية وأدواتها الفنية لتوصيل التجربة، فليس إلا العجز والانحسار في قدرات الأديب نفسه ذلك الذي يغمض في التجربة ويمنعها من الوصول إلى الآخرين.

لقد دوّنت بعض الملاحظات المتواضعة بهذا الصدد في مقال بعنوان "حول أدب الغموض : الجسور المقطوعة" نشرته مجلة "الوعي الإسلامي" قبل أكثر من سنة، فلا مبرر لإعادة القول فيه، ولكني أعود فأؤشر ثانية هنا على واحدة من التصورات أو القناعات الخاطئة للأدباء المحدثين في الساحة العربية، إنهم يعتقدون أن المذاهب الأدبية الأكثر حداثة في الغرب كالطليعية والمستقبلية والبنيوية واللاوعيية، ومن قبلها الرمزية والسريالية إلى آخره تعاني في أعمالها الإبداعية من الغموض، وأن هذا الغموض شيء أساسي في تكوينها، وأنه مرسوم مسبقاً في تصوّر أصحابها.. إنه بإيجاز قدرها وأننا إذا أردنا أن نجدد نحن الآخرين فإن علينا أن نغمض ونلغز.. أبداً، فإننا لو تمعنّا في أيّ من الأعمال الإبداعية للمذاهب الآنفة، فإننا سنعرف كيف أنها على غموضها وألغازها، تحمل القدرة على التوصيل، ليس هذا فحسب بل إن هذا الغموض والإلغاز ليس هدفاً بحد ذاته وإنما هو ضرورة فنية للتعبير عن حالة نفسية أو عقلية أو وجدانية أو إنسانية أو كونية، والمهم أن هذا الغموض سرعان ما يكتشف في نهاية الأمر عن معنى أو إشارة ما يتلقاها القارئ فيعرف بالتأكيد ما يريد الأديب أن يقوله.. والذي يحدث -عندنا- في كثير من الأحيان ، للأسف ليس هذا وإنما شيء آخر تماماً الغموض الذي يستهدف نفسه والذي لا يحمل أية دلالة ذات مغزى أو هو يحملها -ربما- لكنه يعجز عن توصيلها إلى "الآخرين" ولعل من فضول القول ويؤول به إلى ما تسميه "النثرية الباردة" أو التقليدية أو ما شئنا من تسميات، وأنه إذاً لابد من التغطية. من المجاز من إحاطة التجربة التعبيرية بأكبر قدر ممكن من المضافات الفنية التي تبعد بها عن الكلام الاعتيادي.

وهذا بالتأكيد قد يقودها إلى نوع من الألغاز أو الغموض وهما في الحقيقة مما يميز الإبداع عن الكلام أو المعاني المطروحة على قارعة الطريق، كما يسميها "الجاحظ" لكن المبالغة في الإغماض وفق قصد مسبق سوف يقود التعبير إلى التشرنق والعزلة، ويصدّه عن الوصول إلى الآخرين فيفقد وظيفته الفنية الأساسية. إن كثيراً من قصائد الشعر الحر على سبيل المثال، تحول على أيدي أنصاف الشعراء من المولعين بالتقليد والملاحقة إلى نوع من لعبة الكلمات المتقاطعة.. من الشيفرات السرية التي قد لا يقدر على فكها وحل رموزها سوى واضعها نفسه، وهذا بالتأكيد ليس ميزة للأديب بقدر ما هو إدانة لأدواته الفنية وقدراته التعبيرية.

* إذا انتقلنا إلى الرواية الإسلامية المعاصرة وجدنا من يأخذ عليها، مع كل التقدير والعرفان لروّادها، كثافتها المضمونية، ووضوح نبرة الراوي فيها، وإيثاره لأسلوب الأخبار والوصف في التشخيص.. ما هو تقويمكم النقدي لهذه المآخذ؟

- لست معه في هذا التعميم، فإن الرواية الإسلامية المعاصرة، على شحّة معطياتها كمّاً، تتضمن -نوعاً- قدراً طيّباً من التنويع على مستوى التقنيات الروائية، وهذا بدأ يتضح أكثر فأكثر في الروايات الإسلامية الأكثر حداثة، أما في البدايات فإننا نلمح بالتأكيد حضوراً طافياً للروائي نفسه في صميم عمله الفني، ونلمع كذلك مبالغة في السرد والأخبار والوصف فيما يكاد يجعل العمل الروائي، ريبورتاجاً صحفياً أو جهداً تسجيلياً، بل إنه على أيدي البعض يغدو عملاً وعظياً مباشراً يستعرض من القصة بعض شروطها الفنية، ولا شيء وراء ذلك إن هذا ليس عيباً في الرواية الإسلامية كنوع، بل إنه ليس عيباً حتى في الروائيين القدامى، فإننا نجد هذه التقاليد تسود معظم الأنشطة الروائية في مراحلها المبكرة، ولسنا هنا بصدد ضرب الأمثلة، الأمر الذي قد يقتضي دراسة مستقلة، مفصلة، أحسب أن العديد من الإخوة في "المغرب" يقومون بها، والمهم هو ما الذي يفعله وسيفعله الروائي المسلم عبر الزمن القادم؟

* إن هذا يدفعني للتساؤل عن تجربتكم في "الإعصار والمئذنة"؟

- بإيجاز شديد، فإنني بعد وضع اللمسات الأساسية لفضاء الرواية وبعد الحضور بين الحين والحين لربط سياقات الحدث الروائي، أردت أن أنسى ما وسعني الجهد لكي أعطي الحرية الكاملة للشخوص، فلا يكون تشكّل الحدث وصيرورته إلا من خلالها، بمعنى آخر أن تكون الرؤية هي رؤيتهم وليست رؤيتي الشخصية التي تقطع عليهم حريتهم في معاينة الواقع والتجارب والأشياء وفي معايشتها.. صحيح أنني شذذت في بعض المواقف عن هذا التصميم فيما أشار إليه الأخ الناقد (محمد إقبال عروي) في دراسته للرواية ضمن كتاب "جمالية الأدب الإسلامي" والأخت نبيلة الجراري في دراستها الأكاديمية للرواية بعنوان "الإعصار والمئذنة بين الجمالية والالتزام" ولكن هذا لن يعدو أن يكون استثناءات محددة اقتضتها بعض الضرورات الفنية، بينما ظلت القاعدة تتحرك في نطاق ذلك التصميم.. ومن يدري لعلّي إذا عدت للرواية منقّحاً أن استأصل منها حتى هذه الاستثناءات.

والحق أن بناء العمل الروائي وفق صيغة المتحدث "العالم بكل شيء" يفقده تركيزه الفني المطلوب، ويعطي الإذن للروائي بأن يدخل بين لحظة وأخرى حضرة التشكل الروائي للوقائع والشخوص فيقطع عليها عفوية صيرورتها وإنسيابية تشكلها، وقد يصدم حسّ القارئ برقابته الصارمة وإمساكه المكشوف بخيوط اللعبة فيما يجعلهم يتأرجحون بين تصديق الواقعة الروائية والاندغام فيها أو الانفصال عنها وتكذيبها!

وهذا إن جاز في العمل الدرامي، فيما هو واضح في "الملحمية" البرشتية من أجل تحقيق أغراض تعليمية عن طريق جعل المشاهد ينفصل عن العمل التعبيري ويعانيه من الخارج لكي يعرف كيف يتلقى مؤثراته البنائية فيما هو مثار جدل حتى الآن، فإنه لا يجوز في العمل الروائي الذي يفرض فيه التشكل من الداخل ووفق منطق صيرورته الخاص، لكي يمنح القارئ القناعة بصدقه.. وهكذا فإذا كانت صيغة المتحدث من الخارج "العالم بكل شيء" قد تقود إلى مآخذ من هذا النوع، يقف على رأسها ولا ريب تسيب العمل الروائي، وانفتاحه غير المحدود، وفضفاضيته وترهُّله -أحياناً- فإن طرح الحدث الروائي بصيغة ضمير البطل المتحدث من الداخل، قد يحدّد الحركة والرؤية بأكثر مما يجب، فقد يحوّل الرواية أحياناً إلى ما يشبه السيرة الذاتية للبطل، وقد يسرق الضوء أحياناً أخرى من شخوص قد لا تقل أهمية عن البطل المحوري فيضعها في مناطق العتمة والظلال، أو يجعلها -في أقل تقدير- تتحرك في "عالم البطل" ووفق مشيئته، أو رؤيته سلباً وإيجاباً.

وفي الحالة الأولى فإن الحدث سيتشكل وفق مشيئة الراوي ورؤيته، وفي الحالة الثانية فإنه سيتشكل وفق مشيئة البطل ورؤيته.. في الحالة الأولى ستعاني الراوية من نوع من الإفراط والترهّل، وفي الثانية ستحدد بقدر كبير من التفريط الاقتصاد في المنطق.

وقد تكون الصيغة الثالثة التي تشكّلت فيها "الإعصار والمئذنة" هي الصيغة الوسط التي تفيد من ميزات التقنيات السابقة وتطرح سيآتهما.. أن ينسى الراوي بعد تحديد الفضاء الروائي، تاركاً مجموعة الشخوص، لا البطل وحده تتحدث وتتحاور وتنفعل وتعايش وتسمع وترى..

وما هي إلا وجهة نظر "فنية" قد لا يسلّم بها هذا الناقد أو ذاك على أية حال.

* ألا يتقاطع هذا مع منظوركم الالتزامي؟

- أبداً.. فأنت إذا قدرت أن تجعل بعض شخوصك تتشكل وتثير، وتعاين وتتحقق في دائرة قناعاتك الإيمانية، وبعيداً عن تأثيرك المباشر، أو حضورك المنظور بتعبير أدق منفصلة قدر الإمكان عن رؤيتك المباشرة، تكون قد اجتزت المعادلة الصعبة بنجاح وبالصدق المطلوب.. والهدف نفسه أي البعد الالتزامي سيتحقق فيما يقابل هذه الحالة الإيجابية، أي في الحالة السلبية التي تعبّر عنها مجموعة الشخوص التي تشكل في دائرة القيم المضادة، وأيضاً دونما تدخل أو مقاطعة وبالصدق الفني الذي يجعل هذه الشخوص تصدم القارئ فينفر منها ولا يتعاطف معها، أو هو في الأقل يرفض الذهاب معها إلى ما تريد هي وتختار لا ما يريده هو أو يختاره.

* هذا يكفي، فقد نلتقي كرة أخرى عن "الإعصار والمئذنة" بالذات، وعلى أية حال فإنني قدّمت تصوري وقناعاتي النقدية عن الرواية في دراسة مستقلة أرجو أن تتاح لها فرصة النشر قريباً.. والآن فإنني أحب أن أختم لقائي معكم في الحديث عما يعدّ أكثر الأنواع الأدبية التصاقاً بكم.. فباعتباركم من الروّاد في الفن المسرحي إنتاجاً وتقويماً، ما هو حكمكم النقدي على إبداعاتكم المسرحية؟

- أعتقد أن من حق المرء أن يعتذر عن إصدار حكم نقدي على مجموع أعمال في مجال ما من المجالات، فإن هذا أمر متروك للنقاد والدارسين والقراء وهم أهله وأحق به -وبدلاً- من ذلك فإن البعض يتحدث عن خبرته وتنامي هذه الخبرة في دائرة نوع أدبي ما وعمل كهذا قد يضيء الطريق أمام النقاد والدارسين، وقد يفيد المبدعين أنفسهم في ذلك الحقل ويجنبهم الكثير من العثرات والأخطاء.

ولا أظن أن حواراً كهذا، ربما يكون قد طال به السرى يسمح بوقفة كهذه تتضمن رحلة مع خمسة أو ستة من الأعمال المسرحية (مجموعتان من المسرحيات ذات الفصل الواحد، ربما تصير ثلاث مجموعات، وثلاث مسرحيات من ذوات المشاهد والفصول).

ثمة ملاحظة أحبّ أن أشير إليها، فإذا كان هناك نشاط نقدي إسلامي ما في دوائر الشعر والقصة والرواية، فإنه يكاد يكون غائباً تماماً عن المسرح.

* لماذا؟

- ربما لأن النشاط المسرحي نفسه أكثر جدة على الساحة، ومهما يكن من أمر فإننا جميعاً لن نقدر على مواصلة الطريق بالصيغ المرتجاة، دونما إضاءة النقد، إنه إذا أردت الحق ضرورة من الضرورات، فهو الدافع والمعلّم، وللأسف الشديد فإن الكثير من النقاد الإسلاميين لا يدركون هذه الحقيقة التي هي أخصّ ما يخصّهم، أو هم قد يدركونها ولكن أسباباً شتى ربما بكون الكسل أو زحمة المشاغل أو أي عامل شخصي ما، يجعلهم يقعدون عن ملاحقة ما تطرحه الساحة من أعمال إبداعية. إن مخاطر "سلبية" كهذه قد لا تشلّ أولئك الذين قطعوا شوطاً من الطريق، لكنها قد تقضي على العناصر الشابة الجديدة التي تضع خطواتها الأولى على الدرب وهي تملك رصيداً مذخوراً وطموحاً كبيراً، لكن ليس ثمة من يسمع صوتها أو يأخذ بيدها. لقد تلقيت رسائل شتى من هؤلاء كانوا يستغيثون فيها، وكنت تحسّ إزاءهم كما لو أنهم يجدّفون لوحدهم في بئر عميق، وأنهم سيختنقون .. سيضيعون إلى الأبد.

* هل لي أخيراً أن أسألكم سؤالاً تقليدياً معروفاً مثلاً؟ أحبّ أعمالكم المسرحية إليكم؟

- من جهتي سأتجاوز الجواب التقليدي المعروف، مراوغاً أو مدّعياً "كلهم أبنائي" أبداً، فإن ثمة ما يجعل بعض هذه الأعمال أحب إلى نفسي وهي: "المغول" و "العبور".

* لماذا؟

- لعل تراكم الخبرة الفنية ما يجعل الأولى أنضج أعمالي المسرحية ذات الفصول، ويضع الثانية على رأس مجامعي ذوات الفصل الواحد.

* وهل ثمة عمل مستقبلي في هذا اللون الأدبي؟

- ربما تكون "العبور" التي أشرت إليها قبل لحظات قد صدرت بإذن الله عند ظهور هذا الحوار.

* وبعدها؟ 

- علم ذلك عند الله.