مع القيادي الإسلامي البارز عبد المجيد النجار

القيادي الإسلامي البارز عبد المجيد النجار:

فراغ "النهضة" يملؤه الجهاديون في تونس

علي عبد العال

صحفي مصري/ القاهرة

[email protected]

تمثل العدائية التي دامت لأكثر من عشرين عاما بين النظام الحاكم في تونس وحركة النهضة الإسلامية، صورة حية للعلاقة التي هيمنت أو التي أريد لها أن تسود الروابط بين الدولة العربية والإسلاميين من بين مجموع مواطنيها. وفي ظل الإقصاء الذي يعانيه الإسلاميون هناك بات الحديث جادا حول من يملأ فراغ الحركة الإسلامية التاريخية في هذا البلد، ولعل في بادرة إطلاق سراح آخر سجناء النهضة من السجون ما يمكن أن تعلق عليه آمال ترجو طي هذه الصفحة السوداء من تاريخ تونس.

وفي هذه المقابلة يقدم د.عبد المجيد النجار القيادي الكبير بحركة النهضة الإسلامية، نصيحته للنهضة والدولة معا بإغلاق هذا الملف، وأن يكون للطرفين قدرة على تجاوز الماضي، من أجل مستقبل البلاد والعباد، خاصة وأنه لم يعد هناك من مبرر لأن يبقى هذا الشرخ قائما بين الوطن وهذه الفئة من أبنائه.

زعماء النهضة في المهجر

* بعد كل هذه السنين من الاغتراب، هل تطلعنا على موقعكم الحالي في الحركة الإسلامية التونسية؟

- أنا موجود في حركة النهضة منذ العام 1974، لكنني ومنذ خرجت من تونس سنة 1985 وإلى الآن لم يكن لي فيها تقريبا مسئولية تنظيمية، وذلك لأسباب منها تقدم السن الذي لا يسمح بالحركية الفاعلة، ومنها تمدد مسئولياتي الخارجية من مثل الأمانة العامة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ورئاسة لجنة البحوث به، وكعضوية مجلس الأمناء والمكتب التنفيذي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئاسة لجنة التأليف والترجمة به، وكذلك للانشغال بالبحث العلمي في قضايا عديدة تهم المسلمين، وأيضا لانشغالي ببعض النشاط الأكاديمي في نطاق مؤسسات جامعية.

لذلك فإن دوري بالحركة يكاد ينحصر في أمرين اثنين: أولهما الإسهام في البحث بالقضايا الفكرية العلمية المتعلقة بالهم الإسلامي عموما، ومن ضمنه هم حركة النهضة، وذلك عبر ما يتيسر لي من إنجاز مؤلفات ودراسات. والثاني هو المشاركة النظرية في الهم السياسي والثقافي المتعلق بالحركة في علاقتها بالمكونات التي يتألف منها المجتمع التونسي، وعلى رأسها المكون الحاكم، ومحاولة أن أدلي بما أراه صالحا للوطن في هذا الشأن بالرغم مما يسببه ذلك من إحراجات وأحيانا حزازيات وتوترات إزاء مختلف الأطراف ذات العلاقة، ولكن تحمل الأمانة الدينية والوطنية يقتضيه، فلا يسع المضطرّ إلا ركوبها.

* كم يقدر أعضاء حركة "النهضة" الذين أفرج عنهم مؤخراً؟

- الذين خرجوا في هذه الدفعة الأخيرة هم 21 من مساجين حركةالنهضة، بعدما قضوا في السجن ما يقارب 18 عاما، وهناك آخرون ما زالوا في السجن، ولكنهم لا ينتمون إلى الحركة بل هم ينتمون لحركات أخرى أو إلى طبقة الشباب الذين اتهموا بالعنف في المدة الأخيرة، منذ سنتين أو منذ سنة ونصف.

* هل نستطيع أن نقول إن كل مساجين الحركة خرجوا من سجونهم؟

- نعم الآن هذه الدفعة الأخيرة من مساجين حركة النهضة، وكل مساجين الحركة خرجوا من السجن، على حدّ علمي.

دلالة سياسية للإفراج عن السجناء

* كيف ترى دلالة هذه الخطوة من قبل الدولة إزاء الحركة؟

- هناك تصريحات من قبل بعض المقربين من السلطة والنظام الحاكم تشير إلى أن هذه المبادرة هي أقرب إلى أن تكون ذات دلالات إنسانية من أن تكون ذات دلالات سياسية، وذلك باعتبار أن السجن قد طال أمده، ولكن من وجهة نظري لا يمكن أن نجرد هذه الحركة التي قام بها النظام من أي دلالة سياسية، حتى إن كانت رمزية أو صغيرة، والقول السالف ذكره من قبل المقرب من السلطة يحتمل هذا التأويل، فالسبب الإنساني قد كان قائما منذ زمن، وإطلاق سراح جميع من تبقى من المساجين، على اختلاف مواقعهم، دفعة واحدة، بصفة مفاجئة، وفي سنة سياسية هامة، لا يمكن في رأيي أن يفسّر في حقيقته بأنه مجرد هبّة ضمير إنساني كانت دواعيه قائمة منذ زمن طويل، وإنما هو حامل في طياته لإشارة سياسية، وإن يكن غير مفصح عنها بصفة مباشرة.

* تحدثت تقارير ومراقبون عن أن النظام عرض عليكم مصالحة أو تفاوضا أو ما شابه ذلك.. هل حدث ذلك بالفعل؟

- أنا لا أعلم أن هناك عرضا من النظام الحاكم بمصالحة أو ما يشبه المصالحة على حركة النهضة، بالرغم من المطالبة المستمرة بذلك، فقط وقعت ذات مرة حركة بسيطة تتمثل في لقاء قيل إنه وقع في سويسرا بين بعض من يمثل الحركة وبين من يمثل السلطة، لكن انتهى هذا اللقاء إلى لا شيء، فلا أعلم غير هذا.

وموقف حركة النهضة أنها دائما ما تطلب المصالحة، ويذكر قياديون في الحركة أنهم أرسلوا رسائل، وأنهم قاموا ببعض الوساطات أو التوسيطات في هذا الشأن، لإنهاء الأزمة القائمة بين الطرفين، وهناك آخرون من أبناء حركة النهضة يكتبون مقالات كثيرة، ويدلون بتصريحات كثيرة تدعو إلى المصالحة، وإلى الحوار، وإلى إنهاء هذه الحالة من الاحتقان التي لم تجر إلا إلى أشياء سلبية في العلاقة بين الطرفين، ولكن بصفة واضحة وجلية ومباشرة لم تثمر أشياء ملموسة، لكنه ترد بين الحين والآخر إشارات من قبل السلطة الحاكمة، هي إشارات خفيفة هنا وهناك تدل على توجه إلى هذا المسار، لكنها ليست مباشرة وليست قوية، مما جعل بعضا من أبناء الحركة لا يعتبرونها إشارات جدية، وإن كان بعض آخر وأنا أحدهم يدعو إلى التقاط تلك الإشارات مهما كانت بعيدة الوميض، لتوسيعها وتطويرها إلى ما يفضي إلى بداية مرحلة جديدة تبدأ بالحوار وتنتهي بالوفاق.

* هل تمانعون في الجلوس مع النظام؟

- لا بالعكس، نحن نطلب ذلك، ونحن أبناء وطن واحد، ومصلحةالوطن هي في لأم هذا الصدع الذي طال أمده أكثر من عشرين عاما، ونحن نمد أيدينا إلى الحوار مع السلطة الحاكمة في تونس، وندعو إلى ذلك، ونريد أن تستوي الأمور على ما يؤدي إلى أن كل التونسيين يلتقون ويساهمون في بناء بلدهم، بصفة جماعية، ولكن ننتظر الجواب الإيجابي، فإذا لم يكن جواب انكمشت الأيدي الممدودة منكفئة على ذاتها، بما قد يتمخض عليه الانكفاء من معان مناقضة للأسباب التي كان بها امتدادها، وهي أسباب السعي من أجل المصلحة الوطنية العليا، وليست بحال أسباب الاستجداء لمصلحة ذاتية خاصة.

* قيل إن تيارا في الحركة ربما يمانع أو يعارض ذلك.

- الآراء مختلفة على كل حال، ولكن لم أر من يتشبث بموقف المعارضة المبدئية للمصالحة مع النظام الحاكم، ولكن هناك من يقول إننا -بالرغم من دعوتنا ومن محاولاتنا- لا نرى في مقابل ذلك استجابة ولو قليلة، فيقولون: إذن لا فائدة من أن نكرر هذه الدعوة، أو أن نلح عليها إلا إذا رأينا إشارات قوية من طرف السلطة في هذا المسار، مسار الحوار والمصالحة.

لكن الرفض المبدئي لهذا الأمر أنا لم أسمعه من أحد، غير أن من أبناء الحركة من يرى أن الحوار والمصالحة هو مسار، وليس لحظة يتبرع بها النظام الحاكم بصفة مفاجئة، بل هذا المسار ينبغي أن يُصنع بالتدريج من قبل الحركة بالمواقف والتصريحات والبيانات، ومن قبل النظام بالإشارات والانفتاحات، حتى يلتقي الجميع بعد هذا المسار على مائدة الحوار.

المخرج من الأزمة

* بمناسبة الانتخابات القادمة في تونس، هل تتوقع شيئا من الحراك ربما يحلحل الأمور شيئا ما؟

- نأمل ذلك، ونأمل أن هذه السنة الانتخابية يكون فيها فتح لبعض الأبواب، وتقديم بعض المبادرات في طريق الحوار، وطريق المصارحة والمصالحة، فإطلاق سراح كل المساجين من حركة النهضة في فاتحة هذه السنة الانتخابية نأمل أن يكون فاتحة مساعدة على طي صفحة قديمة من العلاقة المتوترة جدا، والتي أضرت بالبلاد وبالعباد، وأن تُفتح صفحة جديدة في هذه العلاقة تسوى فيها المشاكل العالقة، مثل مشكلة المهجرين، ومشكلة أوضاع المساجين المسرحين، لتتدرج إلى ما هو أهم من حقوق المواطنة، كالمشاركة السياسية، والتقدم في مجال الحريات الفردية والجماعية، فيلتقي التونسيون باعتبارهم مواطنين يتحاورون ويتناقشون، ثم يتعاونون في خدمة ما هو في صالح الوطن.

* إذن كيف تتصورون المخرج من هذه الأزمة بين النظام وبين النهضة؟

- أنا أتكلم في كل ما أقول لك برأيي الشخصي.. في غير تمثيل لأحد، وفي رأيي الشخصي، أن هذه الاشتباكات التي وقعت وطال زمنها، هي لم تؤد إلى مصلحة، لا للبلاد ولا للأفراد، عشرات الآلاف أغلبهم من الكوادر المثقفة بين سجين ومهجّر ومعذب ومعطل، وقد نال البلاد من هذا بلاء كبير، فهذا لم يكن فيه أي مصلحة.

كل الناس ربما ينبغي أن يراجعوا مسارهم الماضي، وأن يعدلوا ما يتبين بعد البحث والدرس أنه خطأ، والحقيقة أن حركة النهضة كانت قد قامت بتقويم مسارها، وانتبهت إلى بعض ما وقعت فيه من خطأ، ونشرته على الملأ، وربما لو توفر لها الظرف المناسب فإنها سوف تعمق هذا التقييم فتستفيد منه أكثر، والمطلوب من النظام أيضا أن يراجع ما وقع، وأن يعترف بما وقع من الخطأ اعترافا عمليا إن لم يكن قوليا مراعاة لهيبة السلطان.

فأنا أرى أنه آن الأوان لأن يطوى هذا الملف، ولأن يقوم النظام وهو الأقوى وهو الأقدر على أن يبادر بمد اليد لهؤلاء الناس الذين يريدون أن يطووا الصفحة، وأن يستقبلوا صفحة جديدة، وأن يعود المهجرون إلى بلدهم، وأن يساهموا في بناء هذا البلد.. ونحن نعلم أن الكثير من هؤلاء هم من الكفاءات العالية، سواء الذين هم في الخارج أو في الداخل، وقد اكتسبوا خبرات في هجرتهم كبيرة، فلماذا تحرم البلاد من هذه الطاقات؟ ولماذا يحرم هؤلاء من خدمة وطنهم، وقد مر على نشوب الأزمة عشرون عاما تغير فيها العالم كله؟ إذا كان البعض يشعر بالظلم فيما وقع، فأنا شخصيا -وكثير غيري- أشعر بالظلم في أن أحرم ويحرمون من خدمة وطني.

نحن نريد أن نسهم في بناء بلدنا، وفي الحركة النهضوية التي تقع، فليس هناك من مبرر في أن يبقى هذا الشرخ قائما، وأن يؤزم أو يزداد تأزيما للوضع.. ونحن ندعو، وأنا شخصيا أدعو إلى أن نلتقي، وأن نتحاور، وأن ندرس الموضوع برمته، ونلتقي على القواسم المشتركة، وهي كثيرة، ونتحاور فيما هو محل للخلاف.. بطبيعة الحال هذا في نطاق كفالة الحقوق الأساسية لكل الناس، لا نرضى أننا كمهجرين نعود إلا أن تكون كرامتنا محفوظة، ولا نرضى أن نتعرض أو يتعرض غيرنا لأي إهانة، ونحن مستعدون إلى أن نتفاوض على استرجاع الحقوق بالتدريج ووفق مسار محدد المعالم، ونحن مستعدون إلى أن نستفيد من تجربة الماضي، غير أنّ المهانة والتفريط المبدئي في أي حق من حقوق المواطنة أمر مرفوض على وجه الإطلاق، على أنه أيضا أمر غير لائق بنظام جمهوري في القرن الواحد والعشرين.

* وماذا تقترح على قيادة الحركة وقواعدها لطي هذه الصفحة؟

- لا بد من قراءة الأمور في ضوء المستقبل.. ماذا حصل خلال هذه العشرين السنة من مصلحة للحركة وللبلاد بأكملها؟ لم تحصل مصلحة بل حصلت مفاسد، فلننظر للأمور بمستوى المستقبل، ونخطط تخطيطا إستراتيجيا، فهدفنا هو مصلحة تونس، وهدفنا هو ألا تنشأ في تونس التطرفات، سواء التطرفات ذات اليمين من التفسخ والتميع والانحلال، أو التطرفات ذات الشمال من التدين المغشوش تنطعا وغلوا أو دروشة وشعوذة.. نحن نريد تونس بلدا كما كان عبر التاريخ مسلما وسطيا رائدا مشعا، وهذا نستطيع أن نسهم فيه بقدر كبير.

فعلينا أن نخطط وأن نبرمج فيما يتماشى مع هذا التوجه المستقبلي، وأن تكون لنا قدرة على التجاوز للماضي، حتى إن كان الشعور بالظلم مرا، وأن تكون لنا القدرة على تجاوز ثقافة الأزمة إلى ثقافة البناء من أجل المستقبل، ولكن هذا لا يمكن أن يحصل باستصحاب مسيرة الماضي على علاتها، بل يتم بالمراجعة التي تأخذ بعين الاعتبار المستجدات، وتلتقط الإشارات، وتمهد السبل، وتستغل دائرة الممكن وإن كانت ضيقة لتوسعها شيئا فشيئا، وتأخذ اليسير مطالبة بالكثير، وتطرق الأبواب بمطرقة الوفاق مع شركاء الوطن، في غير كلل ولكن بإباء وشمم حتى ينفتح القليل ليدلف منه إلى الكثير، فإن تجد نفسك بانيا لحجرة واحدة خير من أن تجد نفسك متمنيا لقصر منيف، هذا ما أراه وهذا ما أدعو إليه.

الحلول الأمنية لا تثمر

* باعتبار أن حركتكم ظلت القوة السياسية والدينية الأكبر في البلادت؛ كيف ترون هذا النمو الكبير للتيارات الجهادية وانتشارها في تونس ومنها لمناطق أخرى كالعراق وأفغانستان؟

- هذا ليس شأن تونس فقط، وإنما شأن البلاد العربية كلهاتقريبا أو معظمها، فيها نوع من الشباب المحبط من الأحداث العالمية التي تقع في العراق وفي غيرها، وأيضا ربما من بعض السلوكات والتصرفات الداخلية في بعض البلاد، فيقع بعض الشباب وهم صغار السن في الغالب نتيجة لهذا الاحتقان، يقعون في هذه الأفكار التي تدعوهم إلى أن يقوموا بمثل هذه الأعمال.

لكن بالنسبة لما يقع في داخل تونس كانت الحركة الإسلامية في الماضي -لما كانت موجودة في داخل البلاد- تقوم بدور توعية دينية، وتكوين فكري معتدل ووسطي. كان يستوعب الشباب ويستوعب الكثيرين؛ لأنها كانت تنتسب في فكرها وفي مشروعها إلى الفكر الإصلاحي داخل تونس وخارجها، فلما غابت نتيجة لأحداث عشرين عاما، لم يبق من يؤطر فكريا ودينيا هذا الشباب، فانطلق في جيوب مختلفة هنا وهناك، ليس له من دليل، ووقع البعض في هذه المسالك التي تؤدي إلى مثل هذه الأعمال، وفعلا وقع منذ سنة ونصف أحداث عنف مسلح من قبل هؤلاء أو بعض هؤلاء، فيما عرف بأحداث مدينة قريبة من تونس اسمها (سليمان).

إن هؤلاء الشباب إنما قاموا بمثل ما قاموا به لضعف زادهم من العلم الشرعي الذي يقوم على فقه المقاصد والأولويات والموازنات، وقد يكونون يعتبرون أنفسهم في قمة التدين المخلص، وليس لهذا الأمر من علاج سوى الترشيد العلمي الصحيح الجاد، وسوى الانفتاح للمشاركة السياسية والاجتماعية، فالانغلاق يغري بالمضي في هذه السبيل الخطيرة، وأما الحلول الأمنية الخالصة فإنها في رأيي لا تثمر في هذا الشأن شيئا، وهناك خشية حقيقية من أن هذا الدرس لا يقع استيعابه من قبل القائمين على الأمر في تونس فتدخل البلاد في موجة من العنف، والعنف المضاد، وهناك تكون الكارثة.