مع عارف دليلة

عبد الكريم أبا زيد

مع عارف دليلة

عبد الكريم أبا زيد - كاتب سوري

قبل ان أبدأ بهذه الدردشة لا بد من تمهيد لكي اضع القارىء في الصورة. فقبل اثنين واربعين عاما (1966) وصل عارف دليلة موفدا من جامعة دمشق الى جامعة موسكو للحصول على شهادة دكتوراه في العلوم الاقتصادية. كنت انا آنذاك، قبله بسنتين، طالبا في الجامعة ذاتها وفي الفرع ذاته. تعارفنا باعتبارنا سوريين، وعدد الطلاب السوريين والاجانب في تلك الجامعة كان قليلا جدا.

كان عارف بعثياً متزمتاً، وانا كنت شيوعياً متعصباً.

كان يرى ان لا انقاذ للأمة العربية الا في اتباع نهج البعث، وكنت ارى ان لا انقاذ للعرب الا في اتباع نهج الماركسية. كانت المناكفات تجري بيننا حادة، ولكن، ومع مرور الزمن، اخذت حدتها تتراجع ونتقارب في الآراء.

كنت انا، آنذاك، سكرتير رابطة الطلاب السوريين في الاتحاد السوفياتي التي يسيطر عليها الشيوعيون، وكان عارف ومن معه من البعثيين وهم قلة، يحاولون اقناع السوفيات بسحب الاعتراف برابطتنا والاعتراف بالاتحاد الوطني لطلبة سورية. ولكن السوفيات رفضوا ذلك. ولم تتحقق الوحدة بين الرابطتين، او بالاصح حل رابطتنا وانضمام اعضائها الى الاتحاد الوطني، الا بعد تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية وقبول الحزب الشيوعي ان يدخلها تحت قيادة حزب البعث الحاكم، بل اكثر من ذلك، فقد وافق الحزب الشيوعي على بند في ميثاق الجبهة ينص على منع الحزب من العمل بين الطلاب، اي انه وافق على قطع النسغ الذي يمده بالحياة.

وهكذا، وبعد اقل من عشرين عاما على انتسابه للجبهة، هرم الحزب، ولم يعد يرفده احد الا ما ندر. فالانتهازي لا ينتسب للحزب، بل يذهب الى النبع، فينتسب لحزب البعث. اما المعارض فيرى في الحزب ذيلا للسلطة، فلا ينتسب اليه.

هذه مقدمة لا غنى عنها للدخول في الموضوع.

عندما عاد عارف من موسكو يحمل شهادة دكتوراه في العلوم الاقتصادية، عيّن استاذا في كلية الاقتصاد في جامعة حلب، ثم انتقل بعد ذلك الى جامعة دمشق، واصبح عميداً لكلية الاقتصاد. وقد تعمق في دراسة هيكلية الاقتصاد السوري ورأى الفساد الذي ينخر جهاز الدولة، وسماه افسادا لا فسادا، وهذا كان نهج السلطة الحاكمة. ومن خلال ندوة الثلثاء الاقتصادي التي كانت تنظمها جمعية العلوم الاقتصادية، وكذلك من خلال منتدى الاتاسي الذي اسس اثناء ربيع دمشق كان عارف يدلي بآراء علمية تهدف الى تصحيح المسار الاقتصادي في البلد، وكان يرى ان رفع حالة الطوارىء واطلاق الحريات الديموقراطية والسماح بتشكيل الاحزاب واطلاق حرية الصحافة هو الطريق الوحيد للنهوض بالبلد.

لم تتحمل السلطات السورية هذا النقد البناء.

وبعد احدى المحاضرات التي وضع فيها النقاط على الحروف، اعتقل عارف ورياض سيف وآخرون. حكم على الجميع بالسجن خمس سنوات الا عارفا، فقد حكم عليه بالسجن عشر سنوات.

بعد اطلاق سراحه وكان امضى سبع سنوات، اطلق سراحه بعفو رئاسي، زرته في بيته في اللاذقية مع بعض الاصدقاء، وقد حدثنا عما عاناه في سجنه حيث امضى ست سنوات في غرفة منفردة.

قلت له يا عارف! لقد قرأت التهم الموجهة اليك والتي، على اساسها، حكموك عشر سنوات وهي: 1- اثارة النعرات الطائفية، 2- الدعوة الى عصيان مسلح، 3- نشر معلومات كاذبة،

4- السعي الى تغيير الدستور بطرق غير قانونية. خامسا واخيرا التهمة التي لم استوعب كيف نفذتها. وأود ان تشرحها لي وهي منع السلطات من ممارسة مهماتها؟ كيف استطعت انت عارف دليلة بامكانياتك المحدودة ان تمنع السلطات السورية من ممارسة مهامها. من اين لك كل هذه القدرة والامكانيات؟

ابتسم عارف وطلب قهوة، واحدا منها سكر زيادة لي، وقال انت تعرف يا عبد الكريم ان الحكم على المعارضين يصدر مسبقا عن الاجهزة الامنية، ويبلغ القضاء بالحكم. ومهمة القاضي تنحصر في التفتيش عن المواد في قانون العقوبات الجزائية التي تنطبق على المدة. فالقاضي سأل المخابرات كم سنة تريدون ان احكم عارفا؟ قالوا له عشر سنوات. فتش في قانون العقوبات فوجد التهم التالية: اثارة النعرات الطائفية، الدعوة الى عصيان مسلح، نشر معلومات كاذبة، السعي الى تغيير الدستور بطرق غير قانونية. وقد جمع السنوات فوجد انها ثمانية، فـ"بحبش" في قانون العقوبات فوجد التهمة الخامسة التي تكمل العشر سنوات وهي "منع السلطات من ممارسة مهامها".

اما كيف منعت السلطات من ممارسة مهامها، فالأمر على غاية في البساطة، فقد استيقظت صباح احد الايام باكرا وذهبت اولا الى وزارة التعليم العالي، جمعت الموظفين وقلت لهم: يا شباب كل واحد على بيته. اقفلت باب الوزارة وسلمت المفتاح للآذن. ثم فعلت هذا الامر مع بقية الوزارات، التربية والمالية والعدلية والداخلية والخارجية والدفاع... الخ. لقد ظنوا انني من المخابرات فلم يجرؤوا ان يسألوني لماذا أغلق الوزارات وأمنع السلطات من ممارسة مهامها.