مع الدكتور حلمي القاعود

qa3od744.jpg

د. حلمي القاعود محملا المصريين مسؤولية ما وصلوا إليه: حكم مصر يتم بـ”صندوق الذخيرة”.. والعسكر لا يريدون العودة إلى الثكنات أو الخضوع لإرادة الشعب.. ولا أظن أن الثورة قريبة.. لا توجد انتخابات رئاسية ويوجد شيء آخر اسمه “علشان نبنيها

القاهرة – ” رأي اليوم” – حوار:

حمل الدكتور حلمي القاعود الشعب المصري الجزء الأكبر من مسؤولية تردي الأوضاع في البلاد طيلة السنوات الأربع الفائتة، مشيرا الى أن الناس لم يغضبوا من أجل الحرية والإسلام والكرامة، وإنما غضبوا فقط يوم ارتفعت الأسعار وانكمشت المرتبات والمعاشات، وصارت أنبوبة البوتاجاز- مثلا – بخمسة وثلاثين جنيها بدلا من ثمانية جنيهات.

وقال القاعود في حوار مع “رأي اليوم” إنه لا يتوقع حدوث ثورة في مصر قريبا، مشيرا الى أن الشعب اعتاد على أن يصحو كل يوم على قرارات بأعباء جديدة يفرضها الدائنون الأجانب، أو جهات أخرى ويقبلها راضيا صاغرا.

وأضاف القاعود أن هناك طرفا يصرّ على إبقاء الأزمة مشتعلة، وكان يتمنى أن يزيد اشتعالها، لنكون مثل سورية والعراق، ولكن أمنيته تبددت بفضل الله ثم الصبر والاعتصام بالإيمان وحرمة الدماء، مشيرا الى أن هذا الطرف لا تعنيه مسألة السلام الاجتماعي ولا بناء الوطن، ولا التفكير في حل مشكلاته، أو وضعه على طريق الإصلاح والبناء، وأن هذا الطرف هو الانقلاب العسكري الدموي الفاشي حسب القاعود.

والى نص الحوار: *كيف ترى المشهد السياسي في مصر الآن؟ المشهد لا يسرّ، على مدى أربع سنوات أو يزيد سمعنا عن مصر التي ستكون شيئا آخر يسرّ ويبهج “وبكره تشوفوا مصر” و”مصر قدّ الدنيا”، ثم انتقلنا إلى مصر “أشباه دولة”، ثم تزحزحنا إلى مصر “بلد ضائع″ أو “ماذا يفعل التعليم في بلد ضائع″، ومن دولة آمنة لا تقع فيها حوادث الإرهاب، إلى تفويض بمواجهة “الإرهاب المحتمل”، ومنه إلى الدم للركب، وتشييع الجنازات لزهرة الشباب بصورة شبه يومية، مع تصفية المختفين قسريا، أي اغتيال الأسرى في أقبية الأجهزة الأمنية تحت ذريعة تبادل إطلاق النار الذي لا يصيب إلا طرفا واحدا فقط! لا أمن ولا أمان في الوطن. من حيث لا تتوقع تدهم الانكشارية بيتك في جوف الليل، وتعيث فيه فسادا وتأسر من تشاء، وتعلق في رقبة الأسير تهما لا تحصى، وتطبق عليه أسوأ قانون في العالم للتظاهر، ولو كان نائما وسحبوه بملابس النوم. الاقتصاد منهار، صرنا نمد اليد في جميع الاتجاهات. صعدت الديون الخارجية في 2013 من حوالي 33 مليارا من الدولارات إلى ما يقرب الآن من 80 مليارا عدا الديون الداخلية. كان الدولار قبل الانقلاب العسكري الدموي الفاشي يساوي ستة جنيهات تقريبا، صعد بالتعويم إلى نحو عشرين جنيها وتراجع قليلا الآن. زادت الأسعار زيادة فاحشة. كان الناس يتندرون أن الرئيس الشرعي محمد مرسي خفض سعر المانجو إلى ثلاثة جنيهات، لا أحد الآن من عامة الناس يستطيع شراءها، لأن الطماطم وصلت إلى عشرة جنيهات.. الموظفون وأصحاب المعاشات يئنون؛ لأن من كان يتقاضى ألف جنيه قبل التعويم، صار كأنه يتقاضى الآن ثلاثمائة فقط. اللصوص الكبار والمحظوظون من أهل السلطة وأتباعهم هم السعداء وحدهم لأن دخولهم تزداد باستمرار بصورة قياسية! الفساد يزدهر والفشل يمرح على المستويات كافة، والشارع تحكمه أخلاق القوة والبجاحة. وفلسفة النهب العام مبثوثة في كل مكان حتى القرى أصابها ما أصاب المدن. انظر للطرقات والشوارع والمرافق العامة احتلها الباعة والطامعون وأغلقوا الشوارع ببضائعهم أو مبانيهم القبيحة، أصحاب المحلات لا يكفيهم العرض داخلها وتمددوا بفروشاتهم إلى منتصف الشارع، ومن الناحية المقابلة يتمدد الآخرون، لا تستطيع أن تسير ماشيا، فضلا عن أن تركب سيارة في شارع رئيسي.. “قانون عدم القانون”. طالما لا يقتربون من ذيل السلطة بكلمة فهم مطمئنون، يكفي أن يعلقوا صورة الجنرال ليخالفوا القانون وهم آمنون. أما التعليم والصحة والثقافة والزراعة والصناعة والسياحة والتصدير والمواصلات والطيران والطرق والعلاقات الخارجية وسد النهضة فحدث ولا حرج.. لا شيء يسرّ! اليابان فشلت في فتح مدارسها بمصر، وهو الفشل الوحيد في تاريخها الحديث! لا تسلني عن كرامة المصري في الداخل أو الخارج. صرنا لا نحظى بحقوق الحيوان. النظام العسكري يبني سجونا ضخمة تتكلف مبالغ خرافية ولا يبني جامعات أو مدارس. تم تكميم الأفواه، ومصادرة الأقلام، وخضع الإعلام والصحافة لإرادة الضابط المناوب. ماتت السياسة، لا يوجد أحزاب أو تخطيط. مجلس البامية( النواب) مشغول بالمكافآت التي يتقاضاها أعضاؤه، ومشكلة البصمة، وأمي بتدعيلك ونواب التأشيرة واللي مش عاجبه البلد يرحل. لا أحد يفكر من أجل هذا البلد الذي قيل عنه ذات يوم ” مصر قد الدنيا”! يكفي أن أعرابيا جلفا من صبيان اليهود الغزاة يتحكم في سياسة أم الدنيا، ويحظى باعتبارات الكفيل، وله فيها إعلام وكتاب وتجار يدافعون عنه وينفذون إرادته….. *** *من تحمله المسئولية الكبرى في الانتكاسة التي وصلت اليها الأمور في مصر؟ المسئولية الكبرى يتحملها الشعب. لم يغضب الناس من أجل الحرية والإسلام والكرامة. غضبوا فقط يوم ارتفعت الأسعار وانكمشت المرتبات والمعاشات، وصارت أنبوبة البوتاجاز مثلا بخمسة وثلاثين جنيها بدلا من ثمانية. يوم الانقلاب كان كثير من الناس لا يفكرون في الحرية أو الديمقراطية، ولكنهم غنوا ورقصوا على أنغام “تسلم الأيادي” ودماء الأبرياء الشرفاء تجري في رابعة والنهضة ورمسيس والفتح وغيرها، وكانوا سعداء بالمحاكمات الظالمة التي تحاكم المئات ومنهم الشيوخ والنساء والأطفال في جلسة واحدة وتحكم على المئات بالإعدام والمؤبد والمشدد. وأغمضوا أعينهم عن أكثر من ستين ألفا من صفوة مصر النبلاء تم حشرهم في السجون المكتظة تحت ظروف غير إنسانية، بتهم ملفقة واتهامات ظالمة. وصار كل من يفكر في الحرية أو الكرامة أو العدل “إخوان”، ماذا اقترف الإخوان من جرائم؟ هل قتلوا؟ هل سرقوا؟ هل باعوا الوطن لليهود الغزاة؟ قبل أيام أصدرت عمامة أمنية فتوى تحرض الناس أن يكونوا مخبرين يبلغون عن كل من يرفض الحكم العسكري ويتهمونه بالأخونة، ومن يفعل سيدخل الجنة، ومن يقتل (؟) سيكون شهيدا! النخبة النخب التي صنعها الحكم العسكري على مدى ستين عاما أو يزيد، من أحط النخب في العالم وأكثرها خسة ولؤما، فقد احترفت الكذب والنفاق والتدليس، وتقديم مصالحها الحرام على أية قيمة دينية أو خلقية أو وطنية أو إنسانية. هذه النخب أسهمت في إجهاض الثورة والحلم الجميل بالحرية والكرامة والأمل.. لقد استخفت بالشعب الغافل، الذي انصاع لثقافة “تزغيط البط” فبطرت نعمة الحرية وآثرت سوط الجلاد المنتقم. تأمل الأبواق التي تشاهدها في الفضائيات الليلية، وكيف خدمت كل العصور وغيرت لغتها بما يناسب كل مرحلة، وحققت مقابل ذلك أموالا حراما من دم الشعب الغافل البائس. خذ مثلا: أحدهم قبل يومين أعلن في إحدى الصحف الأجنبية عن بيع شقة يملكها في أميركا، يطلب مليونا ونصف مليون دولار مقابلا لها. من أين له هذا، وهو بلا مؤهلات متميزة، ولا ورث ثروة عن العوالم اللاتي تربى تحت أقدامهن؟! قارن من واجهوا الدبابات بصدورهم العارية على جسر أوزال في اسطنبول يوم الانقلاب التركي في 15 يوليو2016ومن رقصوا على دماء المسلمين الأبرياء في رابعة.. ثم احكم .. طبعا الجريمة الكبرى في عنق من تحرك بالدبابات ليقهر الأمة، وأعد للانقلاب مذ تنحي مبارك، ووظف النخبة الفاسدة لتخون الوطن! *** *هل من أفق ترسمه للخروج من الأزمة؟ وهل الحل الوحيد يكمن في ثورة؟ أولا- لا أظن أن هناك ثورة قريبة. فالشعب اعتاد على أن يصحو كل يوم على قرارات بأعباء جديدة يفرضها الدائنون الأجانب، أو جهات أخرى ويقبلها راضيا صاغرا. هناك نوع من الهمس، أو النكت السمجة، وذلك لا قيمة له. ومع الإلهاء المستمر عبر مباريات الكرة، وأخبار العوالم والغوازي، واختلاق بعض القضايا المثيرة، وتحريك بعض الدمي لإصدار فتاوى شاذة أو غريبة ، أو مقولات كاذبة عن التاريخ والتراث، ينشغل الناس عن الحرية والكرامة والظلم المهين. ثانيا- هناك طرف يصرّ على إبقاء الأزمة مشتعلة، وكان يتمنى أن يزيد اشتعالها، لنكون مثل سورية والعراق، ولكن أمنيته تبددت بفضل الله ثم الصبر والاعتصام بالإيمان وحرمة الدماء، وهذا الطرف لا تعنيه مسألة السلام الاجتماعي ولا بناء الوطن، ولا التفكير في حل مشكلاته، أو وضعه على طريق الإصلاح والبناء.. هذا الطرف هو الانقلاب العسكري الدموي الفاشي. ثالثا- تشخيص المشكلة التي تعيشها مصر منذ 1952 بأنها بين الإخوان والشعب افتئات على الحقيقة وظلم للتاريخ. مذ أسس البكباشي حكم العسكر، أطاح برئيسه وزملائه الداعين إلى الديمقراطية، وفي مقدمتهم محمد نجيب وخالد محيي الدين، واستخدم كل الأساليب الممكنة لترويع دعاة الديمقراطية. أعدم خميس والبقري الشيوعيين في كفر الدوار، وبعث من يضرب السنهوري باشا على مدخل مجلس الدولة، ويا للمفارقة فقد كان السنهوري من المحرضين على الديمقراطية!، ثم أشعل البكباشي الحرائق في أرجاء القاهرة الأربعة ليسوغ الحكم العسكري الديكتاتوري، وبعد أن تخلص من الزملاء المشاكسين وخوّف الناس من الديمقراطية وحلّ الأحزاب وجماعة الإخوان، ودانت له الدنيا، راح يحكم بالإنشاء والهوى والتهويش، وكانت النتيجة هزائم لا مثيل لها في التاريخ ما زلنا نعاني منها حتى اليوم. وازدادت المتاعب مع استمرار الحكم العسكري من بعده. صندوق الذخيرة  حكم مصر يتم بصندوق الذخيرة، والعسكر لا يريدون العودة إلى الثكنات أو الخضوع لإرادة الشعب الذي يطعمهم ويسقيهم ويكسوهم، ولا يعنيهم الاهتمام بحرفتهم العسكرية، لأنهم يرون أن حكم المدنيين والعمل بالسياسة والإدارة حقا لا يجوز التنازل عنه، مع أن العالم المتقدم يفصل بين دور المدنيين، وحكم العسكر. *** *كيف ترى الانتخابات الرئاسية القادمة؟ أين هي هذه الانتخابات؟ لا توجد انتخابات، يوجد شيء آخر اسمه “علشان نبنيها”، وهو شيء لا علاقة له بمفهوم الانتخابات. آخر انتخابات عرفها الشعب المصري ووقف من أجلها في الطوابير الطويلة كان انتخاب الرئيس الأسير محمد مرسي– فك الله أسره. ما يقال عنه انتخابات بين الجنرال وغيره مجرد لعبة للتسلية الفارغة، وأظنهم الآن يبحثون عن كومبارس يقف في المواجهة لتكون اللعبة فيها بعض التسلية المضحكة. الحكم العسكري لا يعرف الانتخابات. يعرف الأوامر فقط. *** *من يصنع التغيير في مصر ؟ وكم من الوقت يمكن أن يحدث تغيير حقيقي ؟ التغيير يصنعه الناس، ولكن كيف؟ هذا هو السؤال. هل يرتفع الوعي لدى أغلب الناس بحقيقة ما يجري وطبيعته؟ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]. هل يصل التغيير إلى الأجيال الجديدة لترى أن مهمة الجيش هي تطهير الحدود من الغزاة، وتأمين وصول مياه النيل إلى البشر والحيوان والأرض، وردع من تسول له نفسه أن يقتل المصريين عطشا؟ هل يفهم أبناؤنا في المستقبل أن التفاهم والشورى والتخطيط العلمي والاعتزاز بالدين والثقافة القومية طريقنا إلى بناء الوطن؟ الله أعلم! *** *أما من نهاية لطريق الديكتاتورية في العالم العربي؟ إذا صلحت مصر صلح العالم العربي. *** *هل أوراق اللعبة في يد الأمريكان كما يقال؟ بالتأكيد! وليس الأميركان وحدهم، ولكن أوراق اللعبة في يد العدو النازي اليهودي في فلسطين، وصبيان الأميركان واليهود في أركان الإقليم ومن حوله أيضا. ولكن من قال إن الأحرار يتركون أوراق اللعبة الخاصة بهم في يد غيرهم؟ الأحرار يعيشون أحرارا. *** *أخطاء الإخوان من وجهة نظرك الموضوعية؟ الإخوان- فيما أعلم- قوم فضلاء ونبلاء- ولا أزكيهم على الله- لأنهم لا يمدون أيديهم إلى الحرام، ويضحون بأنفسهم بينما غيرهم يرتع ويلعب في حظائر النظام العسكري ومؤسساته، ويحظى بالرعاية والعناية. ولكنهم فيما يبدو لم ينتبهوا إلى الحقائق القائمة على الأرض، وكانت طيبتهم الفياضة والتسامح الزائد عن الحد من وراء الغدر بهم بعد أن اختارهم الناس للقيام بمهمة النيابة والرئاسة. ثم كان اطمئنانهم لمشاركة الانتهازيين وخصوم الإسلام بدلا من التعاون مع أبناء التيار الإسلامي الحقيقيين نقطة ضعف خطيرة، فالسلفيون المدخليون من أصحاب اللحى التايواني مثلا كانوا أول من خانهم، مع أنهم يعلمون أن هؤلاء تربية أمن الدولة وصناعة النظام القديم.. ثم وهو الأخطر أنهم لم يحسموا موقفهم من الدولة العميقة مباشرة بعد انتخاب الرئيس مرسي، وكان الزخم الثوري آنئذ قويا وطاغيا يساعد على ذلك، ولكن التسامح والتراخي أغرى بهم اللئام والسفهاء، مما انعكس على المزاج العام، وتفاعل مع مخطط الانقلاب وأذرعه ونخبه التي هيأت للمأساة، بالإضافة إلى مآخذ أخرى، ولكنها لا تبرر بحال أن تتدخل الدبابة وتختال في الشوارع، ويلعلع الرصاص الحي بعدئذ ليخترق أجساد المسلمين الأبرياء.

وسوم: العدد 744