حين تلوّح اليد الصغيرة من تحت الأنقاض؟

لا يمكنك أن ترى أبعد من الغوطة الشرقية، فهناك شيء يتلف أعصابك حتى إن كنت من ساكني الجنة. شيء لا يمكنك إيقافه حتى حين تقاطع نشرات الأخبار، وتصمد في إضرابك ذاك حتى عن الإصغاء للأحاديث السياسية في المقاهي والتجمعات العائلية الخاصة. 

يكفي أن تصلك صورة واحدة على «واتس آب» ليد طفل تستنجد من تحت الردم لتتوقف أنفاسك، وتتبعثر كل تلك الأفكار التي حضّرتها لمقال ثقافي محض. شيء لا تفسير له، يتجاوز العجز، والحنق، والكفر بالعقل البشري وهشاشته، يقبع خلف أضلعك، يهوي بكل قوته على مواضع مشاعرك ولا يتوقف عن إيلامك وإذلالك، لأنك تحترف مهنة لا تأثير لها على القافلة التي لا تهمها الكلاب!

تلك اليد الصغيرة، المغطاة بالغبار والدماء هي التي ترمقك بعيون تخترقك حتى الروح وتنفضك كما تفعل الكهرباء حين تصعق أحدا، وهي بتلك الأصابع المتناهية في الصغر تلوي لسانك بأعنف الأسئلة، وتتركك فاغرا فاك لا تجد الأجوبة بتاتا. بين حروفك تقفز اليد الصغيرة لتوقف سيل أفكارك، فهذه المرة لا يمكنك أن تكتب عن الشعر، ولا عن الرّواية، ولا عن المسرح. لا عن الأحياء ولا عن الأموات من قوافل كتابنا الذين ناضلوا من أجل لحظة سلام تناسب إنسانيتهم. فكل ما حوته كتبهم لم يصل، ظل حبيس الرفوف وإلاّ ما كانت هذه اليد الصغيرة هناك تُشيِّع القتلى بالآلاف وهم يطحنون بماكنة موت مجنونة. لا الحرف، ولا الموسيقى، ولا آلاف القصائد الجميلة، هذّبت تلك النفوس الملوثة بفيروسات القتل، حمى الحرب تضرب كالوباء ولا تعرف كيف تتوقف. 

العجز الذي تشعر به ينبثق من تلك الصورة، وأنت ترى البالغ الناضج العاقل الذي يفترض أن يحمي براءة وعفة تلك الطفولة ينهال عليها بوابل من الأسلحة المتطورة. أين علامة استفهامك العالقة في حلقك؟ أين علامات التعجب المنتحبة؟ أمام ما لا يمكن أن تفهمه، أكلُّ تلك الترسانة جُهِّزت لتلك اليد الصغيرة؟ ولذلك القلب الخالي من الضغائن؟ تراه يحتاج لكل تلك القنابل والبنادق والطائرات والدول للقضاء عليه؟ ما أسهل كتم أنفاس طفل، لكن الأمر على ما يبدو صعب على الجبناء أمام براءته. طمعا في إخماد نارك ستكتب حرقتك، لكنّك لا تعرف أن فرّامة الأرواح وفزّاعة الأطفال لا تأبه بك، إنها فالتة وروح الشر ترعاها. تبكي، تصرخ، تعوي مثل الذئبة حين تفقد أبناءها، في فضائك الصغير وأنت جامد مثل آلهة حجرية، وتتمنى لو أن زمن تلك الآلهة يعود، لتهدأ نفسك وفي قناعتك أن الحجر لا يسمع ولا يستجيب، وأن الموت كان أرحم، والحروب على كثرتها ما كانت بهذا الخراب. لا تبالغ في التفكير، لا تُقَلِّب في ذاكرتك بحثا عن أسماء شرحت لك الموقف سابقا ولم تقتنع، لا تخاطب ممدوح عدوان بصوت مسموع، تمتم بما تريد وأنت تعتذر له عن «حَيْونتِك» حين كان هناك متسع للفهم ولم تفهم، قل له بقدر ما استطعت: «يا سيدي كنت على حق… فاغفر لنا جهلنا». 

ناده هو القلِق في قبره، وأخبره أن «الحيْوَنة» مصطلح بسيط أمام «وحشنة» العالم و«أبلسته». في قفار لا حياة فيها سوى ما تبقى من قطط وكلاب وزواحف خرجت من قلب الأرض. أمام ما يحدث منذ اشتعال فتيل الحرب في بغداد إلى احتراق أطفال الغوطة في أحضان أمهات مفجوعات، تنطفئ آخر شموع حضارة عريقة، تضيع قوافل طريق الحرير على خريطة لم يعد أحد يعرفها، وتدفن معاقل المعرفة كالموؤدة بدون أن تسأل. ينتهي كل شيء ونحن مبعثرون كل في منفاه، وأنت، تحديدا أنت، من أمسكت قلما منذ البداية وأردت التغيير حالِما بعودة زمن جميل عثرت عليه في الكتب، لن تجد في حوزتك اليوم غير أحرف خرساء، أحرف تصوغ بها الصمت، تخرج من دمك المهدور محتضرة، تنتهي عند عتبة شفاهك، وقد تبلغ بياض أوراقك لكنّها فاقدة لأي قدرة على تكوين المعنى.

أنت ميت!

مثل مريض ممدد في غرفة الإنعاش، تعيش على الأجهزة التي تمنحك حياة مصطنعة، حياة خالية من الشمس والهواء وزرقة الماء والسماء. منذ زمن طويل وأنت تموت يوميا، حين حُرِّمت عليك طيبات الله ومتعه، حين أصبح الجلوس على شرفتك لاحتساء قهوتك غير جائز، واصطحاب زوجتك في نزهة من المكروهات، حين أصبح إمام الجامع يفتي لك بمزيد من التقشف في أمور الحياة، وأنت الذي لم تعرف في حياتك سوى التقشف، حين تعود سعيدا ـ بحكمة القادر ـ لبيتك بعد «سهرة تقشفية» مع الأصدقاء لم تحتسوا فيها غير «الهواء» فتجد نفسك معتقلا، حين يصبح كلامك غير مباح لا سرا ولا جهرا، حين يفتح رأسك كل يوم ويُنظَّف مثلما تنظف الطناجر من لواصق الطعام، مم حينها وأنت ميت، واقف في طابور الصم البكم العمي الذين لا يفقهون، ومع هذا يلزمك مزيد من الموت ولن تفهم أبدا لماذا، فأنت بكل هذه الصفات «الجليلة» لا تهش ولا تنش، ولعلّ الذبابة أكثر إزعاجا منك في تحركاتها.

أنت مصدوم…

أنت جثة مصدومة، واليد الصغيرة لا تزال تستنجد بك، وصوت ممدوح عدوان ينبعث من قبره: «كان لي طفل بعمر الزنبقة». أنت غير واثق، ولكنه صوته، وتلك قصة كان يراها قبل حلول الخراب العظيم: «هاجت الريح وناشت زورقه، لم يكن يخشى الخطر، ظنّ أنّ الريح لن تقوى عليه، أنّها لن تغرقه، عانق البحر فلم أبصر يديه، رحت أجري لاهثا كي ألحقه، رحت أجري، كان ظل الموت مرميا أمامي، خفت أن أعثر أو أن أسبقه». كان يراك، وأنت في زمن غير زمانه، في عتمة ظلال حكام غير الذين حكموك، على بعد آلاف الشعراء الحالمين مثلك، كان ثاقب الرؤية، وقد اخترقت بصيرته كل تلك الحقبات المتراصة أمامه، رآك ورأى الطفل والبحر والموت.

ويْحه…!

رآك بكل تفصيلات اليوم المؤلمة والمخجلة، وسلّمك وصية لا تتعب نفسك بحملها، صلِّ صلاتك الأخيرة أمام الجثامين الصغيرة، واتمم مهمة موتك، فثمة وصايا لثقلها تُترك على أبواب قبور أصحابها. وأنت وقد احتلّ الموت عظامك، واستولى على جمجمتك، هل تقوى على حركة إضافية أبعد من هذه اليد الصغيرة التي تستنجد بك؟ هل يمكنك أن تجلس إلى مكتبك وتحتسي قهوتك وتكتب مقالتك الأسبوعية عن موضوع في الشأن الثقافي العربي، وتلك اليد الصغيرة تلهو بمفاتيح جهازك، وكلما قمت بالضغط على حرف، قامت بالضغط على حرف يغير توجهات أفكارك. أنت حزين جدا هذه الصبيحة، حزين ومهزوم، منتكس ومنكسر ومنهار، ليس لأنك عاجز عن إنقاذ الأيادي التي تستنجد بك، بل لأنك كاتب ضاعت منه حروفه، وتنكّرت له مفرداته، وبلغ مرحلة من الإفلاس بحيث لم يعد يعرف أن يكتب.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

وسوم: العدد 762