حِلم.. وجَهْـل

وردَ في الأثر، أن النابغة الجعدي ، قال قصيدة بين يدي النبيّ (ص) ، فيها هذان البيتان :

ولا خَيرَ في حِلمٍ إذا لمْ يكنْ له               بَوادِرُ تَحْميْ صَـفْـوَه أنْ يُـكَـدَّرا

ولا خَيرَ في جَهلٍ إذا لمْ يكنْ له              حَـليمٌ إذا ما أوردَ الأمْـرَ أصْـدَرا

فقال له النييّ (ص) ، حين سَمع هذين البيتين : (لا فُـضَّ فوك!) إعجاباً بهما ، واستحساناً لمعناهما. وقيل إنه عاش أكثر من مئة عام ، ولم تسقط له سنّ واحدة ..!

هل يحتاج هذان البيتان إلى تفسير !؟ ربّما.. مع أن معناهما واضح كالشمس ! إن معناهما متغلغل في حياتنا كلها، في سائر فروعها وتفصيلاتها ( السياسية والاجتماعية والخلُـقية..!).

أ) الحلم الزائد لدى شخص أو قبيلة أو دولة .. يُجرّئ السفهاء ، على مَن يتحلّى بهذا الحلم الزائد ، فيتطاول مَن يتطاول ، ويتَحامَق مَن يتحامق ، ويعتدي من يعتدي .. ! ويظلّ الحليم متمّسكاً بحِلمه ، لايدفع عن نفسه أذى الآخرين ..! فهل يظلّ هذا الحِلم حِلماً ـ والحال هذه ـ أم يَتحول إلى شيء آخر، ويفقد قيمته السامية .. كأنْ يسمّى مثلاً: (جبناً) أو (هَواناً) أو أيّة تسمية أخرى تناسبه..!؟

ونحسب معنى البَوادِر هنا صار واضحاً .. إنها الأفعال التي تَدفع الأذى عن الحليم ، كيلا يتحول إلى جبان ، وعن الحلم ، كيلا يتحول إلى جبن ، أو هَوان ..!

وإذا كان هذا المعنى على المستوى الفردي والقبَـلي ، أظْهَـرَ منه على المستوى السياسي ـ إذ ليس ثمّة فرد لايعرف دلالته في حياته اليومية ، وليس ثمّة قبيلة لاتعرف كنهه في تعاملها مع القبائل المحيطة بها ـ فإنه على المستوى السياسي ، لاسيّما في تعامل الدول فيما بينها ، ليس على هذه الدرجة من الوضوح ..! ذلك أن قيمته الخلقية تتحول ، في التعامل السياسي ، إلى قيمة سياسية ، تَستمدّ وزنها وحجمها من تزاوج القوّة والمصلحة ، في إطار النسيج المعقّد لتشابك القوى والمصالح ، في ساحات العمل السياسي الداخلية والخارجية..!

والنتيجة واحدة في المحصّلة النهائية ! هناك خطأ في فهم (الحِلم) وعدم استعمال الوسيلة التي تحميه وتحمي صاحبه .. وهنا خطأ في فهم (الواقعية السياسية !) ، وعدم إعداد القوّة المناسبة، لحماية المصلحة العليا للدولة..!

ب) الجهل الوارد في بيت الشعر الثاني: هو التحدّي والنزوع إلى العدوان ..

قال عمرو بن كلثوم التغلبي ، في قصيدته المشهورة (المعلّقة) ، يتحدّى عمرو بن هند ، ملك الحيرة ، في القصة المعروفة ، التي أرادت فيها أمُّ الملك إهانة أمِّ الشاعر، فغضبَ الشاعر فقتَل الملك :  ألا لا يَجْهلَنْ أحَدٌ علينا           فنَجْهلَ فوقَ جَهلِ الجاهلينا

فالجهل ، بهذا المعنى ، مطلوب في حدود الحاجة التي تقتضيه. فإذا زاد عن حَدّه وجَب أن تَتصدّى له قوّة الحِلم ، لتكبح جِماحَه ، وتكفكف من غلوائه.. وإلاّ دمّرَ نفسَه وصاحبَه ، ومَن حولَه مِن أهل الحلم ، والمجتمعَ كلّه..!

ت) عنصر الضبط والموازنة : لابدّ من قوّة تشكّل عنصر ضبط وموازنة ، بين العنصرين الحلم والجهل. والمكان الذي تَغيب عنه هذه القوّة ، يحكمه قانون الغاب ..! إذ يطغى الجهل، ويتمادى في طغيانه ، حتى يجرّ الحلم وأهله ، إلى ساحة الطغيان والتمادي والعدوان ، ويُهلك الحرث والنسل ، في دوّامة التداعيات التي يثيرها الفعل وردّ الفعل..!

وإذا كان الأفراد في القبيلة يحكمهم قانون القبيلة ، والقبائل في الدولة يحكمها قانون الدولة .. فإن الدول في العصر الحاضر، تحكمها قوانين دولية ، تنظّم العلاقات فيما بينها..

ولمّا كانت القوانين الدولية الحالية ، صادرة عن مؤسّسات دولية ، صنعتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ، لتنظّم في إطارها علاقات القوّة..كان لابدّ لهذه القوّة من أن تُطلَّ برأسها، بين حين وآخر، من هذا الطرف الدولي القويّ أو ذاك ، تجاه بعض الأطراف الصغيرة.. فتتصدّى الدول القوية الأخرى ، داخل المؤسّسة ، لحماية الطرف الضعيف ، دفاعاً عن مصالحها ، في هذه البقعة من العالم ، أو تلك..!

فإذا حَصل التجاوز دون تَصدّ له يَردعه ، حَصلت الفوضى الدولية..! وهذا مانشهد بداياته اليوم في العالم ..!

لكن .. هل الفوضى عالمية شاملة !؟ لا.. إنها خاصّة بالدول الضعيفة ، التي لم يبق في العالم توازن قوى يحميها..! ومن هذه الدول ماهو موجود في عالمنا العربي والإسلامي ، من دول ودويلات..!

وأقسى مايفرضه على بلادنا اختلالُ ميزان القوى العالمي ، في سياق بيتي الشعر المتقدّم ذِكرهما، هو محاصرة حلمائنا وجهلائنا معاً ، وفي الوقت ذاته :

*) الجهلاء يحارَبون بحجّة مكافحة الإرهاب ( وبعضُهم يعطي الحجة على نفسه، لأنه يتمادى في عدوانه ، حتى على أبناء مجتمعه وملّته ، بذريعة محاربة الفساد والطغيان في بلاده ، فيسيء أكثر ممّا يُحسن ، ويَضرب الصالح والطالح ، ويَهدم الكثير دون أن يبني شيئاً، لأنه نَدب نفسه للهدم لا للبناء ..! فيَستنفر ضدّه أبناءَ مجتمعه ، ليكونوا عوناً للقوى الدولية ضدّه ، مادام لايفرّق في عدوانه ، بين أبناء ملّته ومجتمعه ، وبين أعداء أمته، ويضعهم ـ في اجتهاد ساذج ـ في دائرة واحدة..! وإذا كانت حماسة الشباب ، هي الروح التي لاتستغني عنها أيّة أمّة ، فإن الحماقة ـ في جيل الشباب أيضاً ـ أحد معاول الهدم الفتّاكة ، التي تدمّر كيان الأمّة ، قبل أن يدمّرها أعداؤها..! فهل فكّر شباب الأمّة وعلماؤها ومربّوها وساستها .. بضرورة الفصل بين الحماسة والحماقة!؟ وهل أدرك  شباب الأمّة المتحمّسون، الذين لايشكّ أحد في إخلاصهم ـ إذ ليس ثمّة عاقل ، يشكّ في إخلاص شابّ يفجّر نفسه بحزام ناسف ، خدمة لقضيته التي يؤمن بها، أيّاً كان دينه أومذهبه ـ هل أدركوا ، أو سيدركون ، أن الحماسة والإخلاص لقضية ما، لايجعلان الاجتهاد الفاسد ، فيها أو في غيرها ، صالحاً.. ولا يلغيان حقّ المتضررين بهذا الاجتهاد، في مقاضاة مَن سبّبَ لهم الضرر،في الدنيا والآخرة..بل وفي مناصبته العداء ، حتى لوتصوّر نفسه ـ باجتهاده هذا ـ منقِذاً لهم من ضيم خارجي أو داخلي..!؟).

*)  الحلماء يحارَبون بحجّة انتمائهم إلى العقيدة التي ينتمي إليها الجهلاء ، وبحجّة الظنّ بأن بعض هؤلاء ، يساعدون بعض أولئك ، مالياً أو إعلامياً .. وربّما بحجّة تعاطفهم معهم وجدانيا..!( وغنيّ عن البيان ، أن الحلماء الذين يشكّلون عنصرالوسطية والتوازن في مجتمعاتنا ، هم صِمام الأمان وعنصر الاستقرار في هذه المجتمعات ، وعنصر الامتصاص والاستيعاب الأول ـ وربّما الوحيد ـ لسائر نزعات التطرّف والجهل، والاجتهاد المسطّح في التعامل مع الأفكار والناس..!).

*) ولو انسحب الحلماء ، أصحابُ مدرسة التوازن والوسطية ، من ساحة العمل العامّ، لاستقطب الجهلاءُ ، أتباعُ مدرسة العنف والتطرّف ، سائرَ شباب الأمّة ، واستثاروهم بسائر عناصر الإثارة الموجودة على الساحة ، وأبرزها تحدّي العدوان الخارجي، والتصدّي للفساد الداخلي ، في إطار نزعة جامحة للهدم ـ والهدم وحدَه ـ إذ ليس لهذه الفرق التي تنزع إلى العنف ، مشروع واحد للبناء ..! وهي لاتؤمن أصلاً ، ببناء المجتمعات القائمة ، أو البناء فيها ، لأنها فاسدة ..! والبناء في الفساد وعلى الفساد ، إنّما هو إضاعة للوقت الذهبي المخصّص للهدم ، من وجهة نظرها..!

*) فسبحان الله ! هل كان النابغة الجَعْدي ، ببيتيه المذكورين آنفاً ، يَستشرف مانحن فيه اليوم من (فِتَن يصبح الحليمُ فيها حَيران ) كما ورد في الحديث الشريف..! أم هي حكمة شاعر ، تشمل كل مايندرج في مضمونها من حالات ، على امتداد الزمان والمكان ..!؟

وسوم: العدد 763