في شهر التوعية الأثيرة : ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له

سيوضع كتاب أعمال كلِّ إنسان بين يديه ، ولا يستطيع أن ينكر من قبائحه الدنيوية أي شيء ، فالشهود حاضرون وأيُّ شهود هم ! ، وعندئذ : ( ترى المجرمين مشفقين مما فيه ) ، وإشفاقهم هذا بسبب سوء أعمالهم ، وبسبب تفريطهم في حياتهــــــــم الدنيوية : ( ويقولون ياويلنا مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) ، فالأعمال مدونة : ( ووجدوا ماعملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) . عندئذ رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له ، وهذه واحدة ، وهذا عنوانها ، ولسوف يُعلَمُ السببُ ، ويختفي العجب ، فإن النور والهدى والرحمة إذا غشيت الإنسان ولم يقبل بها ، وآثر ظلام المآثم ، وضلال النفس الأمارة بالسوء ، ولم يرضَ إلا بالغلظة والجفوة ، فعندئذ : ( رغم أنفه ، رغم أنفه ). ولاشك في أن صيام شهر رمضان فيه خير كثير للفرد المسلم وللأمة المسلمة ، فالصوم يزكي النفسَ ويسمو بمقاصدها ، ويطهرها من الأدران السلوكية التي أصبحت تيارا جارفا من السوء ، ومستنقعًا نَتِنًا من الموبقات ، فالنجوم هم أشخاص الغناء والملاهي والفواحش ، والأبطال هم رواد البغي والظلم والاستبداد ، وقاموس هذه الانتكاسة المؤلمة لايخفى على أحد . ومنهج الصوم الرباني يحملُ النفوس على أجنحة العفة والطهارة ، ويصوغ لها الوسام الإنساني الذي يجدد الرحمة والمودة بين أبناء الأمة ، ويُعلي راية التضامن الحقيقي بين المسلمين ، ولم تعد بعيدةً الآياتُ الكريماتُ الوارداتُ في قيم هذا الشهر المبارك ،  كما لم تعد نائية عن الناس عشرات الأحاديث النبوية التي تؤكد قدسية تلك القيم ، وآثارَها الجليلة في حياة الأمة الإسلامية .

والخبر الذي يسر النفس ، هو الخبر اليقين الذي جاءنا مَرْوِيًّـا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا الخبر الذي يفتح أبواب القبول أمام مسعى أبناء الأمة من الرجال والنساء ، وفي مختلف الأعمار ...  فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ،  وغلقت أبواب النار  ، وصفدت الشياطين ) رواه مسلم . وبعني ذلك أنك أيها المسلم أعانك الله على أسباب الفوز والنجاة ، فأبواب الجنة فُتِحت وَوَصْفُ مافيها مبثوثٌ في كتاب الله الكريم ، حيث لاعين رأت ولا أُذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وأما أبواب النار فقد أغلقت لأن رحمة الله ومغفرته أعظم وأرحب من كل ذنوب العبد إذا أناب إلى الله ، وأما الشياطين فهم مقيدون بالأغلال فلن يكون لهم قدرة على الصائم لإغوائه وجرِّه إلى المنكرات والمحرمات ، فماذا يريد العبد المؤمن بعد هذا ؟ وأمام هذا المعنى يشعر المسلم بالحرج على تقصيره ، وتشعر الأمة على تقصيرها أيضا تجاه قيم دينها التي ضيَّعتْها ، وتعلم أسباب هوانها وضعفها وقدرة عدوها عليها ، وتعلم أسباب تخاذلها بل وتَخَلِّيها عن مكانها القيادي بين الأمم .

إنَّ غيابَ الدور الريادي لأمتِنا في هذا العصر تعيدُه التوعية الإسلامية في البيوت وفي المراحل التعليمية ، وبما يقومُ به علماءُ الدعوة الأجلاء ، وأصحابُ الأقلام ِ الوفية لدين الله تبارك وتعالى ، إنَّ  تربية النشء على جميل المزايا فيها بلا ريب  تقويم للأخلاق ، وسمو بالسِّير ، وتنمية للمهارات ، وإنارة لآفاق المساعي الجادة في ميادين الأعمال المثمرة ، وشحن للهمم ، وإغناء لقدرات أبناء الأمة ، وهذه التحولات المباركة ، والتغيير في النفوس محضنها العظيم هو هذا الشهر المبارك ، شهر الهدى والندى والفرقان ، ولعلها هي التربية الربانية الفاضلة التي تُشعر المسلمين بأهمية ماوهبه الله لهم من طاقات وقدرات عقلية لاحدود لها ، كما أنها تزرع الثقة في نفوسهم ، وتدفعهم إلى خلق بيئة صالحة نظيفة  جديدة ، تُزرع فيها بذورُ القيم ، وحب العمل والابتكار واستغلال الأوقات فيما يرضي الله تبارك وتعالى .  فبيئة شهر الصوم هي ميدانُ  تسابق وتنافس على حسن الأخلاق وصدق الأداء ، والأخذ بالأسوة الحسنة  ، وإذكاء روح الإبداع الكامن في الصدور ، وهي بيئة يرضاها وتطمئن إليها الأمةُ ، التي  تحرصُ على صيانة نشأة أبنائها على مكارم الأخلاق ، والبعد عن المفاسد ومسبباتها ، ونيل ما أعدَّ الله للفتى الذي يلتحق بموكب السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة .

قد تُحدث بعضَ الشباب أنفسُهم وقد وافى الشهر المبارك ، هل نصومُ ؟ وتأتي بعضًُ الأجوبة متنوعةً تحملها الأمراضُ النفسية ، وتصوغها برَّاقةً الأهواءُ الشيطانية ، ولكن القول الفصل للإنسان هو قول الله تبارك وتعالى :  ( وأن تصوموا خير لكم) 184 /البقرة . أجل الصيام خيرٌ ، ففيه استجابة لنداء الله تبارك وتعالى ، والويل والتبار لمَن يعصي ربَّ العزة والجلال ، والصيام خير لأن في الصوم تجتمعُ العباداتُ لدى الصائم ، وتفيض أحناؤُه بالأشواق إلى ماوعد ربُّنا عزَّ وجلَّ للصائمين ، ففي الصيام عنوان جليل ألا وهو : ( التقوى ) ، ولذلك قال تعالى : ( لعلكم تتقون) 18/ البقرة . إن فوائد الصوم لاتُحصَى في سمو الروح ، وفي الرقي بالنفس الأمارة بالسوء ، وبالرحمة والمودة التي تملأ جنبات المجتمع بالخير والبر والمواساة والإيثار ، فوائد اجتماعية لاحصر لها ، وهي أيضا لم تعد خافية على جاهل أميٍّ لايعرف القراءة ، وفوائد تخص جسم الإنسان بالذات ، ففي الصوم فوائد ومنافع ذكرها علم الطب ، وفي الصوم علاج للعديد من الأمراض التي قد تودي بحياة الإنسان ، وفي الصوم درس بليغ لإعداد إرادة الإنسان وامتلاكه بقوة لزمام أمور دينه ودنياه ، فيصبح أمره بيده لابيد الأهواء ورفاق السوء الذين همُّهم وقوع هذا الإنسان بين شِدقي المقت والخسران ، فرغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له ، قبل أن يؤوب إلى بارئه ، قبل أن يهذب نفسه الأمارة بالسوء . فإنه إن لم يَؤُبْ إلى الله فقد باء بما يجلب عليه الندم يوم لاينفع الندم ، فهذا إنسان أدبرَ فلم يُرِدْ رحمةَ الله ، وتولى عاصيا وقد هدم أركان دينه القويم ، ونقض عراه ، وألبس نفسه ثوب البوار ، ووالى الشيطان وأتباع الشيطان ، فكان من المجرمين في حق نفسه ، ولسوف يعلم سرَّ الحديث : (ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له ) ، سيعلم ذلك علم اليقين ، وقد فات الأوان الذي فيه تُقبلُ التوباتُ ، وتُمحى السيئات ،سيعلم علم اليقين من التي ستدعو إليها هذا الذي أدبر وتولى ، يقول الله تعالى : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ 11 وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ 12 وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ 13 وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ 14 كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ 15 نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ 16 تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17  المعارج . فيومئذ يعلم أن التي تدعوه ــ  ولا خلاص منها ــ هي النار ، هي لظى ، وما أدراك مالظى ، فأين المهرب ــ أيها المجرم ــ لامهرب ، لافدية ، ولو قدَّمت أولادك وزوجتك وإخوانك وعشيرتك وكل مافي الحياة الدنيا فلن يُقبلَ منك ، ولن تنجو من العذاب الأليم في ردهات جهنم ...  : ( كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ 15 نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ 16 تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17 .

              قال الحسن : يقف إبليس يوم القيامة خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا ، ولْنتعرف على مايقوله الذي اتبعه ــ  هذا المجرم من أهل الدنيا ) ، هذا المجرم العاصي قد اتبع الشيطان وأطاعه ، وعصى أوامر الله التي فيها الرحمة له والفوز بالجنة والنجاة من النار : ( وقال الشيطان لما قُضي الأمرُ ) حين انتهى كل شيء ، وحُدد مصيرُ كل مخلوق : ( إن الله وعدكم وعد الحق ) بعث فيكم الأنبياء ، وأنزل الكتب المقدسة من السماء ، وهيأ لكم أسباب التوبة ، وأكرمكم أشد الإكرام ، ( و وعدتكم فأخلفتُكم ) وهنا يحتاج الشيطان أن يقهقه أمامهم وقد خذلهم اليوم بعد أن وعدهم أمس ، ( وما كان لي عليكم من سلطان ) ، لقد كان بإمكانكم أن لاتطيعوني وقد وهبكم الله العقول والبصائر والقدرة على التمييز بين الحق والباطل ، ( إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ... ) أشرت لكم أن هلموا إلى الشهوات المحرمات ، والمنكرات الفاتنات ، والعبث والاستهزاء بكل المقدسات ، فاستجبتم لي وأنتم في غاية الفرح والسعادة ، ( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) ، لن ينفعكم لومُكم لي ، ولكن لوموا أنفسكم فيه التي دفعتكم إلى فعل السوء في الدنيا ، وقادتكم إلى هذا المصير في الآخرة . ( ما أنا بمصرخكم ) ليست لي قدرة على إغاثتكم وتخليصكم من هذا المصير ، أو أن أعينكم بأي شيء  ، فلقد كفرتم عندما أطعتموني في الدنيا ، فلا مناص من هذا المآل  ، ( وما أنتم بمصرخي ) وليست لكم قدرة على إغاثتي لأنجو مما أنا فيه . فأنا أقول لكم اليوم  : ( إني كفرتُ بما أشركتموني به من قبل ) أنا بريء منكم وأنا أعلم أني عصيت الله ، ولقد ظلمنا أنفسنا جميعا : (إن الظالمين لهم عذاب أليم ) .

              إذن هذه أبواب الإنابة قد فُتحت إكراما للتائبين ، وأبواب الرحمة مشرعة للصائمين الذين أظلهم هذا الشهر وفيه ليلة القدر ، وفيه ذكريات الفتوحات وفيه الكثير الكثير من هبات الله رب العالمين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَــ. (186) / البقرة . ففي هذا الشهر : دعوة إلى تقوى الله ، والتقرب إليه بما افترض على عباده ، وأنه جلَّ وعلا قريب مجيب للسائلين .

              أخي المسلم ... أختي المسلمة ... الحذر الحذر من أن يمضي هذا الشهر المبارك عليكما وأنتما  بلا صيام ولا قيام ولا قراءة قرآن ،  الحذر الحذر من أن تلحقكما الذلة والإهانة يوم القيامة ، ارتقى النبي صل الله عليه وسلم على المنبر درجة فقال : آمين ، ثم ارتقى الثانية فقال : آمين ثم ارتقى الثالثة فقال : آمين ثم استوى فجلس فقال أصحابه : على ما أمنت ؟ قال : أتاني جبريل فقال : رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقلت آمين .فقال : رغم أنف امرئ أدرك أبويه فلم يدخلاه الجنة ، فقلت : آمين . فقال : رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له فقلت ، آمين .

أخي المسلم ... أختي المسلمة ...  لاتنسيا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) .

وسوم: العدد 773