إعلاميّو الطغاة ، وتقويم أشعب ، لأسمال أبان بن عثمان !

كان أشعب مع جماعة ، عند «أبان بن عثمان» ، المعروف بهزله، فأقبل أعرابي، ومعه جمل، وكان الأعرابي فظّ الطباع، غضوباً، يتلظّى ، وكأنه أفعى، ويتبيّن الشرّ في عينيه، لا يدنو منه أحد ، إلاّ شتمه، وصاح به ! فقال أشعب ، لأبان: هذا ، والله ، من البادية، فادعه لمجلسك.

فقيل له : إن الأمير أبان بن عثمان ، يدعوك.فدخل الأعرابي ، وسلّم.. ولمّا سأله أبان، عن نسبه ، وانتسب، التفت الى الجمل ، وقال: إنّي في طلب جمل ، مثل جملك هذا ، منذ زمن، فلم أجده ، كما أشتهي ، بهذه الصنعة، وهذه القامة ، وهذا اللون والصدر والورك ! فالحمد لله ، الذي جعلني أجده ، عند من أحبّ..أتبيعه ؟

قال الأعرابي: نعم ، أيّها الأمير. فقال أبان: إنّي سأدفع لك ثمنه ، مائة دينار، مع العلم ، أنه لا يساوي عشرة دنانير! فسرّ الأعرابي ، بهذا الثمن، وقال: كما تريد أيّها الأمير. فأقبل ابان ، على أشعب ، وقال له: ويلك ، يا أشعب، إن هذا من أهلك وأقاربك ، (يعني في الطمع)، فأوسعْ له ، ممّا عندك ، بأبي أنت ، وزيادة !.

ثمّ قال أبان ، للأعرابي: إنما زدتك ، في الثمن ، على بصيرة، وإنما الجمل ، يساوي ستين ديناراً، ولكن ، دفعت لك مائة دينار، لعدم توافر النقد ، عندي ، الآن، وإني سأعطيك أشياء، تساوي مائة دينار، وتزيد.

فازداد طمع الأعرابي، وقال: قبلت ، أيّها الأمير! فأسَرّ ابان ، إلى أشعب ، ثمّ قال له ، بصوت عال: أخرج ما جئت به ، يا أشعب ! فرفع أشعب غطاء، وأخرج ، من تحته ، عمامة بالية ، تساوي أربعة دراهم ،  فقال له ابان: قوّمها ، يا أشعب !.

فقال أشعب: هذه عمامة الأمير، معروفة لدى جميع الناس، يشهد فيها الأعياد والجُمَع، ويلقى فيها الخلفاء، وثمنها خمسون ديناراً! فقال أبان: ضعها بين يديه ، ثمّ طلب ، من أحد الحضور، أن يسجّل ثمنها، ففعل ! ولمّا سمع الأعرابي ، هذا الكلام ، كاد يتمزّق غيظاً، إلاّ انه لا يستطيع الكلام ، فسكت على مضض!.

ثمّ قال أبان ، لأشعب : هات قلنسوتي .. فأخرج أشعب قلنسوة مهترئة ، علاها الوسخ والدهن،   تساوي نصف درهم، وقال الأمير: قوّمها ، يا أشعب !.

فقال أشعب: قلنسوة الأمير، تعلو هامته، ويصلي فيها الصوات الخمس، ويجلس للحكم، وثمنها ثلاثون دنياراً ! فأمر أبان ، أن توضع ، بين يدي الأعرابي ، وأن يسجّل ثمنها، فجحظت عينا الأعرابي ، وتجهّم وجهه ، وهمّ بالوثوب، لكنه تماسك ! ثمّ قال أبان ، لأشعب: هات ما عندك أيضاً!.

فأخرج أشعب خفّين قديمين، قد نقبا وتقشّرا، فقال أبان: قومهما ، يا أشعب، فقال أشعب: خفّا الأمير، يطأ بهما الروضة، ويعلو بهما المنبر، وثمنهما أربعون ديناراً، فقال أبان ، لأشعب: ضعهما بين يديه، فوضعهما ، ثمّ قال للأعرابي: اضمم إليك متاعك، وقال لأحدالحاضرين: اذهب وخذ الجمل ...

ثمّ قال لآخر: امض مع الأعرابي، فاقبض ما بقي لنا معه ، من ثمن المتاع ! ولمّا سمع الأعرابي هذا الكلام، وثب من مكانه، وحمل المتاع المكوّم أمامه، وضرب به وجوه القوم، وقال لأبان: أتدري، أصلحك الله ، من أيّ شيء أموت ، الآن؟ قال: لا..

قال: لم أدرك أباك عثمان، فاشترك ، والله ، في دمه ؛ اذ وَلدَ مثلك!.

ثمّ نهض كالمجنون ، وأخذ برأس جمله ، وخرج !.

فضحك أبان ، حتى سقط ، وضحك كلّ من كان معه !

*

فقيم يختلف الإعلاميون ، العاملون في خدمة الطغاة ، اليوم ، في تقويمهم ، لمنجزات أسيادهم ، عن تقويم أشعب ، لأسمال الأمير أبان !؟

إن الناظر، في إعلام أيّ طاغية ، يجد ركاماً هائلاً ، من الإنجازات ، التي لاتساوي ، كلّها ، فردة من حذاء الأمير أبان !

والإعلاميون الأفذاذ ، يتسابقون ، في إبرازها ، وتسليط الأضواء عليها ، وتلميعها .. لتنخدع بها الشعوب ، وتلتفّ حول حكّامها : الحكماء ، المخلصين ، العباقرة !

فكم يسمع الناس ، ما يقوله بعض الإعلاميين ، في دولة (س) ، عن منجزات سيّدهم - وهو نموذج ، لسائر السادة ، الذين على شاكلته - :

لقد وعد السيّد الرئيس ، بأنه سيفعل كذا ، ليجعل شعبه الطيّب ، يعيش في بحبوحة ، من العيش!

لقد اتخذ السيّد الرئيس ، المفدّى ، قراراً رئاسياً ، بتوفير السلع الأساسية ، للمواطنين ، حتى يعيشوا ، في بلادهم ، أعزّة كرماء !

لقد نظر السيّد الرئيس ، في مسألة البطالة ، فأمر وزراءه ، أن يعالجوها ، من جذورها ، كي يجد كل شابّ ، فرصة العمل ، المناسبة له !

لقد فكّر الرئيس المفدّى ، بعقد اتفاقية ، مع الدولة الفلانية ، لتزوّد بلادنا ، بألف طنّ ، من المادّة كذا ، وألفي طنّ ، من المادّة الفلانية ، وخسمة آلاف طنّ ، من الموادّ كذا ، وكذا ، وكذا .. ممّا تحتاجه الأسواق ، في بلادنا ، ونرجو أن تكون ، في متناول المواطنين الكرام ، في أقرب وقت!

  ثمّ ماذا !؟ لاشيء ، سوى انتظارالوعود ، بأن تتحقق ، أويتحقق واحد منها !

وهذا ، كلّه ، على الصعيد الداخلي !

أمّا على الصعيد الخارجي ، فلكل جهاز إعلامي ، برامجه الخاصّة ، حول إنجازات سيّده !

بعضهم يثرثر، بالمقاومة والممانعة ، بعد أن كانت الثرثرة ،  بالصمود والتصدّي ، بينما طائرات العدوّ ، تسرح وتمرح ، في سماء بلاده ، وتقصف أيّ هدف تشاء ، دون أن يحرؤ، على التصدّي لها ، بغير ترديد المقولة ،  الممجوجة التافهة : نحن نحتفظ بحقّ الردّ ، في الزمان والمكان المناسبين !

وبعضهم يهذي ، باتفاقات ومعاهدات ، مع بعض الدول العظمى ، للدفاع المشترك !

ممدوح عدوان ، الأديب السوري المعروف ، الراحل ، قال ، في بداية الثمانينات ، من القرن المنصرم : أنا أخجل من إعلام أعمل فيه ؛ لكثرة مافيه من الكذب ! إنه يكذب ، حتى في درجات الحرارة .. بل يكذب ، حتى في إخفاء الكوليرا .. هل في الدنيا أحد ، يخفي الكوليرا !؟

  رحم الله أشعب ؛ فقد كان أبرع ، في تسويق أسمال أميره ، من إعلاميي الطغاة المعاصرين ، في تسويق ، أسمال الوعود الرخيصة ، لأسيادهم !

وسوم: العدد 785