سورية بين طغيان نظام سادي وثورة شعب يتوق للحرية

الحلقة الأولى

إن نشوء الأزمة، بين النظام السادي الحاكم؛ والشعب السوري المقهور بدأت منذ اغتصابه للسلطة في دمشق في الثامن من آذار عام 1963. فالأزمات التي تعترض مسيرة الأمم عادة ما تكون كثيرة. فالأطماع والمخططات منسوجة على قياس كل كيان، وبالعودة إلى مصطلح الأزمة، نجد أن الأزمة تعني، مجموعة الظروف والأحداث المفاجئة، التي تنطوي على تهديد واضح، للوضع الراهن المستقر، في طبيعة الأشياء، وهي النقطة الحرجة، واللحظة الحاسمة، التي يتحدد عندها، مصير تطور ما، إما إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ. ونقف هنا لنتساءل ما هو سبب نشوء الأزمة؟

مؤكد أن التخلف والجهل، والفقر، وتردي التعليم، وهبوط مستوى الصحة، والتطرف والجريمة المنظمة، والبطالة، وتعارض المصالح والابتزاز، وتقريب أطراف وإقصاء آخرين، والحجر على العقول، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، وإقصاء الرأي الآخر، والهيمنة على وسائل الإعلام، والاستئثار بالحكم، والهيمنة على اقتصاد الوطن وثرواته، وتفشي الفساد الأخلاقي والمادي، ومنع التداول السلمي للسلطة، والكثير غير ما ذكرنا، وكلنا عشنا حالة مفرداته وتفاصيله.

كل هذه العوامل تساعد على إشعال فتيل الأزمة. وبهذا، فالأزمة نتاج تفاعل أسباب وعوامل، أدت إلى نشوئها.

وبذلك تكون الإدارة الرشيدة للأزمة، هي تلك التي تضمن، الحفاظ على المصالح الحيوية للفرد، وللدولة، وحمايتها. فمنذ القدم، كانت إدارة الأزمات، مسألة قائمة بحد ذاتها، وكانت مظهراً من مظاهر التعامل الإنساني، مع المواقف الطارئة.

وفي سورية اليوم، ثورة شعبية، يرفض النظام الاعتراف بها، ويقول: إن هناك في البلاد أزمة، نتيجة مؤامرة كونية عليه، وإذا ما سلمنا بقوله، أن ما يحدث في سورية هو أزمة، فلابد لنا من أن نتعرف، على كيفية تعامله مع هذه الأزمة، ولابد عند الحديث عن كيفية تعامل النظام السوري القائم، مع هذه الأزمة، أن نعود إلى الوراء، لنتلمس حقيقة نشوء هذه الأزمة، وهذا يتطلب منا، الحديث عن سورية الجغرافيا والتاريخ، وأوضاع سورية ما قبل النظام، الذي شكله حافظ الأسد، مع بدايات السبعينيات من القرن الماضي، قبل الحديث عن النظام المستنسخ عنه، بوراثة ابنه بشار للحكم من بعده.

جغرافية سورية

على مدى التاريخ، كان هناك اسم "سورية الطبيعية"، وهذا الاسم، يضم بلاد الشام/ سورية الحالية، إضافة إلى (لبنان وفلسطين والأردن)، وقد أكد أكثر الجغرافيين، أن اسم سورية الكبرى، متطابق مع مصطلح "بلاد الشام".

وبناء على ما أكده الجغرافيون، فإن سورية الكبرى، تمتد من جبال طوروس شمالاً، حتى خليج العقبة وصحراء سيناء جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً، حتى العراق شرقاً. وهذا الامتداد، يقع بين خط عرض (29,5) درجة، إلى (37,5) شمالاً، ومن خط طول (36) درجة، إلى (42) شرقاً.

وقد ظل هذا المدلول الجغرافي، للحدود الطبيعية لسورية الكبرى، ممتداً وحاضراً، منذ فجر التاريخ، وحتى مطلع العصور الحديثة، وقد اعتمد العثمانيون بلاد الشام، اصطلاحاً موحداً للمنطقة، وقسموها إلى ثلاث ولايات، وثلاثة سناجق، وهي: (ولاية دمشق، وولاية بيروت، وولاية حلب) و(سنجق القدس، وسنجق جبل لبنان، وسنجق دير الزور).

وقد أشارت خرائط الدول الاستعمارية، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، إلى الوحدة الجغرافية لسورية الطبيعية، كما أشارت إلى ذلك مراسلات الحسين – مكماهون(1)، كما أكدت على ذلك لجنة (كينغ – كراين) الأمريكية، المنبثقة عن عصبة الأمم، التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى، والتي زارت سورية عام 1919م (2).

وقد أوصت اللجنة، بضم فلسطين إلى سورية الموحدة، وأكدت على ذلك، في تقريرها الذي رفعته الى عصبة الأمم، وجاء في التقرير:

"إن الوحدة الاقتصادية، والجغرافية، والجنسية لسورية، من الوضوح، بحيث لا يمكن تبرير تقسيم البلاد، خاصة أن لغتها، وثقافتها، وتقاليدها، وعاداتها عربية في جوهرها، وإن توحيد سورية، يتماشى مع أماني السكان، ومبادئ عصبة الأمم المتحدة".

إلا أن ما جرى عملياً، غير ما قالته لجنة (كينغ – كراين) وأكدت عليه، فقد اتفق الحلفاء، (إنكلترا وفرنسا وروسيا) عام 1915، على اقتسام (الدولة العثمانية)، تحت مسمى، "تركة الرجل المريض"، بموجب معاهدة (بطرس برغ)(1)، تبعه اتفاق بين فرنسا وبريطانيا عام 1916، فيما عرف باتفاقية (سايكس – بيكو)، على اقتسام سورية الكبرى، (شمالها – سورية الحالية مع لبنان)، تكون من نصيب فرنسا، و(جنوبها – فلسطين والأردن)، تكون من نصيب بريطانيا(2). وفضح هذه الاتفاقية، قادة الثورة البلشفية، التي قامت في روسيا، بعد القضاء على الحكم القيصري.

---

1-للمزيد من المعلومات يرجى العودة إلى هذه المراسلات – كتاب الحياة السياسية في سورية (العهد الفيصلي)-محمد فاروق الإمام-دار الأعلام-عمان- ص (38-54)

2-نفس المصدر – ص – (157 – 163)، وكتاب الحياة السياسية في سورية (عهد الانتداب الفرنسي) لنفس المؤلف –ص (73-82).

وفي سنة 1917 صدر وعد بلفور، الذي تعهد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين(3)، وفي عام 1920 كانت معاهدة (سان ريمون)، التي وضعت سورية الحالية ولبنان، تحت الانتداب الفرنسي، ووضعت سورية الجنوبية (الأردن وفلسطين)، تحت الانتداب البريطاني.

فرنسا وبريطانيا ترسمان الحدود السورية

اتفقت كل من بريطانيا وفرنسا، على ترسيم الحدود بين الكيانات التي أقامتها في المنطقة، وذلك بحسب مزاجهما ومصالحهما، بما يكفل تمزيق النسيج المجتمعي للشعب السوري. ثم ما لبثت فرنسا أن تخلت، عن فكرة الحدود الطبيعية بين سورية وتركيا، فجعلت من سكة حديد قطار الشرق السريع، حدوداً بين البلدين، وبذلك أعطت كل المدن السورية، شمال هذا الخط لتركيا، وذلك في عام 1920.

كما قامت بريطانيا عام 1922، بالاتفاق مع فرنسا، بترسيم الحدود بين فلسطين وسورية بما يُدخِل، كل مياه نهر الأردن، وبحيرة طبريا داخل فلسطين، وذلك خدمة منهم للكيان اليهودي، الذي وعدت بريطانيا بقيامه على أرض فلسطين.

وفي آب 1920، عينت فرنسا حدود لبنان الكبير، وضمت إليه الأقضية السورية الأربع، وهي: (بعلبك، والبقاع، وراشيا، وحاصبيا)(4).

وأقام وحدة بين دولة دمشق ودولة حلب، في كانون الثاني 1925(5). كما تم اعتبار سنجق الإسكندرونة، منطقة منفصلة إدارياً عن سورية، وسن له نظاماً أساسياً خاصاً به، في تموز 1922(2). ومن ثم اتخذ الانتداب الفرنسي، قراراً مجحفاً، بتنازله عن لواء اسكندرون، ومنحه إلى تركيا، في تموز 1939(3)، من خلال استفتاء يشك في نزاهته.

---

1-الحياة السياسية في سورية – العهد الفيصلي – المصدر السابق – ص (119).

2-نفس المصدر – ص (114 – 117).

3-نفس المصدر – ص (121).

4-الحياة السياسية في سورية (الانتداب الفرنسي) ص (31 – 32).

5-الحياة السياسية في سورية – الانتداب الفرنسي –ص (32 -93).

هذه الجغرافيا الديمغرافية لسورية ككيان، حدده الانتداب الفرنسي، وشريكته بريطانيا، كانت بما تملك، من إمكانيات جيدة وكبيرة، يمكنها من خلالها، تحقيق كيان متقدم ومزدهر: عدد سكانه عند استقلال سورية عن فرنسا، (2,5 مليون نسمة)، ومساحته (185 ألف كم2)، تضم (أراض خصبة وسهلة الاستغلال)، و(مياه وأنهار وأمطار)، و(فلاح نشيط)، و(عامل ماهر)، و(موقع متميز، بالنسبة لمفترق طرق الحضارات القديمة)، و(حلقة وصل هامة، بين السواحل والمناطق الداخلية السورية والعربية)، و(ازدياد أهمية الموقع، بعد الاكتشافات الهائلة للنفط، في العراق، وفي السعودية، ودول الخليج، إذ أصبح الكيان السوري الوليد، طريق عبور للنفط المستخرج، من هذه البلدان، إلى ساحل البحر المتوسط).

كل ذلك، إلى جانب ما حباه الله، من مناطق اصطياف جميلة وخلابة، في جميع مناطقه الداخلية والساحلية، وما خلفت الحضارات القديمة المتعاقبة، من آثار فريدة ومتنوعة، قل نظيرها، تتوزع من صحراء الشام شرقاً، وحتى ساحل المتوسط غرباً، ومن جبال طوروس شمالاً، وحتى سهول حوران جنوباً، حيث يسكن التاريخ، وجمال الطبيعة، والمناخ المعتدل، كل أنحاء سورية، وهذا ما جعل القوى الكبرى العالمية والإقليمية، التنافس على بسط نفوذها عليها.

المشهد السياسي بعد الاستقلال

لا نريد أن نوغل في التاريخ بعيداً، وسورية أرض الحضارات، التي تمتد لأكثر من عشرة آلاف عام، فقط.. نكتفي بالمرور سريعاً على تاريخ سورية الحديث، الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، حيث كانت نجاحات الحركات القومية في أوروبا، تفعل فعلها، بين الشعوب المنضوية، تحت لواء الخلافة العثمانية، وظهور جماعات من الأتراك، تنادي بالقومية التركية، على أساس (الرابطة الطورانية)، وكانت هذه الجماعات، متعصبة لقوميتها، إلى درجة الاستهزاء بالقوميات الأخرى واحتقارها، وخاصة القومية العربية، بعكس ما كان يفعل سلاطين هذه

الدولة العثمانية العظيمة، التي قدمت الحماية للعرب مشرقه ومغربه، لأربعة قرون متعاقبة، كان فيها للعرب دور بارز، في إدارتها وجيشها، ونذكر على سبيل المثال: المستشار الأول للخليفة العثماني السلطان عبد الحميد الثاني، طيب الله ثراه (أحمد عزت العابد)، الذي كان يلقبه الاتحاديون، بحاكم الدولة العثمانية الحقيقي، ناهيك عن مئات الضباط العرب، من قادة الجيوش، والفيالق العثمانية.

وقامت الثورة العربية الكبرى، بقيادة الشريف الحسين بن علي، في العاشر من حزيران 1916، وقد قيل الكثير مما يجانب الحقيقة عن هذه الثورة، ولكن المقام لا يسمح بالحديث عنها، وقاد الأمير فيصل بن الحسين، جيشاً عربياً على رأسه الضابط العراقي (نوري السعيد)، وتوجه به إلى سورية، فتمكن من دخول دمشق يوم 30 أيلول 1918، بدعم من حليفه الجيش البريطاني، واستقبلته حشود السوريين، التي غصت بهم شوارع دمشق، والتي قدمت من جميع المدن السورية قبل أيام، ورُفعت الراية العربية، على سارية مبنى البلدية في دمشق. وفي تشرين الأول 1918، أعلن الأمير فيصل،

إقامة إمارة عربية في دمشق، وشكل حكومة تدير أمور البلاد، برئاسة (رضا باشا الركابي)(1).

بعد أن استتبت الأمور في سورية، وهدأت العواطف إلى حد ما، شكل الأمير فيصل حكومته الأولى، وأناط بها شؤون الحكم، وتصريف الأمور، واستتباب الأمن والنظام، واستطاع الرعيل الأول من الوطنيين السوريين، التصدي لهذه الأعباء الجسام، والنهوض بالحكم، حيث تم تعريب الدواوين، وعني بإعداد المعلمين وتسهيل التعليم.

وتم إنشاء (المجمع العلمي العربي)، وأعيد فتح المعهد الطبي، الذي أغلق بسبب الحرب، كما فتح معهد الحقوق، ليكون نواة الجامعة السورية(2)، وفي السادس من أيار 1920، أعلن المؤتمر السوري - الذي ضم ممثلين عن كافة أطياف الشعب السوري، العرقية، والدينية، والمذهبية – أعلن استقلال سورية، وأعلن تنصيب الأمير فيصل ملكاً عليها(3)، وفي التاسع عشر من تموز 1920، وضع المؤتمر السوري، دستوراً عصرياً للمملكة السورية الوليدة(4)، وكان من أرقى الدساتير في العالم، حضارة ورقياً، وعدالة، وديمقراطية.

ولكن الدول الاستعمارية، أبت أن ترى قيام دولة عربية عصرية، تنافس دول الغرب، من خارج محيطها، وهذا ما دفع فرنسا إلى غزوها بجيوشها الجرارة، ودخول غورو قائد هذه الجيوش دمشق، في 25 تموز 1920، بعد مقاومة عنيفة من السوريين، بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة، الذي استشهد على ثرى ميسلون، وهو يدافع عن الوطن، في ملحمة فريدة، حتى الرمق الأخير(5).

وبعد أن أعلن عن استقلال سورية عام 1943م، ونوالها استقلالها عن فرنسا فعلياً عام 1945، وتم جلاء آخر جندي فرنسي عن ترابها، في السابع عشر من نيسان 1946، كانت سورية أول دولة عربية، تنال استقلالها الكامل، وكانت هذه الدولة الوليدة، تواجه في وقتها عدة تحديات، منها:

أ-صراع القوى الكبرى على النفوذ فيها.

ب-صراع عربي – عربي على النفوذ فيها، بين شد وجذب، بين العراق والأردن الهاشميين من طرف، والسعوديين من طرف آخر.

ج-تحقيق اللحمة الوطنية بين السوريين، والهوية السورية الجامعة، بعد أن زرع الفرنسيون بين نسيجها العرقي والديني والمذهبي، محاولات الفرقة، وزرع الأحقاد والضغائن.

د-وجاء التحدي الأصعب، بولادة الكيان الصهيوني في فلسطين، وتفرق الصف العربي، حول الأسلوب الأمثل في إعادة تحريرها.

---

1-الحياة السياسية في سورية (العهد العثماني) – ص (90 – 108).

2-الحياة السياسية – (العهد الفيصلي) ص – (53-54).

3-نفس المصدر – ص (184-188).

4-نفس المصدر – ص (196 – 213).

5-الحياة السياسية في سورية (الانتداب الفرنسي) – ص (26).

وسوم: العدد 792