وثيقَةُ الحُديبيَّةِ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

يَبقى صُلحُ الحُديبيةِ وثيقةً ومرجعيِّةً تاريخيِّةً رائدةً للدبلومَاسيِّةِ والسيِّاسيِّةِ البشريِّةِ الراشدةِ .. ومن مشاهدِها وعِبرِها: ما كان في الطريقِ من المدينةِ إلى مكةَ حيث خَلأَتْ (حَرَنَت) القصواء أي ناقةُ رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  فقَالوا: خَلأَتْ القَصْواءُ ..فقالَ صلى الله عليه وسلم :" لا مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ" ثم قال: يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا" فَطمأنَ بذلك النًّاسَ أنَّه لا يُريدُ حرباً بل يَمدُ يَدَه للسلامِ .. وأنَّه لا يُريدُ بمكةَ وأهلَها شراً كما كان شأنُ حملَةَ الفيلِ(حبسَها حابسُ الفيلِ) وتَفَّهَمَت قريشٌ الرسالة .. وبَدَأت تُرسِلُ الوفودَ للحوارِ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فكان يتعامل معها بدبلوماسية رفيعة دون التفاوض ..لأنَّه لمْ يكن يَجد في الوفودٌ من يملكُ  القرار ..ولمَّا حطَّ رِحالَه في الحُديبيةِ أرسلت قريشٌ (عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ) وهو رَجُلُ حَربٍ .. فأدركَ رسول الله مغزى الرسالةِ فأمرَ أنْ يَستقبلَه وهو بينَ أصحابِه وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مُدجج بالسلاحِ إلى جَنبهِ.. وأرادَ عُرْوَةُ أنْ يختبرَ المعنوياتِ فقالَ: لِرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :( لَكَأَنِّي بِهَؤُلَاءِ قَدْ انْكَشَفُوا عَنْكَ غَدًا)..فردَّ عليه الصديق القويُّ الوَقُورُ أبو بكرٍ رضي اللهُ عنهُ قائلاً:(امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ .. أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ عَنْهُ .. ؟) ومدَّ عُرْوَةُ يَدَه يُريدُ مسَّ لحيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينال من هيبته ..فقرع الْمُغِيرَةُ يَدَه بعَقبِ رُمحِه قائلاً له: ( أَمْسِكْ يَدَكَ عِنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ وَاللَّهِ لَا تَصِلُ إِلَيْكَ).فتفَّهمَ عُروةُ الرسالةَ ونَقلَها إلى قُريشٍ قائلاً:" يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ..إنِّي جِئْتُ كِسْرَى فِي مُلْكِهِ .. وَجِئْتُ قَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِمَا.. واللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي أَصْحَابِهِ .. لَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءٍ أَبَدًا ..فَرُوا رَأْيَكُمْ" وتَفَّهَمت قُريشٌ الموقفَ تماماً.. فَبعثَت سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وهو صاحبُ قرارٍ فيهم ..فَلمَّا رآه رسُولُ اللهٍ صلى الله عليه وسلم قالَ: " قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ" فاستقبلَه وفاوضَه وتجاوزَ كُلَّ المُعوِّقاتِ التي تحولُ دونَ بلوغِ الغاياتِ الاستراتيجيِّةِ في خطتِهِ صلى الله عليه وسلم.. واعترضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه على الوثيقَةِ لِقسوةِ بُنودِها قائلاً :"فَعَلَامَ نُعْطِي الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا ..؟ " فردَّ علَيه القائد الملهم :" أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ .. لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ .. وَلَنْ يُضَيِّعَنِي". وهم كذلك في جدلٍ حولَ الوثيقة وصلَ أَبُو جَنْدَلِ ابن سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو.. وقد حرَّرَ نفسَه من سُجونِ قُريشٍ ..فقال سُهَيْلٌ: يَا مُحَمَّدُ ، قَدْ لُجَّتْ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا قَالَ له :"صَدَقْتَ" فقال سُهَيْلٌ : رُدَّه لقُريشٍ.. وَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ .. أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي ..؟ فَازدادَ الأمرُ تَأزُّماً.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا جَنْدَلٍ.. اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ .. إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا .. وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ" وفي العودة أنّزلَ اللهُ قولَهُ: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ". أجل إنَّهُ لفتحٌ وفتحٌ كبيرٌ .. حقنَ اللهُ به دماءَ النَّاسِ ..مُشرِّعاً بذلك منهجيةِ الحُكمِ الراشيدِ لدولةِ الحقِ والعدلِ والتعايُشِ الأمنِ بينَ النَّاسِ.. كما أصلّتها وقَنَّنتَها وثيقةُ المدينةِ الراشدةِ.. وبعدُ : فَهْلاَ تأملَ الناسُ كُلٌّ في مُوقِعهِ ..وكُلٌّ على قدرِ مَسؤوليِّتِهِ هذه الوثيقةَ الراشدةَ ..؟ آملُ ذلك .. واللهُ المُستعانُ.

وسوم: العدد 799