لماذا ثورة الشعب السوري؟

د. سماح هدايا

 .... فوضى الغوغاء والقطيع وإعادة إنتاج الإرهاب الديني ...وحصار بالهزيمة والفشل. والذين يقولون بفشل الثورات وإرهابها وغوغائيتها، أغلبهم ممن فاجأهم طوفان الثورة وجاء أبعد من توقعاتهم.

 في ربيع آذار رفع الشعب السوري صوته ضد الاستبداد والفساد والذل، أطلق غضبه على صمته، وثار على جلاديه وعلى تاريخ طويل من المجزرة الإنسانية التي كانت تجري بصمت وشمولية، وتحوّل المغلوب على أمره إلى طاقة تحد لقوى البطش؛...وخلع عنه التخاذل، يطالب بتغيير حقيقي لذاته ومجتمعه وواقعه وغده.

المجتمع كان يغص بالمتناقضات الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والسياسية والانقسامات.. فالعشوائيات انتشرت في المدن التي غصت بالفقراء والمفقرين والنازحين من الأرياف الفقيرة المهملة. التخلف والفساد سيطرا على كل شيء: العلم والمعرفة والفكر والعمل والإنتاج والسياحة والعيش. وبدت التناقضات بين أطياف المجتمع وطبقاته حادة. وراحت المتناقضات، تصطدم بالواقع وتصدم الفرد والأسرة والعائلة والمجتمع.

 الناس فقدت فهم غيرها، وعجزت عن التواصل المتطور مع الآخر بسبب الجشع والقهر والإفساد . واتسع الصراع الفكري والقيمي بين أجيال في جيل واحد ومرحلة عمرية واحدة، ففي الجيل نفسه عقليات كثيرة متناحرة: رجعية، وجديدة وتقليدية ومنطوية ومنفتحة. بالإضافة إلى احتدام الشرخ الأسري بين العقليات والأجيال: بين القديم والجديد. بين المطلع المنفتح وبين القابع في قوقعة حدوده الضيقة المرسومة اجتماعيا ودينيا واقتصاديا وسياسيا. دعم ذلك كله واقع اقتصادي صعب: اقتصاد مترنّح لا يمنح الشباب وصغار الكسبة والحرفيين سوى فتات الفرص والمكاسب؛ فلا مستقبل واضح للمهنيين وللمتعلمين.. شهادات مكدسة بلا عمل. بطالة. نصب واحتيال وفساد لتأمين العيش.

 للتفكير الاجتماعي مكونات كثيرة. والدين أحد المكونات، كان يعاني، مثل غيره، من أزمة حقيقة تتطلب التماشي مع واقع الحياة والظروف المستجدة التي بعيشها البشر. لكنه ظل طي العقل الرجعي أو السلبي.. جزءا من المؤسسة الحاكمة ضد التنوير والتجديد. أسهم في قمع الشباب الباحث عن تحديث. والقضاء فاسد جدا. والتشريعات بالية. الرشوى والمنصب والأمن والمخابرات والمحسوبيات تتحكمّ بكل شيء.

 الحريات الشخصية مراقبة بشدة. والرأي محاصر قسريا بمفاهيم ثابتة. الذات تكسّرت على خيبات الإحساس بالنقص والعجز عن تطوير الطاقات والظروف؛ الإنسان بلا قيمة .الرأي الفردي والعام لايؤخذان بالحسبان بل يجري كتمهما. لا قرار للفرد أو المجتمع. القرار للحاكم واحد نظامه. يتحكم بالبشر.. الثورة خرجت لتعطي الإنسان قيمة وكرامة وحرية، كبرياء ذاتيا ووطنيا.

الواقع سياسي قاس، فلا حريات سياسية ولا حرية رأي سياسي مستقل عن تنسيق النظام وأجهزته الأمنية وأحزابه العميلة. لا حقوق لكثيرين. والكيل بمكاييل كثيرة ضمن تحاصص الطائفة والعشيرة والنفوذ المالي لا عدالة اجماعية وسياسية. طبقة من منتفعي النظام وطائفته وعصابات تتحكم في الوظائف والاقتصاد والأمن والتعليم والإعلام والحراك المجتمعي.

 الناس كانت بحاجة لتطوير كل شيء وتجديده، ليتماشى مع الحياة الكريمة والنبيلة والصالحة. وكانت بحاجة لتطوير مجتمي اجتماعي وفكري وديني ومعرفي واقتصادي وسياسي. الثورة في سوريا حراك ذاتي شعبي وحقيقة تاريخية، أخذت شكل الانتفاض على نظام متحوصل في عصابات مجرمة فاسدة رجعية متكالبة على السلطة القائمة بالقهر . وقد اجتمعت مطالب الحرية الفردية والحريات العامة وحرية الرأي والمشاركة السياسية الحقيقية، بالإضافة مطالب العيش الكريم العادل والنهضة والتحديث لكي تشعل فتيل الثورة.

 صحيح أن فصولا جديدة من المجزرة انفتحت على الثورة تحت منطقات طائفية عنصرية وعرقية، كان ومازال يؤسس لها النظام لأسدي مستندا إلى القوة العسكرية والأمنية لكي يحسم الواقع لصالحه عبر سياسة التوحش الأمني ، لكن زمن الرجوع للوراء انتهى . الثورة قطار يتقدم نحو الحرية. هل تعود القطارات إلى الوراء؟ الشعب كسر الخوف . ولم يعد أمامه إلا الصمود والتحدي والمقاومة. السير في درب الثورة حتمية التحرر والنهضة. التغيير استحقاق وهو قادم، والنظام، مهما اشتد توحشه وتصلبه سيسقط. هناك وقائع مأساة تحاصر الثورة والحاضنة الشعبية بالإخفاقات والانحرافات وحسابات الولاء والفساد وسوء الإدارة. لكن النصر مرتبط بالإيمان والثقة وصمود الإرادة الشعبية. والمنتظر تطوير أدوات مقاومة جديدة شعبيا وسياسيا وعسكريا لترسيخ فكر جديد ومسؤوليات عمل ميدانية ومجتمعية.