دور اليهود العرب في مآسي الفلسطينيين

في 2 يونيو من هذا العام سئل الزعيم العراقي مقتدى الصدر عن رأيه في عودة يهود العراق إليه ثانية ، فأجاب : " إذا كان ولاؤهم للعراق فأهلا بهم " ، ولاشك  أن المقصودين بالسؤال هم اليهود الذين هاجروا من العراق إلى إسرائيل . ويوم الاثنين امتدح النائب البرلماني العراقي فائق الشيخ علي يهود العراق ، فقال إنهم : " كانوا مسالمين ، قدماء ، محبين للعراق وشعبه ، تجارا ، أدباء ، فنانين ، أصحاب ذوق رفيع " ، ونسب إلى حزب البعث إساءة معاملتهم ، وحزب البعث لم يكن موجودا في الحكم في 1951 حين هاجرت أكثرية يهود العراق الذين كانوا 2 % من سكانه إلى إسرائيل . وفي عهد حزب البعث كان قائد إحدى فرق المدرعات العراقية التي اندفعت لنجدة سوريا في حرب 1973 يهوديا . كلام مقتدى الصدر والنائب فائق يأتي في مناخ التطبيع الذي تعيشه إسرائيل مع بعض الدول العربية ، ومنها أربع دول خليجية هي السعودية وعمان والإمارات وقطر . ومجمل الأمر يطرح قضية اليهود العرب للنظر والبحث والتساؤل عن مآلاتها في مناخ التطبيع ، ويدفع إلى فتح خلفياتها التاريخية . وتمنح إسرائيل هذه القضية اهتماما كبيرا تحيطه بكثير من الصمت تحينا لتفجيره في الوقت المناسب ، ويخص هذا الاهتمام ما تسميه تعويض يهودها العرب عن ممتلكاتهم في الدول العربية  . وفي البعد الفلسطيني لهذه القضية ، نرى لليهود العرب دورا كبيرا في ما أصاب الفلسطينيين من مآس تاريخية رهيبة ، وتحديدا بعد إقامة إسرائيل . منذ هذه الإقامة ، اتسعت هجرة اليهود العرب إلى الدولة اليهودية الوليدة ، وأكبر موجاتها جاءت من المغرب والعراق ، ودفع هذه الموجاتِ رغبةُ إسرائيل النهمة المتلهفة في زيادة عدد سكانها الذين كانوا 650 ألفا وقت قيامها ، وشعور العداء الذي شاع في الدول العربية تجاه اليهود بسبب اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها . ولم يكن هذا الشعور كافيا لدفعهم كلهم إلى الهجرة ؛ لأن التمسك بالوطن فطرة إنسانية ، ولجودة حال أكثرية يهود الدول العربية في الجانب المعيشي ، فعمدت إسرائيل بوسائل غير مشروعة لتهجير من لم يحب الهجرة إليها منهم ، ففجرت مخابراتها عددا من بيوتهم ومحالهم التجارية ، ونسبتها إلى مواطني الدول العربية من غير اليهود ، ودفعت الرشاوى لبعض المسئولين العرب لتسهيل هجرة يهود بلادهم إليها . أما قبل قيام إسرائيل ، وعلى مسار تاريخي طويل ، فعاش اليهود العرب أكرم وأسلم معيشة في البلاد العربية والإسلامية ، وتولوا فيها أرفع المناصب ، وصدق كثيرون منهم في الولاء لها . وقبل قيام إسرائيل ، ذهبت جولدا مائير مع بعض أقطاب الحركة الصهيونية إلى يوسف قطاوي الذي ولي وزارة المالية في 1924 ، ووزارة المواصلات في 1925 في مصر ، ودعته إلى الهجرة إلى فلسطين ، فغضب غضبا شديدا ، وهدد الوفد بإرسال كلابه  عليه إذا لم يسرع بالانصراف ، وقال له إنه مواطن مصري .

وعارض ابنه رينيه الحركة الصهيونية بنفس شدته ، وحذر يلون كاسترو المشرف على فرعها في مصر من دعوة يهود ها للهجرة إلى فلسطين خوفا من الإساءة إلى علاقتهم الحسنة مع السلطات المصرية . الحركة الصهيونية التي يقول عنها بن جوريون إنها في الأساس حركة غربية أوروبية ؛ جنت جناية كبرى على يهود الدول العربية بإيجاد ظروف ومسببات هجرتهم إلى الدولة التي أقامتها ، أي إسرائيل ، وشبههم  بن جوريون بالزنوج الذين جلبهم المستوطنون الأوروبيون إلى أميركا للعمل سخرة لديهم . وإذا كان يهود أوروبا فروا مهاجرين إلى فلسطين خوفا من ألمانيا الهتلرية ، مع ما في هذا من مبالغات ، فما موجب هجرة اليهود العرب إليها سوى رغبة الصهيونية  في تسمين الدولة الصغيرة التي أقامتها غصبا وجريمة ؟! أليس حماقة تاريخية كبرى وخسارة سافرة أن يترك اليهود العرب في مواطنهم العربية 79 ألف  كم مربع من الأرض ؟! أي ثلاثة أضعاف مساحة فلسطين تقريبا ، ويلقوا أنفسهم في جحيم صراع موصول ؟! ويوقعوا الفلسطينيين الأبرياء في كل هذه المآسي الرهيبة ؟! هم ، وسط موجات التضليل والتكريه العنصري ، انتقموا من الفلسطينيين غضبا من العرب ، والمشهود أنهم في الجملة أقسى من اليهود الغربيين في تعاملهم مع الفلسطينيين . وبعد عدوان 1967 تولوا مناصب متعددة في الإدارات الإسرائيلية للأراضي العربية المحتلة ، وانخرط كثيرون منهم في أجهزة الاستخبارات خاصة الشاباك لمعرفتهم للغة العرب وعاداتهم ، وأساؤوا للأسرى العرب بعدوانية انتقامية مستثئرة . وقليل منهم وعوا حقيقة الحركة الصهيونية ، وأنها ضرتهم مثلما ضرت الفلسطينيين وبعض العرب ، وحافظت هذه القلة على لغتها وثقافتها العربية بحب وحنين ، ومنها الكاتب العراقي سامي ميخائيل الذي أقر معتزا بأنه لا يستطيع نسيان أن العربية لغته الأم . وإذا اتسع التطبيع العربي مع إسرائيل واستقر فالنهاية الفاجعة ستكون للفلسطينيين ولو لزمن منظور : خسارة أرضهم وقومهم . والواقعُ الصدمةُ أنه حتى قبل اتساع التطبيع وجهريته ورسميته مع دول عربية جديدة يلقى اليهود الإسرائيليون معاملة يتمناها  الفلسطينيون خاصة فلسطينيي غزة ، ولا يبلغونها . الإسرائيليون يزورون مصر والأردن والمغرب وتونس ودولا عربية سواها بسهولة وسلامة يحرمهما الفلسطيني ، وبهذا ، وبما سيأتي مثله في مناخ التطبيع ، تكتمل دائرة المأساة الفلسطينية . والعدالة الكبرى ، العدالة الحقيقية ، أن يعود إلى الدول العربية من يريد العودة إليها من يهودها الإسرائيليين وفق شرط مقتدى الصدر . إنه  شرط عادل وسليم ، فولاء المواطن يجب أن يكون لبلده بغض النظر عن عرقه الأصلي ودينه وفق ثنائية الحقوق والواجبات التي هي قوام المواطنة . ويقابل عودة اليهود العرب الإسرائيليين إلى مواطنهم العربية الأصلية عودة الفلسطينيين إلى وطنهم . حل صعب عمليا ، لكنه سليم منطقيا وأخلاقيا ، ويزيح وطأة الدور الذي أداه اليهود العرب في مآسي الفلسطينيين ، وفيه خير كثير لهؤلاء اليهود الذين علقتهم الصهيونية في براثن جحيم صراع لا نهاية له ، ولو أوحت أوهام  التطبيع بقرب نهايته لكونه تطبيعا مع حكام  العرب لا مع شعوبهم .

وسوم: العدد 803