قصة زعيم في بلاد العجائب

سقطت «أليس» من خلال جُحر أرنب إلى ذلك العالم الخيالي الذي تسكنه مخلوقات غريبة، هنالك سارت الأحداث على وجهٍ يتلاعب بالمنطق، فاستحقت تلك الرواية التي ألّفها لويس كارول عنوانها عن جدارة «أليس في بلاد العجائب».

لكن الجزء غير المروي في الرواية، أن بلاد العجائب كانت دولة تعيش في قلب الأمة العربية ورمّانة ميزانها، لها تاريخ عريق، وجغرافيا متفردة، وثروات هائلة، وشعب طيب، تسلّط عليه من لم يرقب فيه إلّاً ولا ذِمّة، وأعاد فيهم سيرة فرعون بكل تفاصيلها، وحوّلها بالفعل إلى بلد العجائب.

تقول الحكاية إنه بينما كان طفل تبدو عليه أمارات البله المُبكر يلهو في حارته التي يقطنها، اجتمع عليه نفر من الصبيان يوسعونه ضربًا، ربما لأن شكله المستفز أثار غيظهم، فتلقى اللكمات بهدوء وهو يتوعدهم قائلًا: «بُكره أكبر وأضربكم». شب الصبي ونما معه حلم الانتقام، وظهرت عليه كرامات الأولياء، إذ رسمت له الرؤى والمنامات ملامح مستقبله المشرق، فذات مرة رأى أنه يمسك بسيفٍ مكتوب عليه «لا إله إلا الله» باللون الأحمر، نعم الأحمر، ينبغي أن لا ينصرف تفكيرك أيها القارئ إلى أنه لون الدم. وفي منام آخر رأى أنه يلبس في يده ساعة (أوميجا) عليها نجمة خضراء ضخمة جدا، مرة أخرى تسيء الظن أيها القارئ وينصرف تفكيرك إلى أنها نجمة داود الإسرائيلية، تمهل وانتظر. ثم رأى نفسه في منام آخر يُقال له (هنديك اللي مدينوهاش لحد)، الله أكبر، تذكرت دعوة نبي الله سليمان «وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي»، غير أن بطل قصتنا أتاه الوعد بدون طلب.

تمر الأعوام وصاحبنا يتدرج في مناصب جيش البلاد حتى يتولى منصبًا مرموقًا، غير أنه كان مغمورًا خامل الذكر، حتى قامت ثورة شعب يتطلع إلى الحرية، بينما كان لشياطين الظلام فيها مآرب أخرى، فجاءت الثورة بحاكم من الشعب عبر صناديق الاقتراع، فقام بطل القصة بأداء اليمين أمامه على الولاء. لم يكن القسم ليقف حائلًا أمام زعيم المستقبل وتحقيق أحلامه، فصُنعت له أسطورة تم الترويج لها بأنه الزعيم المُخلّص، الذي يضرب بيد من حديد على أيدي المتآمرين الخونة في الداخل والخارج، وبين عشية وضحاها، تم تلميع اسمه، وبدأ حياته الجديدة بانقلاب على سلطة شرعية، اعتقل أفرادها ورموزها، وأتى بـ(كومبارس) يحكم الدولة شكلًا. لما دافع الناس عن أصواتهم التي أودعوها الصناديق، شرع الزعيم في الحصول على تفويض بالقتل، وحرّك جنده باتجاه المسالمين العُزّل، وضنّ عليهم بخراطيم المياه وقنابل الغاز، وأغدق عليهم بالرصاص الحي والحرق، فهكذا أراد للمذبحة أن تخرج بهذا الشكل البشع، حتى يقتل أي تطلعات ثورية في الشعب البائس، فصفّق له ظهيره الشعبي بشقيه (المنتفعين والمُغيَّبين)، وغنوْا له (تسلم الأيادي)، فكان الرقص على الأشلاء هو عنوان البطولة. وجيء بالزعيم إلى العرش محمولًا على الأكتاف، بعد أن قتل بسيفه الأحمر من يلهج بلا إله إلا الله، وكأنه يوسف الزمان يعبر الأحلام.

وُعودٌ تلو الوعود يقطعها أمام الشعب المخدوع، والقافلة لم تبرح مكانها، والأزمات تزداد، والأحوال تسوء، لكن الرد الجاهز دائمًا: نحن نحارب الإرهاب، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وضع اقتصاد الدولة في قبضة جيشه، ثم وضع الجيش في جيب سترته، وركّع الشرطة بالنِّعم تارة وبالعين الحمراء تارة أخرى، وملَكَ زمام القضاء، وصنع لنفسه منظومة إعلامية تسبح بحمده دائمًا وأبدًا، أما المعارضون فهم تحت التراب أو خلف القضبان أو بين أنياب المنفى، قضى على كل الرموز والقوى التي لديها القدرة على التثوير، وأبقى لنفسه ثلة منتفعة مؤيدة، وأما بقية الشعب فقد قال كلمته على مسامعه، إن ما حصل قبل سنوات (الثورة) لن يحصل في عهدي. اتبع الزعيم سياسة الإفقار، وقام بضرب السلع الإستراتيجية، والاتجاه إلى استيرادها بعد أن كانت بلاده تصدرها للعالم، حُمى زيادة الأسعار لا تجد من يوقفها، الفقراء يُحاربون في أقواتهم، رؤية اقتصادية قائمة على الجباية من البسطاء، وعلى من يعترض التوجه إلى ميدان التحرير، فثمّ المدرعات والمجنزرات والرصاص.

تجديد الخطاب الديني كان أبرز إنجازاته في بلد العجائب، حيث يُفتح الطريق للهجوم على السُّنة وإنكار حُجيّتها، وتطويع النصوص الشرعية من أجل التوافق العالمي، واتهام النص بالمسؤولية عن إنتاج الإرهاب، ومن أجل ذلك أغلقت المساجد، وكُمّمت أفواه الدعاة، ولم يعد يتكلم في الدين سوى علماء السلطان، وأهل الفن والرقص.

الزعيم لم ينس دور الإسلاميين في ثورات الربيع، فاستأصل شأفتهم في الداخل قتلا وسجنا وتشريدًا، ولاحقهم خارج الحدود بعدما شبّك يده بيد أقرانه في الخليج، وصار الهم المشترك هو إنجاح وإكمال أهداف الثورة المضادة لثورات الربيع.

يحدث في بلد العجائب بعهد الزعيم الملهم، أن يُحاكم رئيس جاءت به الثورة، ويكون الشاهد عليه رئيس قامت ضده الثورة. يحدث في بلد العجائب أن يدعو الزعيم إلى المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي يخوضها، ثم يعتقل ويلفق القضايا للمرشحين. يحدث في بلد العجائب أن يترك الجيش الحدود والثغور ويتجه لبيع الخضروات والأسماك. يحدث في بلد العجائب أن تُسخر موارد الدولة من أجل حفر تفريعة لقناة مائية بنى عليها الشعب آمالا عظيمة، ثم في نهاية المطاف بعدما بان فشله، يخرج الزعيم الملهم ويصرح بأنه فعل ذلك من أجل رفع معنويات الشعب. يحدث في بلاد العجائب أن كل ما فيها أصبح قاتمًا، وأن الشعب لم يعد يرى ما يدخل عليه الفرحة سوى الأهداف التي يحرزها لاعبه المحترف بالدوري الإنكليزي. يحدث في بلاد العجائب أن زعيمها الملهم يعترف أمام العالم بالتعاون العسكري مع الكيان الإسرائيلي داخل بلاده، بينما يحاكِم قضاؤه الشامخ أناسًا بتهمة التخابر مع حركة المقاومة الفلسطينية حماس، وهكذا صار التطبيع مع الصهاينة تعاونًا، بينما التطبيع مع الأشقاء جريمة.

أحلام الزعيم تتحقق، وساعة الأوميجا بنجمتها وجدت لها تأويلًا، إذ صار بطلًا قوميًا في دولة الاحتلال، وصديقًا حميمًا لنتنياهو، فهو حامي الحمى الذي خنق أهل غزة وأحكم على أهلها الحصار، وقضى على الإسلاميين الذين ترتعد لهم فرائص الكنيست، ومضى مع شقيقيه الخليجيين في العمل الدؤوب على إمضاء صفقة القرن من أجل عيون ترامب وطفله المدلل. لقد حول تلك البقعة الحبيبة إلى النفوس حقًا إلى بلد العجائب، تلك هي قصة الزعيم حتى لا ننسى، وأما الفصل الأخير من حكايته أو قل إن شئت نهايته، فسيكتبها ذلك الشعب عندما يسترد مرة أخرى عزيمته وإرادته، حينئذ تأفل شمس الزعيم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 806