وتاريخ جديد يكتب

باب الحرية ورد مفتوح على كل درب صالح، وفي سبيله القاصد يهون على اللأواء كل جهد، وصاحب السلطة أحق الناس بفتح هذا الباب للناس؛ لأنه من دونه تمتلئ القلوب، وتحقد النفوس، ويكثر النفاق، وتنهار الثقة ، وتأتي الحال على قواعد البنيان في آخر المآل، فلا يغترّن سلطان بقوة أو غنى أو بكلام من قرناء مشاركين له، يزينون به مسيره الجائر. وقد قال ابن المقفع في أدبه الكبير: ( وأحق الناس باتهام نظره بعين الريبة وعين المقت السلطان، الذي ما وقع في قلبه رَبَا مع ما يُقيض له من تزيين القرناء والوزراء)(1) ، وإذن، ماذا نقول في سورية لمن يُنَزّه كل قول أو فعل له، وينظر بعين الريبة والغضب لأي كلام من غيره؟  

وها هو التاريخ يُكتب من جديد في سورية، بعد أن هدم حاجز الخوف، وتصرمت السنون العجاف لوطن سوري، ظل يرزح تحت حكم عائلة الأسد منذ أكثر من أربعة عقود، تستبد بالرأي، ملغية الحياة السياسية في البلاد بواسطة دستور عام 1973، الذي فُصِّل على جسم العائلة ورئيسها حافظ الأسد ووريثه من بعده.. ولقد ظلت تلك العائلة مغلقة آذانها عن سماع نصح المخلصين للوطن، فزجّت بكل من لم يرض بسيرتها الذاتية، المدمرة لكل شيء: (السياسة والاجتماع والاقتصاد) إما في السجون أو في القبور أو في المنافي أو بمصائر غير معروفة حتى الآن لمئات آلاف الأحرار مفقودين. فلما طفح الكيل ولم تجد الكلمة الناصحة المخلصة مكاناً لها عند أصحاب السلطة، بدأ الناس بكسر حاجز الخوف الذي صنعه البطش الوحشي والقتل العشوائي في الشوارع والدوائر والسجون والبيوت في ثمانينيات القرن الماضي. وكانت البداية من مدينة درعا عاصمة حوران منتصف آذار 2011 ؛ حيث خرج الناس إلى الشوارع سلمياً، مطالبين بحقوقهم المسلوبة ، فواجههم السلطان بالنار، فقتل المئات وليس عشرات كما تدعي السلطة وذلك خلال ثلاثة أسابيع في القرى والمدن والبلدات السورية، و للتغطية على تلك الجرائم راحت السلطة تتهم عصابات مجهولة بالقتل، و في الحقيقة فإن هذه العصابات ليست إلا رجال أمن متخفين، ولم يكتف حكام سورية بهذا الادعاء ، بل راحوا يروجون وعملاؤهم وبعض الكتاب المأجورين لمقولة المؤامرة على سورية، معتبرين أنفسهم أنهم سورية..! وبناء على ذلك راحوا يسوّفون بشأن قضايا الإصلاح، إذ حولوها إلى لجان فرعية وفرق حزبية تابعة للسطلة، كي تقرر وترسم إصلاحاً على مزاج الحاكم وإرادته؛ لأن العائلة الحاكمة لا تستطيع تقديم مبادرة كبرى، تحقق كل ما يريده الشعب السوري؛ لأنها على قناعة تامة بأنها إن فعلت، فلسوف ينتهي حكمها، و قد قال ربنا جل وعلا في محكم التنزيل: ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين). ولسوف ينتهج الحكام في

___________________________

1)_ الأدب الكبير،ابن المقفع، دار صادر ،بيروت، ص77

سورية إصلاحات هي دهان يُطلى به وجه الفساد ، وقناع يغرّ السذج والمداهنين ولو مؤقتاً، ظناً منهم أن في ذلك إسكات للاحتجاج وعزل للثورة.

إنها لمتاريس تلو المتاريس، يضعها الحاكمون في مواجهة هبة الشعب السوري؛ خوفاً على حقائبهم المتخمة بالمسروقات، وحفاظاً على الوجاهة الزائفة التي يتوهمونها، وإبقاءً على كل الامتيازات التي اغتصبوها على مدى أربعين عاماً، وتكريساً للفقر الذي ألبسوه للشعب، والبطالة التي عمموها على الشباب، وإن المتراس الأول الذي اعتمدوه في المواجهة، يتمثل في ادعائهم أن ما يجري من حراك في نهر الشعب السوري، ليس إلا مؤامرة خارجية، هدفها إيقاف مدّ الممانعة والمقاومة اللتين يتبناهما الحاكمون _على حد زعمهم ووهمهم_ ولكن الحقيقة تقول: إن معظم الدول العربية من الخليج إلى المغرب أبدوا تأييدهم للنظام، وتمنوا لسورية الهدوء والاستقرار، أما إسرائيل  المقصودة هي وأمريكا والغرب بكلمة (المؤامرة)، فإن جميع قادتها بدءاً من شارون ومروراً بباراك وانتهاءً بأولمرت ، قد أبدوا حرصهم على بقاء النظام الحاكم في سورية واستمراره في الحكم؛ لأنه يقدم لهم الأمان في الجولان المحتل ليستثمروه على راحتهم ، ويلتزم بالاتفاقات والعهود حرفياً، ويسكت عن تجاوزاتهم عندما قصفوا أماكن خطيرة في سورية ، وقتلوا مقاومين في شوارع دمشق، وحامت طائراتهم فوق قصر الرئيس، واكتفى حكام سورية بجملتهم الرائجة ( سوف نرد في الوقت المناسب لنا) ، وتمضي السنون الطويلة ولا رد في أي وقت، وأما الغرب فهو يدلل هذا النظام، ويمدّ له يد العون، حتى لا يأتي حكم أصولي إسلامي، بحسب ما يروّج لهم، وها هي  أمريكا تعيد سفيرها إلى دمشق، وتسكت عن عودة هيمنته على لبنان، و تكثف الوفود النيابية لزيارة سورية ؛ كي يعود هؤلاء مقتنعين بالدفاع عن النظام، فأين تكمن الممانعة إذن ..؟! إنها لمفارقة !!

وأما المتراس الثاني والأهم عند الحاكمين في دمشق، فهو الزعم بأن الرصاصة والنار ستوقفان المدّ الشعبي، وأن تفكيك الشعب السوري إلى أعراق وطوائف كفيل بإيقاف الاحتجاج؛ لذا فهو يحاول عبثاً رشوة الأكراد بإعادة الجنسية إلى عدد منهم، لكن الأكراد واعون للعبته؛ فهم جزء أصيل من نسيج الشعب السوري،وشريحة كريمة شجاعة وطنية لا تنفك عن المجموع. وإن كلمة للاحتجاج لن يسكتها سجن للوطني المقدام ابن الثمانين (هيثم المالح)، كما لا يوقفها سجن الفتاة اليافعة: (طل الملوحي) ولا يخفيها الاعتداء على بيت المعارض الحلبي (غسان النجار) ، والعبث بأمنه وترويع العائلة أمس الأربعاء 6/3/2011م ، فكلمة تعلو في آفاق الوطن تطلب الحرية ، غير منتضية سيفاً أو بندقية ، ليست مؤامرة ولا مغامرة، إنها تحمل إخلاصاً للوطن، للشعب، للأمة، كما تحمل إصراراً على تخليص الحرية من بين فكي الطغيان ، وهي بذلك تفهم أن الإقدام والاستمرار أقل تكلفة بكثير من النكوص والتراجع ، وها هي الثورة تمتد وتمتد؛ لأن الشعب يعلم أن إعادة الجنسية إلى الأكراد ، هو إعادة لحق مسلوب، وأن استقالة الوزارة لا تعنيه بشيء، وأن استبدال قانون الطوارئ بقانون الإرهاب لعب على الحبال. أما التغيير الشامل فهو ليس وارداً في قاموس العائلة الحاكمة أبداً. ولسوف ينتصر العالم لثورة الشعب السوري، وفي المآل لا بد من القول: إننا أمام تاريخ جديد لسورية يكتبه الشعب الآن، لتذهب بلا رجعة أزمنة القهر والأقبية العفنة وظلم الإنسان.  

وسوم: العدد 811