هذا زمن اشتداد ضراوة الحرب على الفطرة وعلى الفطريين الثبات عليها

كان من المنتظر منذ انطلاق أول شرارة لثورات الربيع العربي أن تلد ما حبلت به  لعقود من تغيرات  من شأنها أن تقلب الأوضاع في الوطن العربي  رأسا على عقب من خلال الإطاحة بالأنظمة الضالعة في الفساد والإفساد والتي كرست في هذا الوطن البائس  وضعية ما بعد نكبة فلسطين والنكسات التي تلتها ، والتي أخرت قطار الشعوب العربية  وهي الأغنى بما حباها به الله عز وجل من ثروات عن اللحاق بركب غيرها من شعوب المعمور، إلا أن ما حدث هو إجهاض حبلها قبل الأوان ،لأن أعداءها في الخارج وأذنابهم في الداخل روجوا لفكرة  فساد حملها الذي لا بد أن يجهض ليسلم الوطن العربي من هلاك محقق ، وليسلم الكيان الصهيوني من مخلوق يتهدد وجوده وهو دين الإسلام الذي راهنت عليه الشعوب العربية في ثورات ربيعها ، وبادرت بالتصويت على أحزاب على علاتها  رفعته شعارا من أجل القضاء على فساد الأنظمة وإفسادها .

ومن أجل صرف الشعوب العربية عن رهانها على الإسلام صنّعت المخابرات الغربية  بزعامة الإدارة الأمريكية نموذجا من عصابات إجرامية  أوعزت إليها الانتساب إليه وحمله كشعار ، وارتكاب الفظائع باسمه لتشويهه ، وحمل المراهنين على الانصراف عنه والرضا بما كانت عليه الأوضاع قبل ثورات ربيعهم بل  أكثر من ذلك الثناء على تلك الأوضاع بسبب كلفة عملية الإجهاض التي سببت خرابا كبيرا في بعض الأقطار العربية ، كما تسببت في ضحايا ومهجّرين بالملايين .

وكانت هذه حرب شديدة الضراوة  شنها خصوم الإسلام  بشراسة عليه، وهو الفطرة التي فطر الله الإنسان العربي عليها .

 ومعلوم أن كتاب الله عز وجل يسمي الإسلام فطرة في قوله تعالى مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله مخاطبا كل مسلم : (( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم )) . وأصل الفطرة  من الفطر وهي اسم هيئة كما أن الخلقة من الخلق ، وهي جبلة أو نظام أوجده الله عز وجل في الإنسان ليخلفه في الأرض . وقد مثل أهل العلم لهذه الفطرة بما فطر عليه الإنسان جسديا وعقليا ، فكما أنه فطر على حمل الأشياء بجارحة اليد لا بجارحة الرجل ، فإنه إنما ينطلق بعقله من الأسباب إلى المسببات ، ومن المقدمات إلى النتائج ، هكذا فطر الإنسان جسديا وعقليا ، وفطرته هذه تتحقق بإسلامه الذي وصفه الله عز وجل بوصفين هما كونه حنيفا وهو ميله عن الباطل إلى الحق ، وكونه قيما أو مستقيما لا اعوجاج فيه ، ومعتنقه تتحقق فيه الحنيفية والاستقامة .

ولما كان هذا هو حال الإسلام وهو دين الفطرة ، وهو الدين عند الله عز وجل ، الذي لا يقبل غيره دينا أو فطرة ، فإن المفسدين يشنون عليه حربا شعواء لأنه يعارض ميلهم عن الحق إلى الباطل ،وانحرافهم عن الاستقامة.

ولقد بيّن كتاب الله عز وجل كيف تقع الحرب على الإسلام أو على الفطرة في قوله عز من قائل في سياق الحديث عن إبليس اللعين  : ((  قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ))  وفي قوله أيضا : ((  وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله )) . هكذا تشن الحرب على الفطرة بتغيير خلق الله ، وهو تغيير مصدره عدو البشرية إبليس اللعين الذي أقسم بعزة رب العزة جل جلاله أن يتخذ من عباده نصيبا مفروضا بإخراجهم عن مسارالفطرة إلى مسار فسادها ، وهو يجتالهم أو يجول بهم في مسار تنكب الفطرة  كما جاء في الحديث القدسي : " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " .

وإذا كانت الحرب على الفطرة لم تتوقف منذ بدء الخليقة ، ومنذ آخر رسالة سماوية إلى لبشرية والتي اكتملت بها الفطرة ، فإن التاريخ البشري عرف فترات تميزت بضراوة هذه الحرب ، وأحسب أننا نعيش  اليوم فترة من تلك الفترات العصيبة حيث كثر خصوم هذه الفطرة خارج وداخل بلادها ،وتعددت أساليب حربهم عليها .

 وكمثال على هذه الحرب الغزو الغربي للبلاد الإسلامية  خصوصا القريبة من مهد هذه الفطرة في الوطن العربي ، وهي حرب يستعين فيها الغرب بعملائه أو طوابيره الخامسة داخل هذا الوطن، ويستخدمهم للحيلولة دون عودة الشعوب العربية المسلمة إلى حظيرة الفطرة عن طريق أساليب الاستبداد والقمع واليد الفولاذية  بالنسبة لطابور الأنظمة .

 وموازاة مع الاستبداد تدار حرب  عقدية وفكرية وثقافية على الفطرة جنّدت لها طوابير خامسة أخرى  من شتى التيارات المنحرفة التي تتولى إدارة رحى هذه الحرب داخليا عن طريق  حملات  مغرضة ومكشوفة على الفطرة وعلى من يدعو إليها ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ترتفع  عندنا دعوات باسم الدفاع عن الحريات ،ومنها ما يسمى بحرية الجسد التي أفرزت المطالبة بما يسمى  العلاقة المثلية و العلاقة الرضائية ، وهما شكلان من أشكال الانحراف عن الفطرة ، وبهما توعد إبليس اللعين نصيبه المفروض من البشر ، وهل المثلية والرضائية سوى تغيير خلق الله الذي توعد به إبليس اللعين ؟  هكذا تخوض الكتيبة الإباحية حربا على الفطرة بأسلوبها وطريقتها . وعلى غرار هذه الكتيبة توجد كتائب أخرى تخوض ضدها حربا بأساليبها، ومنها الكتيبة العلمانية أو التغريبية  التي تسعى إلى طرح الفطرة جانبا في المجتمع ليخلو لعقيدتها المتمردة عليها الجو لتسود وتصول وتجول  كما تسود وتصول وتجول  في بلاد الغرب المصدرة لها إلى بلاد الفطرة على وجه الخصوص  ، ومنها الكتيبة التنصيرية التي تسعى لنشر شكل من أشكال تحريف الفطرة ،قد فضح القرآن الكريم انحرافها ، ومنها الكتيبة البهائية التي تهدف إلى ما تهدف إليه مثيلتها التنصيرية ، ومنها الكتيبة الطائفية والعرقية  التي تسعى إلى الإجهاز على الهوية الفطرية من خلال إقصاء لغة الكتاب الذي جاء بها ، والتأليب عليها من أجل إقصائها والتمكين لغيرها .

هذه الكتائب أو الطوابير الخامسة وغيرها مما يعمل في الخفاء وفي شتى الميادين والمجالات كلها يجمعها هدف واحد هو محاربة الفطرة بأقصى ضراوة ممكنة لمسخ الإنسان الفطري وصرفه عن التفكير في الفطرة أو الرهان عليها .

 والغائب عن أذهان هذه الكتائب وعن أذهان من يحركها ويمولها في الخارج أن الحرب على الفطرة لا غالب فيها إلا الذي فطر الناس عليها ، وأن مكره سبحانه وتعالى فوق مكرهم إذا مكروا، وهو خير الماكرين ، وهو إلى جانب ذلك ناجز الوعد لا يخلفه ، وقد وعد بأن الأرض يرثها الفطريون الثابتون على فطرتهم الذين ليسوا من النصيب المفروض لإبليس اللعين المتزعم  الأول للحرب على الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها لا تبديل لخلقه جل في علاه .

وسوم: العدد 814