على مائدة (برنارد شو)!

محمد عبد الشافي القوصي

على مائدة (برنارد شو)!

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

(عندما تأملتُ فيما بلغته الحضارة الغربية

من تقدم غير مسبوق؛ أدركتُ أنها قامت على أكتاف فلاسفة ومبدعين عظام؛ أمثال: جالليليو، ونيوتن، وفلمنج، وشكسبير، وبرنارد شو،

 وغيرهم من صنَّاع الحضارات، ولم تقم على أكتاف المخنَّثين،

وتجار الرذيلة، وسماسرة الحروب)! الشيخ/ محمد الغزالي؛

أمَّا قبل؛ فإنني لا أستطِع إخفاء إعجابي بالفيلسوف الأيرلندي(جورج برنارد شو) كما لا  أخفي إعجابي بفلسفة العقاد وعبقريته؛ فكلاهما لديه قدرة فائقة على النقد والتحليل العميق.

  وإذا افتخر الشرق بالنابغة الأشم (عباس العقاد) الكاتب الجبار، ومحامي العباقرة!  فإنَّ من حق الغرب أنْ يفتخر بكاتبه وفيلسوفه الفذ (برنارد شو) الثائر على التقاليد؛ الذي ألَّف قرابة سبعين كتاباً في مختلف ألوان المعرفة، منها ثلاثة كتب يتقاصر دونها الأدباء والفلاسفة أجمعون! وهي: "المسيح ليس مسيحياً"، و"محمَّد أعظم الرسل"، و"ملتقى الشرق والغرب".

 لذا؛ مَن لمْ يتذوَّد بثقافة هذيْن الكاتبيْن؛ فليسرع بدفن نفسه في مقابر السلفيين الجدد!

 أمَّا بعــد؛ فإنني عندما قرأتُ كتاب "ملتقى الشرق والغرب The meeting of East and west" أصابتني صدمة عنيفة؛ مازلتُ أشكو من آلامها، وأعاني من أعراضها.

ومن فضل الله علينا وعلى الناس؛ أنَّ هذا الكتاب لمْ يجد طريقه بعد للترجمة ... فالعقل العربي غير مؤهل بعد لاستقبال هذا اللون من العتاب الشديد، والنقد الصريح، والتقريع العنيف، والمكاشفة اللاذعة، والمواجهة المؤلمة!

 أجل! إنَّ العقل العربي مكبَّل بالأوهام، ومصفَّد بالقيود والأغلال التي صنعها بيده، وسجن فيها نفسه! فمازال يراوح مكانه منذ القرن الخامس الهجري!

 في هذا الكتاب؛ طرح برنارد شو عشرين سؤالاً، بلْ ألقى عشرين حجراً في مياه المسلمين الآسنة، بلْ عشرين قنبلة فوق العقل العربي المحنَّط!

فو اللهِ، ثمَّ واللهِ؛ لوْ كان للعرب والمسلمين أيّ شعور أوْ إحساس أوْ بقية من ضمير؛ لانتفضوا على الفور، واستيقظوا من غفلتهم التي تجاوزت ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً ..!

  في مقدمة الكتاب؛ يقول "شو": "لقد فقد المسلمون رشدهم في مرحلة مبكرة، مما ساعد على جمود عقل الأمة، وتراجعها بشكل مذهل، بعدما أبهروا العالم، وأيقظوا الدنيا بأسرها؛ بما أهدوه إليها من آداب وفنون وعلوم وفلسفة، وأخلاق ما عرفتها الدنيا ولا سمعت بها من قبل".

  ثمَّ يقول –رحمه الله-: "لكن المسلمين كانوا قد فتحوا المشارق والمغارب، وامتلكوا رموزاً حضارية تظل شاهدة على تراث فلسفي لا نظير له، وعلى أعمال فكرية لا غنى عنها، اضطلع بها عباقرة، أمثال: الكندي، وابن سينا، والجاحظ، والغزالي، وابن رشد، وابن عربي، وابن خلدون، وغيرهم من العظام ... لكن من جاءوا بعدهم كانوا ورثةً سفهاء؛ فلم يستفيدوا من عطاء آبائهم، فيشكروهم على حسناتهم، ويتجاوزوا عن سيآتهم كما أرشدهم القرآن الكريم".

ويرى برنارد شو أنَّ الخطأ الجسيم الذي وقع فيه المسلمون؛ التناحر المذهبي والعرقي، فكل جماعة أوْ طائفة تهيل التراب على منجزات الطائفة الأخرى التي تختلف معها؛ فلم يستطيعوا من جهلهم أن ينتقلوا من عالم الأشخاص إلى عالم الأفكار؛ ولم يستطيعوا أن يقرأوا التاريخ التطوري لمسيرة التفكير الفلسفي وما تركه أجدادهم، وكيفية علاج المشكلات بمنطق العقل!

وفي تشخيصه لأمراض المسلمين الحضارية؛ يقول شو: "إنَّ من أسباب عدم قراءة المسلمين لذاتيتهم الثقافية وعدم استفادتهم مما تركه أجدادهم من تراث فكري ضخم؛ هي نظرتهم ذات البعد الواحد لأعمال المفكر أو الفيلسوف .. فنظرتهم الأحادية؛ حرمتهم منجزات فكرية جليلة. لأنَّ النظرة الأحادية من سمات التفكير في عصر انحطاط الحضارات!

وقد تجاوزت أوربا هذه النظرة الكئيبة عندما صححت أخطاءها، ونظفت ثقافتها من أدرانها وعيوبها، ونظرت إلى عالم الأفكار دون أن تهتم بعالم الأشخاص، ووظفت كل الأفكار الصالحة عند جميع الأمم؛ في خدمة حضارتها .. فاستفادت من فكر الفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن حزم، وابن رشد، وابن عربي، والمتنبي، والمعرِّي، وغيرهم ممن وجدت في فكرهم منفعة تخدم مصالحها الحضارية .. وتركت الخرافات والحشو الموجود في الثقافات، مادام لا ينفعها .. وبذلك استطاع الغرب أن يأخذ ما يريد من الثقافات، ويترك ما لا ينسجم مع أغراضه وشئون حياته".

*   *   *

هذا؛ وقد طرح "شو" أسئلة كثيرة عبر فصول الكتاب الخمسة، مثل: كيف نشأ داء الاستبداد عند العرب؟ ولماذا فشلت كل الحركات الجهادية ضد الأنظمة الشمولية؟ ولماذا يتعصب العرب للماضي ويغمضون أعينهم عن المستقبل؟! ومتى يتحرر العرب من قيود التبعية والتقليد؟

ومن الأسئلة التي طرحها، وأجاب عنها باستفاضة: لماذا نجحت (الجوامع) في العالم الاسلامي كالأزهر، والزيتونة، والقرويين، ومدارس النجف، وتخرج فيها آلاف العلماء والشعراء والنوابغ؛ فيما فشلت (الجامعات) الحديثة التي لا وزن لها؟

 وقد توصل إلى أن "خريّج (الجوامع) كان يدرك أن عليه مسئولية كبيرة تجاه وطنه وأمته، لابدَّ أن يؤديها على أكمل وجه. أمَّا خريّج (الجامعات) فبمجرد تخرجه؛ ينتظر أن يكافئوه، ويمنحوه الجوائز والنياشين والأوسمة، دون أن يقدِّم شيئا".

*   *   *

 لكن أجمل ما في الكتاب؛ تلك الوساطة التي قام بها "شو" بين (الغزالي) و(ابن رشد) وخصص لها فصلاً مستقلاً ... فقد وصفهما بأكبر عقليتيْن أنجبتهما الحضارة الاسلامية (وهذا صواب 100%) وقال: "أنا من أنصار ابن رشد، ولكني عاشق لصوفية الغزالي وشفافيته"!

وقال عن ابن رشد: "إنه فيلسوف العقلانية، وهو أكبر ممن سبقوه، وتعد أعماله ثورة في الفكر العربي من حيث قيمتها الفكرية. كما أن حصيلة فكره هي التي أحدثت حركة نقدية كبرى في أوربا، وضعته في مكانة عظيمة، يظل الغرب مديناً له إلى ما لا نهاية"!

  ومع كل إعجابه بالفيلسوف ابن رشد، إلاَّ أنه انتصر لأبي حامد في كثير من آرائه، ووصف الخصومة التي وقعت بينهما بـــــــ(خصومة المؤمنين)! وقال: "لم يكن ابن رشد مخلصاً تماماً عندما ألَّف كتابه (تهافت التهافت) الذي ردَّ فيه على كتاب حجة الاسلام وشيخه (تهافت الفلاسفة) فليس مبرأ من حب التحذلق وإظهار الفضل والسبق في مضمار الفلسفة، فمناقشة الغزالي لم يكن القصد بها إبطال الحقائق التي دافع عنها الامام، بل أراد بها إظهار خطئه في طريقة الاستدلال، وتقصيره في فهم مقاصد الفلاسفة، وكان ابن رشد في غنى عن هذا الغمز واللمز مع رجل كأبي حامد وهب حياته للدفاع عن الدين، وكان يكفيه أن يتناول المسائل الكبرى كوجود الله، وخلق العالم؛ بأسلوب العالِم المخلص، ويتأول ما شاء من غير لمز ولا طعن، ولا داعِ لأن يسمِّي عمل الغزالي تهافتاً .. مع أنه انتهى إلى ما انتهى إليه صاحبه أوْ خصمه في إثبات معنى الارادة".

*   *   *

(حكايـــــة) منذ بضع سنوات؛ التقيتُ أحد غلمان الوهابية، فحكيتُ له ما كتبه (شو) عن رسول الإسلام، في كتابه (محمَّد أعظم الرسل Mohammad The Greatest Prophet) والذي قال فيه: "أنا جندي من جنود النبيّ محمَّد، وما سجّلته في كتابي هذا ليس سوى بعض مشاعري التي فاضت رغماً عني"!  فنظر إليَّ باستهجان، وقال منزعجاً: ولماذا لمْ يُسلِم؟ قلتُ له: بلْ كان إسلامه أصح من إسلامك وإسلام قبيلتك التي ورثته كما تورث العقارات. فقال: ولماذا لمْ يطلِق لحيته؟ قلتُ: بلْ كانت لحيته أطول من لحى الرهبان والأحبار. فقال بتضجُّر: ولماذا لمْ يغيّر اسمه؟ قلتُ: اسمه على اسم أحد تلامذة السيد المسيح. فتميَّز غيظاً، ونظر إلى أصحابه، وقال: هل كان على مذهب أهل السنَّة والجماعة؟ قلتُ: لا؛ فهو لا يعترف بالمذاهب، إنما يؤمن بالاسلام الحنيف وحسب. فذمَّ شفتيْه، وقال: إذا كان مسلماً حقاً؛ فكيف ارتضى أن يعيش في دار الكفر، ولم ينتقل إلى دار الإيمان؟ قلتُ: لأنه لا يحب دول العالم الثالث المتخلِّف. فغضب السلفيون، وقالوا لي: ما نراك إلاَّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء!

*   *   *

 أخيـــــراً؛ رحم الله الكاتب العظيم والفيلسوف الكبير؛ الذي رفض استلام جائزة نوبل! وقال: "حتى لا أمنح الشهرة والخلود لجائزة تستمد قيمتها المادية من أرباح أسلحة الدمار"!!

وكان –رحمه الله-أشدّ الناس نصحاً للعرب والمسلمين، فقد دافع عن حقوقهم في فلسطين، وانتقد بلفور وأهل بلفور، وهاجم تشرشل وهتلر في آنٍ واحد، وبشَّر الإنجليز بمستقبل مظلم ما لمْ يصححوا أخطاءهم التاريخية التي ارتكبوها في المشرق، وتنبأ بانتظام الإسلام لسائر القارة الأوربية قبل نهاية القرن الحادي والعشرين!