ملحمة "روزيتا"

فيما يتعلق ببحث الأسئلة الوجودية حول الكون والفضاء، تناول جلّ الناس معضلة الهبوط على القمر، وتغافلوا عن حشد من الروايات العلمية الفضائية التي هي أكثر صداما مع العقل. ونقف في هذا المقال عند أسطورة روزيتا، كنموذج صارخ على الملاحم الفضائية، ومن خارج "ناسا" هذه المرة، ونبدأ بعرض المشهد في تصوير لغوي نترك الحُكم على معقوليته للقارئ:

روزيتا (Rosetta) هي "طائر" فضائي جسمه بحجم سيارة، ويمتد جناحاه مسافة 14 مترًا مغطاة بألواح الطاقة الشمسية، انطلقت من الأرض وعبرت الفضاء الكوني الفارغ ضمن مسيرة سفر طويلة امتدت لما يقرب من عشر سنين، تطارد "الوحش".

بدأت روزيتا ملحمتها الفضائية بدوران حول الأرض كأنها معلقة بحبل الجاذبية، حيث دوّرتها الأرض –كما يُدوّر الطفلُ بيده المقلاعَ الذي يحمل حجرا- ثم قذفتها منطلقة نحو المريخ، فتلقفها الآخر "بيد" جاذبيته ودوّرها كمقلاع جديد كما دورتها الأرض من قبلْ، فاكتسبت تسارعا جديدا، ثم قذفها المريخ، وكررت "مشهد المقلاع" مع جرمين سماويين على الطريق (وهما الكويكبان شتاينس 2867 ولوتيتيا).

روزيتا مركبة قذفتها "مقاليع" متعددة في بحر فسيح من المادة "المظلة!" المجهولة، لتعبره في مسافة بلغت 6.4 مليارات كيلومتر (خمسة أضعاف المسافة بين الأرض والشمسحسب التصور العلمي)(1). وذهبت تطارد مذنبا بحجم مدينة، هو "شوريموف-غرايزمنكو"، ذلك الجسم الذي تَفَتَق عن النظام الشمسي عند تكوّنه (كما تكهن العلماء المنجمون)، يحمل سرا من أسرار الوجود، ووصفته بعض المنشورات بالوحش، إذ ينفث البخار ويقذف الحصى والماء، ويحمل الثلج والبخار والرمال، وربما سر الحياة، يهرول في الفراغ الكوني بسرعة خرافية... خرافية جدا تفوق التصور.

ويُروى أن روزيتا وخلال إبحارها الأسطوري في الفضاء، دخلت في سُبات (نوم تَقَني!) بلا حراك لمدة ثلاث سنوات، تنتظر فرصة اللحاق بالمذنب، ثم استفاقت عند الساعة والدقيقة المحددة لها منذ عقد من الزمان. ونظرت في الفضاء الفسيح، باحثة عن ذلك المذنب ضمن مشهد كوني فسيفسائي معقّد، ولم تعجز، فرأت الوحش الذي جاءت تطارده قبل سنين، وعرفته!

 نعم، ميزته بقدرة ملهميها من مبرمجيها الأفذاذ، استطاعت أن تحدّد موقع ذلك الهدف العابر للكون بعد صحوتها من سباتها، دون أن تحسّ "بالدوخة الفنية" ودون أن ينسد فيها أنبوب أو تتعطل فوقها لوحة شمسية طيلة نومها الهادئ. ثم انطلقت، تتبع الوحش الغاضب حتى رافقته في مسيرة عبوره مقتربا من الشمس بسرعات خيالية (55 ألف كيلومتر في الساعة)، حتى اقتربت منه بمعجزة علمية. ثم رافقت الوحش في رحلته الكونية مدة عام، لم تنحرف عن مساره! وأطلقت خلالها من رحمها مجسا فاحصا (بحجم حقيبة سفر) اسمه "فيليه"، وهو مِسبار انقض على ظهر الوحش الغاضب (دون أن يرتدّ عنه نتيجة الصدمة فيتيه في الفضاء بلا عودة)، إذ لفيليه الأسطوري مخالبُ (تكنولوجية) رُكّبت له قبل عشر سنين... لم تصدأ ولم تتأثر بعوامل الفضاء رغم مرور السنين ورغم السُبات، ولم يتعطل فيه أي زر! ومن بعد ذلك أخذ المسبار يبتلع وجبات من التربة يلتقطها عن ظهر ذلك الوحش ليحلّلها بما في جوفه من أجهزة صُنّعت قبل عقد من الزمان، ولم تحدث لها أية عملية صيانة ولا معايرة جديدة ضمن ذلك الوسط الفضائي المجهول. ثم تمكّن "فيليه" بن "روزيتا" من التواصل مع الأرض عبر أمّه، وقد تذوق طعم الماء في البخار الذي يزفره الوحش، وتبين له أنه يختلف عن طعم ماء الأرض (2).

عندها، أحسّ "فيليه" وأحست أمّه روزيتا أن قواهما تخور وطاقتهما تنفد، فانتحرت روزيتا فوق ظهر الوحش، عند "إلهة الحق والعدل" التي تمسك مفتاح الحياة بزعم الرواية، ومعها "فيليه"، ليُسدل الستار على تلك الدراما العلمية، أو الأسطورة الفضائية!

وهكذا، هي رواية جديدة، بل ملحمة علمية، لا تجزم بعد قراءة سطورها أعلاه، أهي من خزعبلات الخيال العلمي، كمسلسل المريخ الذي عرضته قناة ناشونال جيوغرافيك كرواية لحدث في المستقبل، أم هي سجّل لحدث علمي انطلق عام 2004، كما تقول الأسطورة العلمية، وبدأ التخطيط له عام 1994، بل وفي رواية أخرى قبل ثلاثين سنة من انتحار روزيتا.

إنها رواية علمية رسمية، وفي هذا العرض الأسطوري للرواية، لم نقم بتحريف الكلم عن مواضعه، بل تم اختصارها مع بعض التعبيرات الصارخة.

وأمام هذه الرواية، تختلط الأسطورة بالعلوم، وتصبح الخزعبلات العلمية كأنها جزء من الحقيقة وخصوصا وأنت تشاهد ذلك الحشد من العلماء الذين يشاركون في هذه الرواية، وكأنها تؤسس لنوع من "التواتر" في نقل الخبر الذي يُراد له أن يُفيد الجزم، بل كأنه أفاده ضمن الأوساط العلمية: إذ لا أحد يخطر له أن يتحقق من تلك الرواية أو يمارس حولها التفكير الناقد رغم شدة وقع هذه الأسطورة العلمية، ومن المرجح أن قارئ المقال لم يسمع بها من قبل، فبعد غزوة القمر تتابعت الغزوات العلمية الأسطورية بلا ضجيج!

وفي هذه الأسطورة، لا نتساءل عن إمكانية التحليق في الفراغ فقط، بل عن السفر البعيد جدا، ونَومِ المركبة لمدة ثلاثة سنوات، ثم صحوتها الدقيقة، ومتابعة لطريدتها الفضائية المنطلقة بسرعة خيالية وهي تعبر الفضاء نحو الشمس، ثم نجاحها في التحليق فوقها قبل أن تسخن، بما يجعل الأسطورة أكثر استحالة، ثم تُخرج من رحمها ذلك المسبار، وتحدد مكان الهبوط المناسب، وتتخذ القرار المناسب، وينطلق كل حدث بتسلسل معجز، دون الحاجة لصيانة أي أنبوب أو أية لوحة شمسية، ولا مسح الغبار الذي يطلقه المذنب نفسه عن تلك اللوحات لتستمر فعاليتها التقنية!

تلك هي أسطورة روزيتا عرجت في السماوات وجاءت للناس بخبر السماء، حسب الرواية العلمية التي يراد أن نصدّقها، بل وأن نؤمن بها كأنها البراق التكنولوجي، بلا دليل يمكن أن نختبره، إلا أنّها رواية لوكالة الفضاء الأوربية!

ليس الأمر مجرد تصديق أو تكذيب رواية ذلك البراق التقني، بل هو ما يتعداه من طلب الإيمان بما ترويه روزيتا عبر تحليلاتها حول أصل الوجود وأصل الحياة، وقد تتبعت حراك جنينها "فيليه" على ظهر الوحش باحثا عن الأحماض الأمينية التي تخلقت منها الحياة، في بطن المذنب الوحش!

تلك الأحماض التي يُراد من كشف وجودها على المذنبات أن تدعم الفرضية العلمية التي تدّعي أن الحياة تخلّقت في الأرض نتيجة تفاعلات كيميائية-حيوية عشوائية، وصلت موادها الأساسية على متن مذنبات، حملتها في رحلات فضائية أسطورية حطّت على الأرض بصدفة علمية أسطورية! إذ "يعتقد البعض أنّ المذنّبات جلبت اللبِنات الأساسيّة للحياة على الأرض منذ حوالي 3.9 مليار سنة"..." وهذا الاعتقاد يقودنا إلى التساؤل؛ هل نحن عبارة عن بقايا مذنّبات؟" (1).

ومن خلفية هذه الغاية الفلسفية التي أريد لروزيتّا فيها أن تكون سببًا في فكّ شيفرة أصل الوجود، جاء اسم روزيتا استلهاما من اسم حجر الرشيد الذي فك طلاسم الرموز واللغة الهيروغليفية القديمة، التي كشفت جانبا من تاريخ الفراعنة وأوثانهم، ومن هذه الخلفية أيضا جاء اسم المجسّ "فيليه"، على اسم الجزيرة في نهر النيل (وفيها معبد فيله في أسوان)، والذي حصل علماء المصريات فيه على مسلّة مصرية قديمة ساعدت في فك طلاسم الكتابة الهيروغليفية أيضا. بل إن مكان انتحار المركبة الفضائية سمّي "ماعت"، على اسم ما تعتقد الحضارة المصرية أنها إلهة الحق والعدل التي تمسك مفتاح الحياة! هكذا انتحرت روزيتا عند "إلهة" الحياة، بزعم الأسطورية العلمية!

بلا شك، هي ملحمة "علمية" لا تقل قدرا عن ملاحم التاريخ الأسطوري مثل ملحمة جلجامش، والإلياذة والأوديسا... وكما نقل لنا التاريخ البشري تلك الملاحم الخيالية، فإن التاريخ المعاصر سينقل للأجيال اللاحقة ملحمة روزيتا الخارقة، التي تضمحل أمامها خرافةُ غزوة القمر!

وهنالك عدد من الرحلات الأسطورية الأخرى للكواكب والمذنبات رصدتها بعض المصادر (1)، يمكن للقارئ أن يتسّلى بقراءتها كما يتسّلى بقراءة الأساطير التاريخية.

وإذا كان التصديق بتلك الأساطير العلمية (أو التاريخية على حد سواء)، هو قرار يتخذّه العالم أو المتعلم، فإنّي قد قررت أن لا أصدق الأساطير جملة وتفصيلا، وإن كنت أستمتع بمشاهدة فيلم روزيتا كإنتاج للخيال العلمي كما استمتعت بمتابعة أفلام المريخ!

ولكني على قناعة يقينية أن أصل الحياة التي ذهبت روزيتا تستكشفه في رحلتها الأسطورية هو من صنع خالق مبدع أنشأها على الأرض بعظمته وحكمته، ولم تتولد في أرحام المذنبات الأسطورية صدفة،  ولا استقرت بها فوق سطح الأرض بعد اصطدام عشوائي!

ومع كشف هذه الأسطورة كعينة من أساطير كشف سر الوجود، آن الأوان أن ندخل الانفجار الكوني الذي بنيت عليه رحلة روزيتا، وغيرها من نظريات النظام الشمسي والمجرات، في تفسير لأصل الوجود، وقبله لا بد من قراءة في "المبدأ".

مصادر

(1)     أحمد رجب رفعت، "الجميلة روزيتا"، المحطة بتاريخ 1/4/2018

(2) بخار الماء على المُذنب له طعمٌ مختلفٌ عما نعرفه هنا على الأرض، ناسا بالعربي، بتاريخ 18/8/2015

وسوم: العدد 817