السادية سلوك شاذ لا يخلو آدمي مهما كان من أن يرمي فيها بسهم إلا من عصم الله عز وجل من صفوة خلقه ونزهه عنها

أتذكر يوم ضيّفنا أحد الفضلاء ، وكان بين الحضور طبيب متخصص في معالجة الأمراض النفسية والعقلية ، واغتنم أحد الحاضرين الفرصة لينتزع منه تعريفا عاما للجنون أو الحمق أو الهبل بحكم اختصاصه ، فكان جوابهم مفاجئا للجميع حين قال :"الحمق أو الهبل لا يخلو أحد من أن يرمي فيه بسهم ، وأن الإنسان ترتفع وتنخفض نسبة حمقه أو هبله حسب الظروف التي يمر بها ". والحمق والهبل حسب تعريف هذا الطبيب المختص وبشكل مبسط يدركه الجميع هو أن يخالف الإنسان جماعة المجتمع الذي يحتضنه في سلوك ما ،فيخالفها ويبدو حينئذ في نظرها غير طبيعي وسلوكه غير مقبول .

واستحضرت هذا الحدث مؤخرا حين دار بيني وبين أحدهم حديث حول شخص آخر غريب الأطوار مع قرابته على وجه الخصوص ، وحصل بيني وبين من كان يحدثني اتفاق على أن هذا الشخص سادي الطبع ،ففكرت في معالجة موضوع السادية، فاستلهمت تعريف الطبيب المشار إليه أعلاه ، وملت إلى  قناعة مفادها أنه لا يخلو أدمي مهما كان من أن يرمي بسهم في السلوك السادي إلا من عصم الله عز وجل من صفوة خلقه ونزّهه عن ذلك .

ومعلوم أن السادية سميت كذلك نسبة إلى الأديب الروائي الفرنسي الشهير  ( الماركيز دي ساد ) الذي يغلب على شخصيات رواياته السلوك السادي، وهو حصول صاحب هذا السلوك على المتعة واللذة من خلال التسبب في ألم ومعاناة غيره ، وتكون تلك المعاناة إما بدنية أو نفسية أو جنسية .

 ويغلب إطلاق السادية على طلب اللذة الجنسية عن طريق الإذاية الجسدية والنفسية للغير ، وهي صفة تكون في الجنسين معا ذكورا وإناثا .  ويتم التوسع في إطلاق السادية على طلب مطلق اللذة والمتعة ،وإن لم تكن بالضرورة جنسية في تعذيب الآخرين عذابا ماديا أو معنويا .

ويقسم أهل الاختصاص السادية إلى نوعين :

ـ سادية مرضية مزمنة إجرامية تسبب المعاناة لضحايا الأشخاص الساديين ،وقد تصل بهم إلى  حد ارتكاب جرائم القتل  .

ـ سادية عادية تقتصر على ارتكاب الساديين بعض أنواع الأذى المادي أوالمعنوي في حق ضحاياهم .

ومن أعراض السادية حسب أهل الاختصاص أيضا ما يلي :

 ـ رفض الإنسان السادي العفو والصفح والمغفرة والتسامح مع الغير .

ـ رفضه وكراهيته لم يخالفه الرأي ، أو رفض الرأي الآخر .

ـ  افتراء الكذب والنفاق كأسلوب لإلحاق الأذى بالآخر .

ـ  العدوانية والرغبة أوالتلذذ بتعذيب الإنسان والحيوان، وبتدمير النبات وحتى الجماد .

ـ عدم الشعور بالذنب أو وخز الضمير .

ـ الوسواس وشدة التدقيق في أبسط وأتفه الأشياء واتخاذه ذريعة ومبررا لإلحاق الأذى بالغير .

ـ الغضب والتوتر والاكتئاب .

ـ فقدان الثقة في الآخر والشك والتشكيك فيه  .

ـ حب التسلط والسيطرة على الأشخاص والأشياء على حد سواء .

ـ الجبن والتمويه عليه بالتظاهر بالشجاعة والإقدام والجسارة .

ـ شدة الغيرة والحسد والحقد الأسود  على الغير .

ـ تضخم الأنا والافتتان بها  والغرور أو النرجسية .

ـ المماحكة وتكلف التبريرات والذرائع للتمويه على التصرفات والسلوكات السادية الشاذة  .

ـ احتقار الآخر والسخرية منه والاستخفاف والتندر به ،وفي ذلك تمويه على شعور الساديين بالدونية التي تلازمهم وإسقاطها على الغير وأسلوب السخرية ههنا يكون لا شعوريا آلية من آليات الدفاع التي يعتمدها الشخص السادي .

ونظرا لهذه الأعراض التي تتفاوت درجاتها من شخص سادي إلى آخر، فإن السادية تعتبر مرضا نفسيا يقتضي العلاج ، ويرى المختصون أنه يعالج بالطرق التالية :

ـ العلاج النفسي من خلال جلسات تتراوح مدتها ما بين شهر أو شهرين مرة أو مرتان في الأسبوع ،يقدم في النصح والتوجيه ، والتحفيز على تخطي عقدة السادية بما فيه النصح والتوجيه الديني ، ويتوقف هذا العلاج على مدى استعداد الشخص السادي لقبول النصح . وعلى قدر ثقافته يحصل له العلاج أو تتعذرعليه ، ذلك أنه قد يكون السادي عالي الثقافة ، وصاحب مركز اجتماعي متميز، فيساعده ذلك على العلاج بسهولة ويسر  ، وقد تكون ثقافته العالية  ومركزه الاجتماعي المتميز سببا في تعذرعلاجه لتشبثه بغروره ، كما أن المستوى الثقافي المتواضع قد يساعد صاحبه على العلاج حين يثق فيمن يعالجه ، وقد لا يساعده على ذلك بسبب مستواه الثقافي  المتواضع أو جهله . وسيّان في عدم الاستفادة من العلاج من السادية صاحب الثقافة العالية والمركز الاجتماعي المتميز المتشبث بغروره ، وصاحب الثقافة المتواضعة المتشبث بجهله .

ـ العلاج السلوكي، وذلك بالحيلولة بين الشخص السادي وما لا يرغب فيه مما يثير فيه السادية للتخفيف من سلوكه السادي .

ـ العلاج التأهيلي ويكون في حالة السادية  المزمنة والإجرامية ، ويتطلب وقتا طويلا ، وعلاجا شاملا .

ومعلوم أن الناس يختلفون في درجة ساديتهم، فمهم من يعاني من سادية مزمنة سواء كانت إجرامية أو غير إجرامية .ويمكننا القول أيضا  إن نسبة السلوك السادي تختلف من شخص إلى آخر، وتكون حسب الظروف التي يمر بها كل شخص في حياته .

ولا يمكن أن ينكر أحد تأثير المراكز الاجتماعية على استفحال السلوك السادي لدى بعض الأشخاص ، ذلك أن كل ذي سلطة يكون في الغالب ساديا بحكم سلطته . وعلى قدر خطورة السلطة تكون درجة السادية إلا من رحم الله عز وجل  ممن يقدرون مسؤولية السلطة ، ويستحضرون سلطان الله عز وجل فوقهم ويخشونه، مع العلم أن السادية لا تقتصر على أصحاب السلط بل قد يكون من لا سلطة له أكثر سادية من ذي سلطة .

والسادية سلوك مكتسب قد تعمقه مؤهلات جبلّية  تولد مع الإنسان . ومعلوم أن التربية تلعب دورا كبيرا في تجنيب الإنسان الوقوع ضحية السادية أو الدفع  في اتجاه جعله شخصا ساديا . ولما كانت الأسرة هي مهد التربية الأولى التي يتلقاها الفرد ، فإن دورها  جد مهم بل جد خطير في وقوع النشء  ضحايا السادية أو نجاتهم منها . وغالبا ما تتطور وتتفاقم السادية بين الزوجين ، ويكون سببها هو طلب اللذة الجنسية التي تسبب لهذا الطرف أو ذاك عذابا ومعانة يتلذذ به أحد الطرفين أو هما معا . وقد يعتقد البعض أن السادية الجنسية تكون من طرف الذكر دون الأنثى ، وهذا خطأ في التقدير، وجهل بالعلاقة الجنسية بين الأزواج . وإذا كانت السادية الجنسية تأخذ شكل عنف في العلاقة الجنسية بين الزوجين ذكورا وإناثا ،يكون فيها طرف يعاني وآخر يتألم أو يتعذب ، فقد تأخذ شكل حرمان أحد الزوجين الآخر من حقه في اللذة الجنسية  المشروعة ،الشيء الذي يسبب له معاناة وعذابا بسبب الحرمان بينما يتلذذ الطرف الآخر بذلك.  

وعن السادية الجنسية في بيت الزوجية ،تنشأ أشكال أخرى من السادية المتبادلة بين الأزواج مثل تلذذ الأزواج بإثقال كواهل الزيجات بالأشغال المنزلية، وكثرة الطلبات المبالغ فيها ، أو مثل تلذذ الزيجات بتكليف الأزواج ما لا طاقة لهم به من المطالب المكلفة ... إلى غير ذلك من السلوكات السادية المختلفة .

وسواء كانت السادية من أحد الزوجين أو من كليهما ، فإن آثارها السلبية الوخيمة تنعكس على الأبناء الذين ينشئون في أسر تسودها السلوكات السادية ، فيتربون عليها ،وهم يعتقدون أنها سلوكات سوية ، ويتطبعون عليها ، وتنتقل عدواها إليهم وهم صغار ، وحين يستقلون بأنفسهم في بيوت الزوجية ، فيقلد الأبناء الذكور آباءهم في ساديتهم حين يصيرون أزواجا ، بينما تقلد البنات أمهاتهن الساديات حين يصرن زيجات ، وهكذا تنتشر عدوى السادية من جيل إلى آخر ، وتصير السادية خاصية متوارثة من المؤسف الافتخار بها من  طرف من لا يقدرون عيبها ومنقصتها ومعرتها .

وقد تكرس تربية المؤسسات التعليمية السادية في الناشئة المتعلمة حين يكون المربون ساديين يتلذذون بتعذيب تلك الناشئة . وإذا ما اجتمعت على الفرد سادية  أسرته ، وسادية مدرسته تكون العواقب وخيمة ، وقد تكون النتيجة خلق شخص بسادية مزمنة  لا أمل في علاجها .

وفضلا عن السادية الناشئة عن التربية الأسرية ، وتلك الناشئة عن تربية المؤسسات التعليمية ، هناك سادية اجتماعية تمارسها كل فئات المجتمع ويكون لها ضحايا كثر ،وقد تكون هي أيضا مساهمة بشكل كبير في خلق أصحاب السادية المزمنة والتي قد تصل حد السادية الإجرامية المستعصية على العلاج .

وأخيرا كي نطمئن القراء الكرام  ونحد من قلقهم من السادية ، نقول إنه لا يخلو إنسان من أن يرمي بسهم في السادية ،وهو يخوض غمار الحياة المتوقفة على الاحتكاك بغيره ، وعلى طبيعة العلاقة مع هذا الغير ،علما بأن أنانية الإنسان أو نرجسيته تحمله على طلب اللذة والمتعة التي قد تكون على حساب معاناة الآخر . و معلوم أن الوعي بالسادية من شأنه أن يقلل من آثارها السلبية ، وقد يسهم بشكل فعّال في التخلص النهائي منها أو على الأقل  التخفيف من حدتها إذا ما كانت شخصية الإنسان على قدر كبير من الوعي ، وقدر كبير من قبول النقد والنصح ، ومراجعة الذات ، وقبول النزول من برج السادية العاجي . ولا بد من الإشارة إلى دور الإرشاد الديني في علاج السادية ،ذلك أن الإنسان الذي يبني حياته فوق أرضية الدين الصلبة ، يكون في الغالب بمنجاة من السادية ، بينما الذي يبني حياته فوق الجرف الهاري للعادات والتقاليد ويتخذه،ا طابو يكون ضحية السادية المنزمنة التي لا يرجى شفاؤها .

وسوم: العدد 819