كتب عن انتصاراتنا الخفية ... لنعززها ونكرسها

وربما أكتب لكم تحت هذا العنوان الكثير . وأعتبر الكتابة تحت هذا العنوان واجب الوقت ؛ لمواجهة مد مشيعي الهزيمة والمنهزمين ، القارعين على طبول اليأس ، المبشرين بالليل الطويل .

لقد تحصل ما يقرب من عشرة ملايين سوري في كل أطراف العالم على تجربة فريدة في الإدراك والوعي والأمن والحرية وتحمل المسئولية ولو الفردية .

صحيح أن الذين في المخيمات يخافون البرد والجوع ولكنهم لم يعودوا يخافون " طائرات بوتين ولا ضباع الولي الفقيه ولا براميل بشار الأسد ولا رجال عصاباته ومخابراته " .

عشرة ملايين سوري تحرروا من هاجس " الجدران لها آذان " . وكلهم في مهاجرهم يتكلم ويرفع صوته . بعضهم ينتقد حتى الدول التي تستضيفه ، ويسمع الفرنسي ينتقد بل يسخر من رئيسه ، والبريطاني يتملح بالحديث عن حكومته والألماني والسويدي والدانمركي وحتى في دول الجوار الثلاثة وأنعم ..سورية وحدها كانت وما زالت مملكة الخوف ..وعليها هذه المملكة تم الانتصار.

عندما كنا صغارا كنا نخاف الدخول إلى الغرف المظلمة . يوما بعد يوم كبرنا . وهذا ما حدث مع السوريين اليوم كلهم كبروا . وكل واحد في الأرض التي قسم له أن يعيش تجربتها كانت له تجربة أن الظلام لا يخيف . ولو لم تكن الخيم في عرسال أو في الركبان أو في المفرق أو في المخيمات التركية أكثر أمنا ولا أريد أن أزيد لما التصق بها اللاجئون ..

عشرة ملايين سوري خرجوا من سورية بعقول وقلوب ونفوس وسيعود إليها من سيعود خلقا آخر . وإذا كان الوطن رحم كما يقولون فليس من المعقول أن يعود وليد إلى الرحم الذي خرج منه بالطريقة التي ينصحون . بل لعله من رحمة الله بنا أن ذاكرتنا لم تسجل تقلبنا في الأصلاب والأرحام !! يتساءل البعض بسذاجة : كم كان الرحم دافئا ؟ كم كان الرحم آمنا ؟ ويجيبه عالم البيولوجيا بتفصيل أكثر عن عالم كان ...تصوره لنا اليوم التكنولوجيا بما يثير فينا العجب وأشياء أخرى كثيرة منها الغثيان.

والعشرة ملايين إنسان من المهجرين السوريين سيكونون بلا شك ..أومن سيعود أو من سيعاد منهم أو من سيبقى منهم جسرا للعبور إلى سورية جديدة ..سورية التي يغلب تجانسها الطبعي تجانسها المطبع على الطريقة الأسدية ، لتكون سورية كما يجب أن تكون .

عشرة ملايين سوري قد خاضوا تجربة فريدة في معان كثيرة أجملها ذواق طعم الحرية ، وطعم المسئولية ، وطعم الأمن والأمان ..

بعض الناس يظن أن باعث الخوف في سورية فقط هو رجل المخابرات وانك إذا ابتعدت عن السياسة بعدت عن الشر وغنيت !! وينسون خوف البائع السوري من رجل التموين ؟ وخوف السائق السوري من شرطي السير؟ وخوف القادم السوري من رجل الجمارك ؟ وأخوف الصناعي السوري من شريك الفيفتي وليس الففتين ولا الفايف ..

لا أعلم لماذا يسكت المحللون السياسيون ودارسو الظواهر الاجتماعية عن دراسة المخرجات الموضوعية لمثل هذه المدخلات .. ولماذا يغطون على حجم المتغيرات والتداعيات ؟!

ومن حق أن يذكرنا بعضهم بما عاناه هؤلاء اللاجئون أحيانا من معاناة يومية ، من ضنك ومن قسوة ومن عذاب ومن تمييز سلبي ، ومن دروس قاسية ..

ولهؤلاء نقول : إن الباحثين عن الحقيقة لا يختبئون وراء أسمال الإنكار . إن تجربة الاغتراب برمتها تجربة ثرة غنية متعددة الوجوه والانعكاسات والتداعيات وهذا حق لا شك فيه ولا ريب ..

نزعم موقنين : أن هؤلاء المغتربين من سيعود منهم إلى وطنه سيعود أرقى وعيا ، وأصلب عودا ، وأشد مراسا ، وأغنى تجربة ، وأدرى بما يأتي وما يدع ,,

وأن من سيعود منهم إلى وطنه فسيعود وقد خبر من المجتمع الدولي ما خبر ، وقد عرف من المجتمع السوري ما عرف ، ومن الشعارات ما ينفع منها وما يضر ..

هذا الاغتراب هو انتصار بل هو دورة واقعية حية على معاني الحرية والمسئولية يكسبها كل من عاشها كل بطريقته ..

انتصار خفي يحتاج لتعظيمه وتكريسه إلى ريادة الرواد لتعزيزه وتكريس المعاني الإيجابية منه وفيه ..

هذا حديث الانتصار الخفي في عقول وقلوب من سيعودون . أما الذين سيبقى الوطن في قلوبهم وقلوب أجيالهم فسيكون لهم شأن آخر ، وعليهم واجبات أخرى في صنع الانتصار القادم العظيم ..

وأعجب وتعجبون ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 819