ثقافة الفيسبوك ووسائل التواصل ..

الصمود ..الصمود

بقيت مقتنعا أن ما أتابعه على وسائل التواصل باللغة العربية من هجر الكلام ، وفوضى الحوار ، وفجاجة الردود في بعض الأحيان ، وخروجها عن سياقاتها في كثير منها ؛ ناتج عن الوضع الثقافي والاجتماعي لمجتمعاتنا التي  ما تزال تعيش في كنف الاستبداد والفساد ، وفي ظل كوكتيل ثقافي غير متجانس من الماضي والحاضر كما من الشرق والغرب .

بالأمس أتيحت لي فرصة الاستماع إلى محاضرة لمفكرة أمريكية كتبت خمسة كتب طارت شهرتها في الآفاق ، وترجمت  إلى قريب من أربعين لغة حول العالم . وما تزال تكتب وتحاضر فيحضر محاضرتها الآلاف . تكتب وتتحدث حول ما نسميه أمراضا نفسية مستورة مثل الخجل والانطواء والخوف والضعف والتردد ..

لست في سبيل الدعاية لأقول لكم إن محاضرتها بالأمس عن الضعف كانت مفيدة وممتعة ومشوقة . وأن يكون المتحدث مفيدا وممتعا ومشوقا هذا شيء عزيز في هذا الزمان .

وأعود للاختصار هي اعتبرت أن من معالم قوة الإنسان أن يكون قادرا على أن يعرض بضاعته العقلية على الناس فيقول ها أنا ذا . ولكنه سيكون أقوى عندما يكون مستعدا للثبات في وجه انتقادات الناس الهجينة والخارجة عن كل سياق ولاسيما تلك الانتقادات التي توجه له في الفضاء الاجتماعي من أشخاص مجهولين أو مغمورين أو ليس لهم في عالم المعرفة أو الثقافة أي باع . 

ثم ضربت مثلا بما تلقته هي من تعليقات من هذا النوع المستهجن على كتبها كافة ولكن تحدثت بتفصيل أكثر عما تلقته حول كتابها الأول ..التعليقات المدمرة التي كان من شأنها أن تحبطها وأن تقعدها وأن تسد عليها الآفاق .

ذكرت صاحبة الكتب الخمسة والمحاضرة التعليق الأول وما فيه من تصغير للكاتبة والكتاب ، وما فيه من سخرية وتحقير يبعث المرارة ويشيع اليأس والإحباط . ثم ذكرت التعليق الثاني ، ثم الثالث والرابع وفي كل مرة تتحدث معلمة الأثر المدمر التي كانت تتركها هذه التعليقات على نفسها في حينها ، وكأنها نوع من البراميل المتفجرة كانت تقصف بها لتخرجها من حقل الثقافة والكتابة على السواء . 

كانت تلك المحطة بمثابة درس تمثيلي استنبطت المحاضرة منه أمام جمهورها المكتظ الدروس والعبر والحكم .. علمت الناس كيف ابتلعت كيف صبرت كيف كانت قوية في ضعفها . لتخلص وهي تعترف بضعفها أمام جمهورها أن الضعف ليس عيبا . ثم لتضيف عليك أن تعلم  الناس لا تنتقدك لأنك فاشل أو مخطئ فقط  بل بعضهم ينتقدك لأنك ناجح وهو لا يستطيع ما تستطيع ..شعورك هذا يجب أن يحول شعورك بالضعف تحت مطارق الآخرين إلى شعور بالقوة . وأن ينقلك من مربع التراجع والتقهقر إلى مربع التحدي والاستمرار .

شخصيا استفدت من المحاضرة كثيرا أفكارا ودروسا وعظات ولكن الذي استفدته بطريقة غير مباشرة أكثر هو أن ثقافة جمهور وسائل التواصل الاجتماعي الشعبوية متقاربة. وأنا لا أريد أن أظلم كما ظَلمت صاحبة المحاضرة حين تحدثت عن التعليقات الفاجعة ..أنا عندما تصدمني عشرة تعليقات فاجعة أو محبطة أو مقنعة بأن أغلق الدكان ..أنظر إلى الأعلى فأرى أكثر من مائة إشارة صحية تشجع على المضي إلى الأمام ..

بقيت واحدة أضيفها من عندي أيضا ، فأنا لا أعتبر أن التعليقات المؤيدة لمضمون الرسالة هي الرسائل المشجعة فقط ، بل أعتبر كل وجهة نظر وإن مخالفة تمضي في سياق عقلي وعلمي موضوعي هي أكثر تأييدا ..من دلك على خلل في فكرتك أو تعبيرك فقد هداك وأحياك ..

ما أجمل المحاور يفهم كلامك جيدا ، ويحاورك في صوابه وخطئه بشكل أجود . إلى مثل أولئك المحاورين قراء وكتابا تشد الرحال ..

الصديق الذي أعلن أنه سينسحب من هذا الفضاء لا تحرمنا من إناراتك الجميلة وإن كنا نغفل أن نقول لك بعد كل إحسان أحسنت يا صديق ..

في الصالات المختنقة الحبيسة لابد من ضخ المزيد من الهواء النقي في كل حين وكل آن 

صبيحة النصف من شعبان 1440 ...21/ 4 / 2019

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 821