بين التكيف والتجديد

( غادروا أقفاصكم فالجو في الخارج ساحر )

تعاني الأمة الإسلامية اليوم مشكلة التكيف مع العصر الذي لم تشارك في صناعته، لاسيما وأن هذا العصر راح يتكلم لغة جديدة لم يألفها العقل المسلم !

ومشكلة التكيف مشكلة نفسية معقدة قديمة ناقشها طويلاً الفلاسفة وأطباء النفس وعلماء الاجتماع، نضرب عليها مثلاً من الجنين الذي تكيف مع رحم أمه طوال تسعة أشهر، وبات عليه أن يغادر .. فما الذي يحصل ؟ 

يجد الجنين نفسه بعد الخروج مضطراً للتكيف مع جو جديد مختلف كل الاختلاف عن رحم أمه الذي كان يجد فيه كل حاجاته، ونظراً لما يعتري هذا التكيف من مخاطر نجد نسبة غير قليلة من المواليد الجدد يلقون حتفهم بسبب فشلهم في هذا التكيف، وكذلك كان مصير الأمم التي فشلت في التكيف مع عصورها فاختفت عن خارطة الوجود !

واليوم يجد المسلم نفسه في مواجهة عصر جديد، يختلف كل الاختلاف عن العصور الماضية التي اعتادها وتكيف معها، فيجد نفسه بين خيارين أحلاهما مر : 

• فإما أن يتكيف مع العصر الجديد على حساب بعض ثوابت دينه .

• وإما أن يرفض التكيف فيجد نفسه خارج العصر، ويكون مصيره مصير الوليد الذي يخفق في التكيف مع الحياة الجديدة فيودعها !

لكن .. الأمل كبير بنجاح المسلم في تحقيق التكيف المطلوب دون التخلي عن ثوابت دينه، بما يتمتع به المسلم من إيمان، وما توافر له من نصوص الوحي التي تلهمه التكيف الحكيم .

فقبول الجديد والتكيف معه قضية محسومة في الإسلام، فمن جهة نجد القرآن الكريم يدين الوقوف على الأطلال، والجمود عند عصر الآباء، من ذلك قوله تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون) سورة البقرة 170 . كما يرشدنا القرآن الكريم إلى التجدد بالاستفادة من تجارب الآخرين، ، فيقول تعالى : ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ .. الآية ) سورة الروم42. فهي دعوة للتجدد بأخذ أحسن ما عند اآخرين، وترك ما دون ذلك.

وكما حفل القرآن الكريم بالنصوص التي تحض على التغير والتكيف والتجديد، فكذلك حفلت السنة النبوية بالنصوص التي تدعو إلى التجديد، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149) . فهذا الحديث ليس مجرد إخبار عن مستقبل الدين، وإنما في الحديث دعوة ملحة لتجديد الدين .

ونضرب مثلاً آخر عن التكيف من عالم الطب، فمن المعلوم طبياً أن أخذ عضو سليم من شخص، وزراعته في جسم مريض يحتاجه، إذا رفض جسم المريض العضو المزروع فيه، ولم يتكيف معه، أدى إلى موت المريض، ويمكن أن نتصور مثل هذا الرفض في الحقل الفكري، فالمجتمع الذي يرفض أفكاراً جديدة هو بحاجة لها، سيكون مصيره الموت !

ومثال ثالث هو حال المريض الذي أصيب أحد أعضائه بمرض عضال كالسرطان، فيتوجب عليه المسارعة للتخلص من هذا العضو، وكذلك المجتمع الذي يتوجب عليه التخلص من الأفكار المريضة،وإلا واجه مصير المريض بالسرطان، وهذا ما أشار إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905 – 1973م) الذي قال ما معناه : كما أن لكل مجتمع مقبرة يتخلص فيها من موتاه، فكذلك ينبغي أن يكون للمجتمع مقبرة للتخلص من الأفكار التي فقدت وظيفتها !

ونخلص من هذه المقدمات والأمثلة إلى أن أمتنا التي تعاني اليوم من أمراض شتى؛ آن لها أن تتخلص من بعض الأفكار التي فقدت وظيفتها، وأن تأخذ ببعض الأفكار التي حققت الصحة والعافية للأمم الأخرى، وبهذا نأمل أن تجتاز أمتنا محنتها الراهنة .. لتبدأ تدشين عصر جديد .. فهل تفعل ؟!

وسوم: العدد 823