كيف يمكن للإنسان حيازة الدنيا بحذافيرها ؟؟

كيف يمكن للإنسان حيازة الدنيا بحذافيرها ؟ سؤال قد لا يصدق الناس أن الجواب عنه  ممكنا لأن حذافير الدنيا أي أطرافها أو جوانبها أو نواحيها المختلفة ليس من السهل أن يحاط بها ،وهي التي فيها ما فيها مما يعجز الإنسان  عن نيله  خلال حياته القصيرة التي إذا حولت أعوامها إلى ساعات كانت في الحقيقة مجرد سويعات .

وهذا الذي يشير إليه السؤال  الوارد عنوانا لهذا المقال، والذي ليس من السهل أن يستوعبه بله يصدقه أحد هو أكثر من الممكن بل هو الحقيقة التي عبر عنها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول  فيه : " من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده ،عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا "

فهذا الحديث الشريف يجعل ما قد يظنه الناس مستحيلا ممكنا ، ذلك أن الإنسان إذا أصبح آمنا في موطنه أو بيته أو وجهته وفي أهله وماله ، لا يتهدد شيء ، وأصبح لا يشكو مرضا أو علة أو مغصا ، وعنده ما يكفيه من القوت يكون في حكم من جاز الدنيا برمتها ، فكيف يكون ذلك ؟

على الإنسان أن يتأمل هل له في هذه الدنيا أكثر من هذه المطالب الثلاثة : حيزا يأويه ويكون فيه آمنا على نفسه ، وجسدا صحيحا سليما ، وقوتا يكفيه .

وليتأمل كل إنسان مهما كان الحيز الذي يملكه سواء ضاق كأشد ما يكون الضيق كما هو الشأن بالنسبة لكوخ أو بلغ من السعة ما يبلغه القصر المنيف، هل يستطيع أن يحتل منه حين يجلس أو يضطجع أكثر من متر مربع أو مترين . أليس من المثير للسخرية أن يفخر الإنسان بامتلاك قصر وهو لا يحتل منه في الحقيقة سوى متر مربع أو مترين  جلوسا واضطجاعا ؟ وهو حيز لا يختلف عن حيز القبر الذي يحتضنه حين يغادر الدنيا . ولهذا درج الأكياس العقلاء من الناس على تسمية المنزل الذي يسكنونه  في محياهم قبر الدنيا وهو في الحقيقة كذلك لا مجازا .

وعلى ضيق الحيز الذي يشغله الإنسان  حيا وقياسه هو نفس قياس الحيز الذي يشغله ميتا ،يحتاج معه إلى أمن ، وإلا نغصت عليه راحته . ولا يعرف قيمة أمن السرب إلا من حرم منها، فسار فارا يلتمس الأمن في حيز آخر قد لا يجده أبدا.

وليتأمل الإنسان أيضا  صحة  جسده التي يفضلها على الغالي والنفيس حتى جرى في الناس مجرى المثل قولهم : "على الإنسان  أن يسأل ربه الصحة فقط " ،وكلمة فقط تدل على أنه لا يعدو في سؤال ربه شيئا آخر غير صحة بدنه ، فهي كل ما يريد في دنياه ،وهي رأسماله  وقيمتها  تعدل  قيمة أمنه في سربه  . ولمعرفة نعمة صحة البدن على الإنسان أن يفكر في مجرد شوكة تشوكه فيتداعى جسده بالسهر والحمى للعضو الذي أصابته حتى لا نقول عليه أن يفكر في آلم ضرس أو كسر عظم أو غير ذلك من الآلام التي يشكو منها حين يصاب جسده .

وليتأمل الإنسان قوته اليومي كما يقول الله تعالى : (( فلينظر الإنسان إلى طعامه ))  سواء  قل قلة طعام البائس الفقير، ولم يجاوز رغيفا أو كثر كثرة فاحشة كما هو الشأن بالنسبة لموائد الموسرين ، وتنوعت أنواعه وأصنافه مما لذ وطاب ، فإنه لن يصيب منه أكثر من شبع وري ، والشبع والري يختلف من شخص لآخر ، وهو على كل حال قليل إذا قيس مع ما تتضمنه الموائد التي تنصب بمختلف الأطعمة والأشربة . وقد يفخر الإنسان بكثرة طعامه وهو لا يصيب منه  في النهاية إلا القليل .

وليتأمل الإنسان ملبسه سواء  رخص وقل كما هو الشأن بالنسبة للباس المسكين ، أو غلا غلاء فاحشا وتعدد وتنوع  كما هو الشأن بالنسبة للباس الغني، فكلاهما يكفيه من اللباس ما يستر جسده ، ولا يستطيع الغني أن يرتدي كل ما يملك من لباس تماما كما أنه لا يشغل من قصره المنيف سوى متر مربع أو مترين جالسا ومضطجعا . والمسكين والغني سيان في الكفن إذا قبرا ، وليس ما يلبسان وهما على قيد الحياة مهما تنوع شكله وعلت قيمته أو قلت  يجاوز ستر الجسد كما يفعل الكفن تماما .

وليتأمل الإنسان مركبه سواء كان حمارا أو دراجة أو  سيارة فاخرة من آخر موديل أو مقصورة قطارأو طائرة تطير أو يختا يمخر عباب البحر، فحظه منه  كحظه من حيز بيته لا يزيد عن متر مربع أو أقل من ذلك يشغله جالسا أو مضطجعا .

فإذا بلغ التأمل هذا المبلغ بالإنسان ،ولا يبلغ ذلك إلا عند الأكياس العقلاء، وهؤلاء في راحة كما يقول المثل العامي عندنا  أدرك أنه بإمكانه حقيقة لا مجازا أن يحوز الدنيا بحذافيرها كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ونختم بحديث آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاله وهو يقرأ قول الله عز وجل : (( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر )) ونص الحديث قوله على الصلاة والسلام  : "  يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت " .

اللهم إنا نسألك حيازة الدنيا بأمن في السرب وصحة بدن وقوت يوم .  

وسوم: العدد 827