عن حب السَّاروت.. لماذا وكيف؟!

clip_image002_ddd27.png

كيف لا يهيمُ الناس به حبًّا وهم يرَون المتساقطينَ على طريق الثورة أمام مغانم رخيصة أو مناصب سرابيّة أو مكاسب شخصيّة، بينما بقي الساروت عفيف النّفس فقير اليد.

عبدالباسط الساروت.. منشد الثورة السورية وحارسها

لم يكن قد بلغ العشرين حين وقف في حيّ البياضة بمدينة حمص ملثَّمًا أمام جموع المتظاهرين التي تتحدى رصاص الأمن بالصدور العارية.

يومها غدا السّاروت ابن التسعة عشرة ربيعًا عنوانًا لا تخطئة العين ولا الأذن ولا القلب لثورة الشعب الذي حمل جراحه في وجه طاغية العصر معلنًا عن جنّته الموعودة "جنّة جنّة جنّة .. جنة يا وطنّا. "

الساروت ذلك الشّاب البدويّ النقيّ مثل صحارى لم تخالطها بعدُ أرجاس التقنيّة؛ لم يدرس في أكاديميّات حقوق الإنسان، ولم يخضع لدوراتٍ مكثّفة في التّأهيل السياسي ليعرف بأنّ الانحياز للثورة في وجه الظّلم حاجة إنسانيّة وفطرة بشريّة وموقف مفصليّ لحياةٍ كاملة.

السّاروت ذلك الشابّ البسيط الذي يطمح ككلّ الشباب الريّاضيّ في عمره إلى الاحتراف بنادٍ عالمي، ولا بدّ أنّه بات ليالي ذوات عدد وهو يحلم أنّه محطّ إنظار الأندية التي ستدفع له مقابل حراسته لمرماها، وخطّط ليكون له زوجة وأولاد وسيّارة فارهة وبيت جميل ورحلات اصطياف دوريّة.

الساروت الذي وجد نفسه وجها لوجهة مع قوّات الهجوم من النّظام أيقنَ أنّ ترك مرمى الثّورة دون حراسةٍ خيانةٌ عظمى؛ فألقى كلّ أحلامه في خانة التأجيل لصالح الحلم الأكبر والأعظم؛ حلم الحريّة والكرامة في مباراة يواجه فيها منتخب الثورة السلميّ منتخبّا مدججّا بالحقد والسلاح.

شهقَ السّاروت شهقة الثورة عام 2011م ولم يزفرها إلّا مع روحه التي فارقت جسده على أرض ريف حماة التي غنّى لها "ياحماة سامحينا والله حقك علينا".

لم يخفُت إيمانه بالثّورة لحظة من زمن، ولم تفتر همّته في مواجهة الطغيان، بل كان يتوثّب يقينه بالنّصر توثّبًا ينعكس على كلّ من حوله بل على كلّ من يسمعه فيدفقُ في أوصاله شحنة من العزم تتوهج معها شعلة الثورة في القلب والرّوح.

لم يكن فنانًا بالمعنى الاحترافي لكن بحة صوته كانت ثورة مكتملة الأركان، تسحرُ الألباب وتهتزّ معها أوتار الرّوح، وغدت أهازيجه رسائل العاشقين الجديدة بعد أن أصبحت الأرض والثورة والكرامة والحرية محبوبات الجيل الذي اكتشف ولادته وارتجف قلبه في آذار من عام 2011م.

كيف لا يهيمُ الناس به حبًّا وهم يرَون المتساقطينَ على طريق الثورة أمام مغانم رخيصة أو مناصب سرابيّة أو مكاسب شخصيّة، بينما بقي الساروت عفيف النّفس فقير اليد؛ حمل الثورة على كتفيه إلى حيث يرتجى النّصر، ولم يحملها إلى جدثها الأخير بالاسترزاق والتكسّب والتسلّق على أكتافها.

وكيف لا يحبّه الناس حبًّا يضيق عن الوصف وهو الذي كان يمكنه أن يركن إلى استشهاد أخوته الأربعة ويعلن اكتفاءه من العمل الثوريّ وانتقاله للعمل في مكتب فارِهٍ يرضي به نفسه ويقنعها بأنّها ما تزال على العهد، لكنّه آثر التشبّث بالأرض حتّى الرمق الأخير، فهو الذي وجد حياته بين غبار المعارك والثّائرون يخنقهم هواء المدن الفارهة.

أحبّ النّاس السّاروت لأنّه آمن بثورته بكلّ حالاتها وفي كلّ مراحلها، فكان معها والنّاس ينعونها كالابن المتشبّث بأمّه التي تحتضر فلا يريد أن يصدّق أنّها يمكن أن تموت ويدفع عمره بلا أدنى تردّدٍ لينفث فيها من روحه وحياته لتبقى.

لم يكن السّاروت معارضّا لنظام بشّار الاسد، بل كان ثائرّا فيه كلّ نزق الثّائرين ومغامرتهم ودوسهم للعقلانية التي تريد إقناعهم بالعجز تحت ستار الحكمة، فكيف لا يحبّه النّاس؟!

وكيفَ لا يحبّه النّاس وهو المعجون بلطافة حمص، الصّلب مثل حجارتها السّود، الممتشق مثل سيف الله المسلول الساكن في حمص العديّة.

ولم يكن السّاروت منشدّا أو فنانّا للثورة فحسب؛ بل كان ثائرا سلميّا يتقدّم صفوف الحاملين ورودهم لقوّات الأمن التي قتلتهم بدم زنخ، ثمّ غدا مقاتلّا شرسّا حين شمّرت الحرب عن ساقها فخاض المنايا غير هيّاب؛ يراه النّاس يتقدّم صفوفهم أشعث أغبر يزيده شعره المشرّد وغبار الميادين جمالّا وبهاء ورسوخّا في قلوب النّاس أجمعين.

بقي السّاروت ثماني سنين مثل الثورة البكر في أوّل أمرها، لا يدنّس طهرها أصدقاء يراودونها عن نفسها، ولا أعداء يحاولون انتهاك عرضها وقد غضّ إخوتها الطرف عن ذلك؛ أجل بقي السّاروت ثماني سنوات طاهرًا لم تلوثه أدران الدّاعمين ولا أرجاس أجندات الدول المختلفة.

لهذا أحبّ النّاس السّاروت فعجّت وسائل التواصل بصوره ومرثياته كما لم يحصل من قبله إلّا للقلّة من النّادرين الذين كتبوا بالدّم شهادات صدقهم.

ما جرى من تفاعل منقطع النّظير مع استشهاد السّاروت هو درس لكلّ من التحق بركب الثورة فخبا فيه وهجها، أو خفت اشتعالها أو خالطه اليأس، أو استبدّ به الخور؛ بأنّ الثّائرين ولو ملّت الدنيا بأسرها وكلّت فإنّهم لا يكلّون ولا يملّون.

وهو رسالة واضحة بأنّ الشهادة إحياءُ الثائرين، وأنّ الدم وقود الثورات، وأنّ السّاروت وهو شهيدٌ أكثر نفثّا لروح الثورة في النّاس منه حيًّا.

ولكنّ هذه المشاعر الجيّاشه ينبغي أن تترجم إلى مشاريع عمل وتتحول إلى أفعال على أرض الواقع وإلّا كانت صيحةً في واد ونفخّا في رماد وزوبعة في فنجان.

إنّ من حُبّ الساروت أن يعود الوهج للثورة ـ التي ما خبا في روحه وهجُها ـ إلى نفوس أبنائها والمؤمنين بها، وأن يشتد الإيمان بها في قلوبهم فيعود إلى أوجِه في نفوسهم حبًّا لها وإيمانًا ويقينًا بها.

ومن حُبّ السّاروت أن تبقى حنجرته صدّاحة في الثّائرين؛ لا يسكت صوته ولا ترحل أهازيجه، فهل سنشهد مشروعّا لجمع كلّ أرشيفه وتبويبه وتقديمه للشباب السوري والعربي في صورةٍ رساليّة مُهَدّفة؟!

ومن حُبّ السّاروت أن ننظر إلى أمّه التي تركها وراءه وقد فقدت أولادها الخمسة شهداء، وهي ترعى أحفادها الأيتام أبناء الشهداء؛ فهل ستساوي كلّ مشاعرنا ومحبّتنا رغيف خبز إن هم جاعوا وأرملوا؟!!

من حُبّ السّاروت أن لا يسقط سلاحه، ولا يبرد في عروق محبيه دمه وثأره، وأن يبقى صوته رفيق الثائرين حيثما حلّوا وارتحلوا.

ها هو جسد الساروت مسجىً أمامكمـ وليس فيه موضع شبر إلا وفيه شظيّة أو رصاصة أو إصابة، وهذا دمه مراقٌ أمام ناظريكم؛ فإمّا أن يكون الحبّ حفظّا للدم ووفاء للجراح وامتدادا للرّوح الثائرة، وإلا فلا نامت أعين الجبناء

وسوم: العدد 828