من حكم النابغة الذبياني

ما ضربت العرب خيمة من أدم للنابغة الذبياني في سوق عكاظ ونصبته حكما يقضي بين شعرائها إلا لرجاحة عقله وبعد نظره ورقي ذوقه وسعة علمه بالشعر وفن القول. ولا يخلو شعره من حكم منها قوله :

في هذا البيت ينصح الشاعر بالحفاظ على ود الصديق ناهيا عما يتسبب في التفريط فيه . ومما يتسبب في ذلك أن يسيء الإنسان إلى الصديق بالإلحاح في استغلاله . ومن أجل التعبير عن ذلك شبه الشاعر الملحاح في استغلال الصديق بالقتب وهو الرحل الذي يوضع فوق غارب أو سنام الجمل  فيؤثر فيه. والجميل في هذه الصورة أن الشاعر اختار الحيوان الصبور الذي يتحمل المشقة ، واختار تحديدا سنامه الذي يحمل الرحل ،فيظهر أثره عليه وقد نال منه من كثرة السفر والحمل . وما أشبه الصديق الصبور الذي يتحمل صديقا ملحاحا لا تنقضي مطالبه بسنام جمل يتحمل عب الرحل الذي تبقى أثاره بادية عليه .وإذا كانت الآثار التي يتركها الرحل في السنام مادية ، فإن الآثار التي يتركها من يلحّ في استغلال الصديق معنوية ،وهي أشد  وقعا من المادية كما يقول  أحد الشاعر :

ومما يجري مجرى المثل قولهم : " اعتني بجملك تحج عليه" وقياسا على هذا يقال ما قال النابغة " استبق ودك للصديق " تجده ساعة الشدة .

ومن حكم النابغة أيضا قوله :

وهو بيت يلي البيت الأول ، وفيه يدعو الشاعر إلى الرفق  وهو يمن  ، واليمن سعة عيش وبركة وخير، و يدعو إلى الأناة  وهي التمهل وعدم العجلة ، وفي الأناة سعادة بينما في العجلة شقاوة ، ويجعل الشاعر الجمع بين الأناة والرفق فوزا ونجاحا .  ولا شك أن المقصود بالرفق  والأناة هو  رفق بالصديق وأناة  لاسنبقاء وده ، ولا يكون وراء اسبقاء وده رفقا  وأناة إلا الخير . والرفق والأناة ما كانا في شيء إلا زاناه وما نزعا من شيء إلا شاناه .

ومن حكمه أيضا قوله :

ففي هذا البيت يجعل الشاعر  في اليأس مما يفوت الإنسان  مما كان يتمناه راحة ، وهذا اليأس إنما يكون بنسيان الفائت الذي لا خير فيه وعدم التعلق به ،لأن ذلك يورث الغم ما دام التعلق به قائما . ولكي  يقنعنا الشاعر بجدوى اليأس الذي هو  عادة مذموم ، ولا ينصح به بل ينصح بالتعلق بالأمل يشبّه الفائت الذي  لا خير فيه بطعام يسبب ذبحة مؤلمة في الحلق  أو غصة .

والملاحظ في هذه الحكم أن الشاعر يحرص على الإقناع  بسداد رأيه ، وصادق نصحه  عن طريق أمثلة من الواقع  الملموس والمحسوس ،ذلك أنه لا يمكن التنكر لقتب يعض السنام ، ولا التنكر لطعام يسبب غصة أو ذبحة .

فهل من منتصح ينتصح بحكم شاعر حكمته العرب في الشعراء لرسوخ قدمه في فن القول وسداد الرأي وصائب النصح ؟

وسوم: العدد 831