مأزق الديكتاتور المهمة المستحيلة بين خدمة سيده وخدمة شعبه

     وضعت في مقال سابق بعنوان (هل بلادنا وكالات أو دول) صورة عن هيمنة الدول العظمى على بقية دول العالم وتقاسمها مناطق النفوذ وأحياناً التنافس عليها وانتزاعها من بعضها البعض حين تتغير الظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية. ولكن ماهي الخيارات المتوفرة لحكام الدول التابعة والذين بغالبيتهم حكام عسكريون؟

     في البداية يجب أن لاننسى أن حكام دول العالم الثالث هم حكام تابعون بالمطلق حيث يتبعون للدولة العظمى التي توفر الحماية لهم وتمنحهم المساعدات المادية والعسكرية كي يقوموا بالمقابل بتأمين مصالحها. وبالتالي فهؤلاء الحكام، وكافة حكام الدول العربية بلا استثناء ضمنهم، يجدون أنفسهم في موقف صعب للغاية. فهم حتى يكسبوا رضا الدولة التي تحميهم، عليهم تأمين مصالحها، وحتى يأمنوا ثورات شعوبهم، فعليهم تأمين مصالحها، وهاتين المصلحتين بالضرورة تكونان واحدة على حساب الثانية. وهنا يكمن المأزق الذي يواجهه هؤلاء الحكام: خدمة دولة أجنبية، وهذه خيانة بحد ذاتها، وخدمة بلدهم المتعارضة مع خدمة الدولة الحامية. فاذا قصر الحاكم بخدمة الدولة الأجنبية الحامية له أو قرر أن يتخذ قراراً وطنياً يضر بمصالحها، فقد يواجه الاغتيال أو الانقلاب العسكري عليه كون الدول الحامية تجهز دائماً رجلاً ثانياً لينقض على الأول في حال قصر أو فشل أو خرج عن الخط المرسوم له أوقدم مصلحة بلده على مصلحة الدولة الراعية أو حاول ابتزازها. إنقلاب حسني الزعيم على شكري القوتلي في سورية وانقلاب السيسي على مرسي في مصر واغتيال الملك فيصل في السعودية أكبر أمثلة على ذلك في بلادنا العربية، واعتقال نورييغا في بنما وسجنه والانقلاب على أليندي في تشيلي واغتياله ومحاولة الانقلاب على أردوغان في تركيا هي أكبر أمثلة على ذلك عالمياً. وبالمقابل فكلما التزم الحاكم بمصالح الدولة الراعية على حساب مصلحة بلده، فهو سيواجه غضب شعبه من مظاهرات وإضرابات وأحياناً مقاومة مسلحة والمطالبة باسقاطه كما حصل في أوربا الشرقية نهاية القرن الماضي ومؤخراً في دول الربيع العربي وأيضاً في أوكرانيا والعديد من دول أمريكا اللاتينية.

     إذا الحاكم في تلك الدول واقع بين نارين وبين خيارين: مواجهة الدولة الحامية له أو مواجهة شعبه، وهنا نرى أن الحاكم إذا وضعه شعبه أمام ذلك الخيار، فهو إما سيحقن الدماء ويتنحى كما فعل زين العابدين في تونس ومبارك في مصر، وإما سيواجه شعبه ويدمر وطنه كما فعل الأسد والقذافي وصالح. وهنا لابد أن نشير إلى أن الدول الحامية تفضل دائماً أن تتعامل مع ديكتاتور في دول العالم الثالث لسهولة الحصول على ماتريد منه بالمقارنة مع تعاملهم مع دولة ديمقراطية يستلزم اتخاذ القرارات الكبيرة فيها عرضها على البرلمان وأخذ موافقة ممثلي الشعب عليها قبل العمل بها. ولكن ومن جانب آخر تفضل الدولة الحامية أن يتمكن الحاكم الذي يتبع لها من المحافظة على استقرار سياسي في بلده حتى لاتتأثر مصالحها سلباً في حال نشوء مواجهة بين ذلك الحاكم والشعب. ولكن في حال وكان لابد من تلك المواجهة، فتقرر الدولة الحامية إما إعطاء عميلها الضوء الأخضر لسحق الاحتجاجات وحرق الأخضر واليابس أو استبداله بآخر في تغيير شكلي للوجوه دون تغيير جوهر النظام.

     من المؤسف القول هنا أنه كلما كانت دولة العالم الثالث فقيرة وليس لها أهمية جغرافية أو سياسية تذكر، فان اهتمام الدول العظمى بالسيطرة عليها سيكون أقل وبالتالي يمكن أن تتمتع بقدر أكبر من الاستقلالية والحرية. وهذا يقودنا إلى النتيجة المحزنة وهي أن الثروة أو الموقع الجغرافي الاستراتيجي سيتحول إلى نقمة على الدولة الضعيفة لأنه سيجعلها هدفاً لمطامع الدول القوية التي ستنصب حاكماً عليها مما سيضعه بالتالي في مواجهة شعبه إذا فشل في تحقيق التوازن بين المصلحتين. يعلم الديكتاتور علم اليقين أن مصيره هو بيد سيده أولاً وأنه قادر بدباباته وطائراته على مواجهة الشعب ولكنه غير قادر على مواجهة ذلك السيد، وبالتالي لاتمثل مصلحة الشعب أولوية له بل تأتي بعد مصلحة الدولة الحامية أولاً وبعد مصلحته ومصلحة جهازه الأمني الذي يثبته في الحكم ثانياً.

     من هذا المنطلق نجد أن تقييم الديكتاتور من حيث كونه وطنياً أو خائناً هو تقييم خاطئ بالأصل، والأصح أن يتم تقييمه من حيث قدرته على خلق توازن بين مصلحة الدولة الحامية ومصلحته ومصلحة الشعب دون اللجوء إلى سفك الدماء، أو باختصار خلق توازن بين خيانته ووطنيته، وهذا هو المستحيل بعينه، فيلجئ لسحق الطرف الأضعف في هذه الحلقة والمتمثلة بالشعب الأعزل، ويترافق ذلك مع غض النظر الدولي عنه. 

وسوم: العدد 831