التديّن الزائف

توجهتُ إلى إحدى مؤسسات الوطن العمومية فألفيت زحاما كزحام يوم الحشر، ولوحة معلّقة على الحائط تقول: "اِمْلأ وقت الانتظار بالاستغفار". فخطر بالبال: "ولمَ الانتظار أصلا؟". كان ثمة موظف تعِس يَجبي الضرائب وعشرات المواطنين ينتظرون لحظة إفراغ الجيب بشوق. سألت موظف الاستقبال: "أين مكتب المدير؟". قال: "وفيمَ تريده؟". قلت: "لأقترح عليه حلا لهذه المعضلة السنوية". قال: "إن الحاج في مهمة خارجية". قلت: "فأين نائب الحاج؟". والحق أن صفة "مدير" تكاد تختفي في مؤسسات البلد. تتوجه إلى مستشفى المدينة الكبير لتسأل عن موعد الكشف الصحي فيقال لك "شوفْ مع الحاج". وإذا طلبتَ تقسيط الجزية.. عفوا الضريبة.. ينصحك الجُباة: "هادِي ما يسَلَّكْها غِي الحاج". ولست أدري أبِخبرتِه يحلّ مشكلات المواطنين أم بحَجّه؟! اقترحتُ على أحد الأصدقاء يوما أن يضاف فصل خاص بالحجّاج إلى قانون الوظيفة العمومية. ولا عجب، فإنك تسمع "الحاج" و"الحاجة" في مؤسساتنا حتى يُخيّل إليك أنك في بيت الله الحرام. قال الصديق: "وما الضير أن يسمّى المدير حاجا؟". قلت: "أوليس قد يتغيّب المدير دون عذر؟". قال: "بلى". قلت: "أليس قد يكذب؟". قال: "بلى". قلت: "وربما احتال وسرق وفعل الأفاعيل". قال: "كل ذلك جائز". قلت: "فهل تُفضِّل أن يقال سرق المدير أم سرق الحاج؟". فابتسم الصديق وقد أدرك المراد.

نعم، لِمَ الانتظار؟.. وفجأة تذكرتُ البلد الرقمي.. إستونيا التي تخلّصت من الورق أو تكاد. يحمل المواطن الإستوني بطاقة هوية رقمية تضم ما يحتاجه من وثائق: رخصة السياقة، تأمين السيارة، اشتراك النقل العمومي، الملف الطبي... بإمكان المواطن أن يحجز مكانا لسيارته في المرأب عبر الإنترنيت، وأن يطلب سيارة دون سائق، وينتخب عبر الإنترنيت. لا حاجة لحضور ولا لصندوقٍ شفاف لا يمنع التزوير. حتى المواطَنةُ الافتراضية ممكنة، ولا شيء يمنع المقاولَ الأجنبي من الحصول على مواطَنة إلكترونية (e. residency). ولِمَ لا يَفِد المقاولون وليس غير 18 دقيقة لتأسيس مقاولة دون ضريبة على الأرباح؟ فمِن أين تَنفذ البيروقراطية بكل ما فيها من بطء وتعثر وتكاليف مالية ومادية؟ لا طوابير في الإدارات ولا انتظار، بل إن بعض المؤسسات تكاد تخلو من الموظفين، وما الحاجة إليهم والحواسيب تملأ المكان؟ ربحت إستونيا ما يمثل ارتفاع برج إيفل من الورق كل شهر، وانخفضت النفقات العمومية إلى 2% من الإنتاج الداخلي الخام سنويا. أما بلد العجائب فيدعو مواطنيه إلى الاستغفار في أثناء الانتظار!

والشيء بالشيء يذكر، حدثني صديق أن عجوزا طريحة الفراش ما كانت تجد ما تسدّ به رمقها، وكان كل همّها أن توفّر دريهمات لاشتراء حفّاظات لطهارتها. فلما تُوفيت امتلأ بيتها بصناديق السكر والزيت ولحوم البقر والغنم، وأقام أهلها عزاء فاخرا يبتغون به تكميم الأفواه لا وجه الله!

نعم، الاستغفار مطلوب، ومن ذا يستغني عن الاستغفار؟ والحج شعيرة الله، لكن الدين جُعل لتقويم الاعوجاج لا للتستر على المفاسد. هو روح ومقاصد حسنة، لا قشور وتواطؤ على النفاق.

وسوم: العدد 833