خطاب الحج ودلالاته التربوية في القرآن الكريم

د. نادر أحمد حسين العتوم

إعداد: 

د. نادر أحمد حسين العتوم

شفيق أحمد حسين العتوم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وأصحابه أجمعين المبعوث بشيراً وهدىً ورحمةً للعالمين وبعد.

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى  اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)  [آل عمران/52] وفي موضع اخر يقول تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ  ) [محمد/7]

والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف لنا أن نحظى بشرف هذه المهمة لنكون من أنصار الله، ونفوز بكسب الجائزة العظمى والمتمثلة بنصرة الله لنا.

وهل الله بحاجة للنصرة من أحد؟ وكيف السبيل والآلية لهذا العمل ودرجة وجوبه علينا كمسلمين؟

وهنا يأتي الجواب: بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا  النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ {15} إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر/15- 16]، ثم قول الحق في الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر الغفاري- رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا)([1]). إذن فالله غني عن العالمين.

ولكن ما معنى أن نكون انصاراً لله؟ والجواب لا يحتاج إلى طول تأمل وتفكير فالله سبحانه يريد أن يكون له أتباعه ومحبيه وخاصته من خلقه يعبدونه لا يشركون به شيئا (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وهنا تتعدد صور وأوجه العبادات لتلتقي في نهاية المطاف بمصب واحد تجمعها فيه دائرة الطاعة التي تشكل المعنى الأصيل لنصرة الله فمن إعلان الشهادتين إلى الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله إلى أبسط الأعمال، كإماطة الأذى عن الطريق كلها أعمال تؤكد هذا المعنى بأنك بهذا العمل تعلن عصيانك للشيطان، ورفض دعوته والاستجابة لدعوة الله وحده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال/24] دعوة فيها الحياة، ينعم فيها الانسان بالعزة والكرامة، وله فيها خيري الدنيا والاخرة، فإذا ما أردنا أن نكون أنصارا لله ونحرز هذا الشرف العظيم، لا بد وأن نستجيب لدعوته أولا فنؤدي الامانة على وجهها الأكمل، وكل حسب ما أفاء الله عليه من نعمة العلم والعقل والفكر ومدى فقهه في أمور دينه، لذلك نجد في القرآن من الآيات ما تنتهي بالتركيز على توجيه العباد للبحث والاستقصاء والاستنباط كقوله تعالى" أفلا يعقلون" "أفلا يتفكرون" "لو كانوا يعلمون" وغيرها الكثير يأتي ذلك مكررا لبيان ضرورة وأهمية هذه الأدوات في مسيرة الدعوة إلى الله ونصرته.

أما عن وجوب الدعوة من عدمه فهذا حق وواجب مكلف به كل من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وقد روي عن يزيد بن مرثد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الاسلام، الله الله لا يؤتى الاسلام من قبلك)([2]).

مشكلة الدراسة:

بناء على ما تقدم وانطلاقاً من هذه القاعدة الإيمانية وفهمي المتواضع لهذه المسألة، ارتأيت أن أكتب في موضوع أشكل الفهم فيه على كثير من أهل القبلة، ويشكل مدخلاً للمشككين والمغرضين الذين يتربصون بالإسلام شراً لتشويه صورته وطمس ألقه, ولكن أنى لهم هذا (وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) والموضوع يتعلق بركن الحج حيث أن خطاب التكليف فيه بدأ بدعوة الله للناس (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا  وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج/27] وليس لطائفة بعينها كما هو الحال في الصلاة مثلاً أو الصيام أو الزكاة أو الجهاد فالخطاب فيه موجه للذين آمنوا.

ففي الصلاة يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة – 153].

وقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى  ذِكْرِ اللَّهِ) [الجمعة/9].

وفي الصيام يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة/183].

والأمر سيان بخطاب التكليف فيما يتعلق بالزكاة والجهاد ففي الزكاة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ  الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة/277].

وفي الجهاد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة/35]

وعليه، فإن مشكلة البحث تدور حول السؤال التالي:

 لماذا جاء الخطاب مختلفاً في الحج بدعوته للناس وليس للذين آمنوا علماً بأن الحاج لبيت الله الحرام ما هو إلا من الذين آمنوا فحسب؟

 وللإجابة على هذا التساؤل: لا بد من الربط بين الآية (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)  والآية 96/97 من سورة آل عمران (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ  {96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن  كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) وهنا يبدو من ظاهر الآيات أن الدعوة تشمل عموم الناس وهذا اعتقاد خاطئ ومجانب للحقيقة والصواب. حيث يقع الخلط فيه واللبس والحيرة عند كثير من المسلمين ومن غير المسلمين ممن يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا حجة تستند إلى حقائق (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ  ) [لأنعام/148].

 ولتفنيد هذا الاعتقاد وبطلانه وتمييز الخبيث من الطيب والغث من السمين وجد الباحث أن يقسم هذا البحث إلى ستة محاور تسهيلاً على القارئ فيكون أيسر للفهم وأدعى لاستجلاء الحقيقة.

المحور الأول: نبذة تاريخية عن الكعبة المشرفة

الكعبة هي المركز ومن حولها المسجد الحرام يصطف فيه المصلون بصلاتهم متحلقين ومستقبلين لها من جهاتها الأربع وهي قبلة المسلمين كما هو الاعتقاد الراسخ عند المسلمين كما أنها اول بيت وضع للناس للعبادة في الارض باختيار الله لا باختيار بشر وكان آدم عليه السلام أول العابدين لله فيه ولا يمكن ذكر المسجد الحرام دون ذكر الكعبة إذ يبدأ تاريخ المسجد ببناء الكعبة المشرفة، وأن أول من بنى الكعبة أول مرة هم الملائكة قبل آدم عليه السلام، ومن مسمياتها البيت الحرام، لأن الله حرم القتال بها وهي بلا شك أقدس بقعة على وجه الأرض لما ورد في القرآن الكريم (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ  ) وقد أوحى الله لسيدنا إبراهيم بتجديد بنائها وساعده في ذلك ابنه إسماعيل (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة 127/128] وبعد أن اكتمل بناؤها أمر الله سبحانه إبراهيم أن يؤذن في الناس لقصد زيارتها والحج إليها بقوله تعالى (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا  وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

 

 

المحور الثاني: مفهوم الحج لغة واصطلاحا

الحج لغة: الحج في اللغة من الجذر اللغوي حجج ويعني لغة القصد ومنه حج بيت الله الحرام أي قصده بالزيارة، وقيل القصد المتكرر مرة بعد الاخرى بسبب تكرار الناس اليه ويؤيد ذلك قول الحق (وَإِذْ  جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة / 125]([3]).

الحج اصطلاحا: هو قصد بيت الله الحرام لأداء الشعائر المطلوبة شرعا، من الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفات، بشروط مخصوصة وكيفيات محددة، وفي أوقات معينة عبادةً لله سبحانه وتعالى([4]).

المحور الثالث: أعمال الحج ودلالاتها التربوية

للحج مناسكه وشعائره ودلالاته فمن الطواف إلى السعي بين الصفا والمروة والوقوف على عرفه وغيرها من الافعال التي لا يتم الحج إلا بها لم تكن مجرد افعال وحركات وطقوس فارغة وانما لها مضامينها ورمزيتها لغاية سامية ترتبط بوجدان المسلم وعقيدته([5]). ولنبدأ من حيث يبدأ الحاج أول اعماله وهو الطواف حول الكعبة المشرفة ؛ فالطواف حولها يبدأ من اليمين إلى اليسار بعكس حركة عقارب الساعة، فعقارب الزمن تأخذك بخط مستقيم، بينما انت في حقيقة الامر في طريق عودتك إلى الله. هذه الرمزية التي تبدأ منذ ان خلق الانسان جنينا في رحم أمه وإلى لحظة مماته. ومما يجدر بالذكر ان العلم الحديث اكتشف مؤخرا أن الالكترونات حول نواة الذرة تدور بهذه الطريقة ومثلها الكواكب والنجوم والاقمار والشموس والمجرات يعني من الذرة حتى المجرة كلها تدور بهذا النظام الكوني العجيب من اليمين إلى اليسار، بعكس دوران عقارب الساعة([6]).

وهنا أرى بعين اليقين أن عملية الطواف حول الكعبة بنفس الطريقة ماهي إلا تناغما وانسجاما مع حركة الكون المحكومة ببديع صنع الله الذي اتقن كل شيء، والاغرب من ذلك مما اكتشفوه علماء الفلك ان الصغير يدور حول الكبير فالقمر يدور حول الارض لأنه الاصغر والارض تدور حول الشمس والشمس تدور حول شمس اكبر وهكذا إلى أن تصل المجرات لتجد ان المجرة الاصغر تدور حول الاكبر([7]). ولأن الله هو العلي الكبير اذن فكل شيء في هذا الوجود يدور بالرمزية التي نطوف بها حول الكعبة اقرارا بالوحدانية لله بنفس الحركة والنظام خضوعا لله وطاعة له (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الاسراء/44]. والطواف لا يجوز إلا بلباس الاحرام عند طواف القدوم لباس أبيض غير مخيط ودلالته اأنك يا ابن ادم جئت إلى هذه الدنيا لا تملك شيئا، وكذلك العودة ترجع إلى الله وأنت لا تأخذ معك من حطام الدنيا شيئا سوى هذه القماشة التي يلف بها جسدك وتستر بها عورتك، ولأنك كذلك فاحرص على أن ترجع إلي وأنت نقي خال من الآثام والخطايا كما هو لون هذه القماشة البيضاء، ولذلك ورد عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه للميت (اللهم نقه من الخطايا كما تنقي الثوب الابيض من الدنس)([8]).

والطواف حول الكعبة كما هو معروف سبعة اشواط والسؤال لماذا سبعة ولم تكن ستة أو ثمانية ؟ فذلك يندرج تحت الرقم اللغز(7) لا يعلم سره إلا عالم الأسرار لا يصح الخوض فيه ولو صح لجاز لنا أن نسأل لماذا السعي بين الصفا والمروة سبعة اشواط ايضا ورمي الجمار سبع حصيات وسبع من الماعز مقابل البدنة الواحدة في الهدي وغيرها من الأسئلة مما يثير الفضول عند البعض، وما علينا كمسلمين في مثل هذه المسائل إلا التسليم بما جاءنا من الحق من الكتاب والسنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول (اتركوني ماتركتكم)([9]). أي لا تشددوا وتضيقوا على أنفسكم بكثرة اسئلتكم الي كما كان حال اليهود مع أنبيائهم، والله تعالى يقول (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر/7]([10]).

السعي بين الصفا والمروة

كما هو معلوم أن سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام كان يقطن أرض فلسطين ومعه زوجته هاجر رضوان الله عليها، وبعد أن رزقا بإسماعيل جاءه الأمر الإلهي باصطحاب زوجته هاجر وولدها الرضيع إسماعيل إلى أرض الحجاز ففعل، وعندما حط رحاله في مكة المكرمة، أمره الله بالعودة إلى فلسطين وحيدا وأن يترك زوجته هاجر وولده إسماعيل في هذه البقعة من الارض، وعندما همّ إبراهيم عليه السلام بالعودة قالت له هاجر: إلى أين يا إبراهيم فقال: إلى فلسطين فقالت له: أالله أمرك بذلك قال: نعم قالت: إذن لن يضيعنا الله.

لم تحتج أو تعترض أو تجادل أو أقلها التساؤل كيف لها أن تبقى وتعيش في هذه الأرض القاحلة المجدبة، حيث لا ماء ولا شجر ولا ثمر ولا حتى بشر يؤنس بهم في تلك المنطقة. لم تفعل شيئا من هذا القبيل بل قالت بيقين راسخ وثقة لا يعتريها شك أو ضعف: إذن لن يضيعنا الله.

ومع أول خطوات العودة لسيدنا إبراهيم أخذ إبراهيم يدعو ربه (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ  فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم/37].

وباشرت هاجر وولدها إسماعيل حياتهما الجديدة في موطنهم الجديد استجابة لله ورسوله وطاعة لهم، لإن في طاعة ابراهيم النبي طاعة لله حتى إذا ادركهما العطش في هذه الصحراء الملتهبة، طفقت هاجر تبحث عن الماء بين جيئة وذهاب بين الصفا والمروة، وما إن أتمت الشوط السابع من البحث وهي في طريق عودتها لإسماعيل، وإذا بالماء تنبجس من تحت أقدامه، وهنا تبدو إشارة وإيمائة لطيفة توضح العبرة من مراوحتها أي (هاجر) بين الصفا والمروة بحثا عن الماء؛ فهاجر جاءت إلى هذا المكان الموحش وأقامت فيه بنفس يملؤها الرضا لا يدفعها للقبول فيه إلا طلب الطاعة لله ،متحملة بذلك من المشاق والمعاناة ما تتفطر له القلوب مستسلمة بكل حركاتها وسكناتها لتنفيذ إرادة الحكيم العليم – إنها كانت على ثقة بقلبها العامر بالإيمان بأن الله لن يضيعها وابنها، ولذلك كانت رحمة الله لها وولدها إسماعيل بانبجاس الماء من تحت قدميه ثمرة طاعتها لله، وهذا يقودنا للاستنتاج وكأن الله يقول: لنا عليك يا ابن آدم إن كنت تحبني بصدق أن تظل طيلة حياتك وأنت تراوح بين مطلبين اثنين، أولهما مطلب الطاعة، والثاني مطلب الأمل والرجاء لرحمتي وهنا يحضرني حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (ما من أحد يدخله عمله الجنة، فقيل ولا أنت يا رسول الله، قال ولا أنا إلا أن يتغمدني ربي برحمة)([11]).

الوقوف على عرفة

هو أعظم ركن من أركان الحج، والحج عرفة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوقوف في عرفة بهذا الحشد الكبير من الحجيج يأتون من كل فج عميق هو التشبه بحال الواقفين في فسيح القيامة، والواجب على الحاج بهذا المكان أن يضرع إلى الله، ويلجأ إليه في طلب المغفرة ليتحقق له الرجاء في الرحمة، ومن أعظم الذنوب أن يحضر الحاج عرفة في هذا الجمع العظيم ويساوره الشك بأن الله لم يغفر له، وقد اختلف العلماء بتسمية عرفة أو عرفات؛ فمنهم من قال لالتقاء الحجيج بهذا الجمع المهيب وتعارف بعضهم ببعض، وهذا قول ليس بدقيق لأن الحجيج لديهم الفسحة للالتقاء والتعارف بأكثر من مكان في مكة، ومنهم من قال كلمة عرفة مأخوذة من العرف يعني الرائحة الزكية، لأن رائحته تبقى معطرة بالرغم من انتشار رائحة الدم، ومنهم من قال أن جبريل عليه السلام نزل على سيدنا إبراهيم وأخذ يطوف معه يريه ويعلمه المناسك ويقول له عرفت فيرد عليه إبراهيم ويقول عرفت ومن هنا سمي الجبل بجبل عرفة، ومنهم من قال وهو الراجح عندي أن آدم وحواء حينما عصوا الله وأنزلهم إلى الأرض جعل كل واحد منهما في مكان وعلى عرفة التقوا وتعارفوا([12]).

 ومهما تعددت الروايات، فكل ما يهمنا ويلزمنا معرفته هو أن هذا المكان له قدسيته، هذه القدسية المستمدة من التقاء أول الموحدين عليه وأول نقطة يذكر فيها اسم الله على لسان بشر، وهنا وعلى هذا الجبل أخذ الله من آدم من ظهره ذريته وقبضهم بيده وهم كالذر ونثرهم على الجبل، ثم أشهدهم على أنفسهم كما ورد ذكر ذلك في القرآن الكريم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف/172] أنه التذكير من الله والتحذير لبني آدم من التنصل والنكران لشهادتهم هذه، وما وقوف الحجيج في عرفة يكبرون الله يمجدونه ويعظمونه إلا محاكاة لذلك المشهد القرآني وكأنهم يقولون لخالقهم: إننا يا رب على الوعد والعهد الذي قطعناه على أنفسنا ومازلنا عند شهادتنا لك التي شهدنا في هذا المكان، ولابد من الإشارة إلى أن يوم عرفة من الأشهر الحرم، فهو اليوم الذي أتم الله فيه نعمته على عباده وأكمل لهم فيه دينهم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة/3] والصعود لعرفة والوقوف عليه في هذا اليوم الأغر ما هو إلا تعبير عن اعتراف الحاج لله بما اكتسب من المعاصي والآثام يحدوه الأمل والرجاء بعفو الله ومغفرته ورحمته له، كما غفر الله لأبينا ادم وأمنا حواء من قبل ذنبهما بعدما عصوا الله فأزلهما الشيطان وأخرجهما مما كانا فيه من نعيم الجنة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة/37]. ومن ثم فإن وقفة الحجيج هذه تمثل اعتراف المسلم بنعم الله عليه وأعظمها نعمة الاسلام الذي أكمله لنا ربنا في هذا اليوم فلا ترى إلا أكفا مرفوعة إلى السماء ولا تسمع إلا ألسنة تتضرع وتلهج بالدعاء إلى بارئها رجاء رحمته.

مايقدمه الحاج من الهدي

كلنا يعرف قصة سيدنا إبراهيم مع ولده إسماعيل حينما رأى في المنام ذات ليلة ان الله يأمره بذبح ولده إسماعيل وهو الوحيد ونعلم ما دار بينهما من حوار تقشعر له الأبدان في هذا الموقف الرهيب ونعلم ما كان من إسماعيل ردا على هذا الابتلاء كل ذلك يتلخص بآيات بينات اذ يقول تعالى (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى  قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102} فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ {103} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ  نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات 102-107].

وهنا يتضح وبشكل جلي في هذه الآيات أن إسماعيل لم يضعف ولم يتردد ولم يعط لنفسه الفرصة بالتفكير حتى قال: (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) وما إن همّ إبراهيم بذبحه وإذا بجبريل عليه السلام يمسك بيده ويمنعه ويأتيه بالبشارة والفداء لإسماعيل من أرحم الراحمين (وفديناه بذبح عظيم) ولولا أن منّ الله على إبراهيم برحمة منه وفضل بهذا الفداء لكان علينا أن نقدم أحب أبنائنا إلينا ذبحاً كالخراف تزلفاً وتقرباً لله، ولكن من رحمته بنا واشفاقاً علينا جعل الفدى لنا من بهيمة الأنعام. وبعد أن تجاوز إبراهيم هذه المحنة وخرج من هذا الابتلاء منتصراً على نفسه بإيمانه الكبير (إن إبراهيم كان أمة) توالى عليه المدح والثناء من رب العالمين (سلام على إبراهيم) (كذلك نجزي المحسنين) هذا الاطراء الذي يشمل كل من هو محسن اتخذ من إبراهيم وإسماعيل نموذجاً لطاعة الله إلى يوم القيامة، والإحسان كما هو معروف أعلى درجات الإيمان.

 

 

رمي الجمار والحكمة منها

رمي الجمار من واجبات الحج اقتداء بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحُجّ بعد حَجّتي هذه)([13]). ودلالة هذا الفعل ترغيم الشيطان وإهانته وإذلاله اقتداء بإبراهيم عليه السلام حين اعترضه الشيطان وهو في طريقه لذبح ولده إسماعيل بعد تلقيه الأمر من ربه، فوسوس له عند مراحل ثلاث بألا يفعل فرماه إبراهيم بسبع حصيات بكل مرحلة والحكمة من هذه الرميات هو إعلانك الطاعة والولاء لله وحده وتمردك على الشيطان وعصيانك له كما هي الصورة لإبراهيم المثال في طاعة الله في هذا المشهد الإيماني.

المحور الرابع: حقيقة الخطاب الإلهي (ياأيها الناس) المتعلق بركن الحج

أشار الباحث في السابق أن دعوة الله للناس فيما يتعلق بركن الحج جاءت على إطلاقها (وأذن في الناس بالحج) ولبيان الحكمة من هذه الدعوة بهذه الصيغة تبين أنه لابد من الربط بين هذه الآية والآية 96/97 (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ  {96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن  كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) فالخطاب كما هو في الآيات موجه للناس كافة دون استثناء، وهنا يقع اللبس عند الكثيرين من أهل الإسلام فتسللت الحيرة إلى قلوبهم وعقولهم وأذهانهم ثم إن في ذلك ما يشكل مدخلا للمدلسين والمغرضين والمنافقين وما أكثرهم هذه الأيام (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا  هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)، وعودة للسؤال المطروح لماذا استهل خطاب التكليف في ركن الحج بدعوة الناس وماهي الحكمة من هذه الكيفية وهنا اقول: إن الله جل وعلا يخاطب في الناس فطرتهم أولا (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ  الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31}  مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم /الايات30-32] وفي هذه الآيات يأمر الله رسوله ومن اتبعه بأن يسددوا وجوههم نحو الوجه الذي اراده لهم للطاعة وهو دين الاسلام دين الفطرة الذي لا تبديل له، وأن نبقى متمسكين به ماحيينا، لأنه الدين الحق ولا دين سواه، وأن في تفرقنا من بعده أحزاباً معصية لله وخروجاً عن طاعته.

وفي سورة الاعرف الآية 172 يقول تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).

وفي هذه الآية يذكر الله سبحانه عباده بالميثاق والعهد الذي قطعوه على أنفسهم وجعلوا من أنفسهم شهداء عليه، ثم جعلوا الله عليهم شهيداً حينما اعترفوا طواعية لله بالربوبية، هذه الشهادة التي كونت بذرة التوحيد في النفس البشرية ألا وهي الفطرة، وفي ذلك ورد عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)([14]). ولم يقل يؤسلامانه، لأن الاسلام هو دين الفطرة، وأن كل مولود يولد مسلما بالفطرة.

وما يطرأ على المولود من تحول عن الدين الحق ما هو إلا نتيجة معطيات وتأثيرات اجتماعية سلبية ورثها لاحقاً عن مجتمعه الذي يعيش فيه.

إذن، فالله يخاطب في الإنسان فطرته المتغلغلة في كيانه منذ أن كنا ذرارياً في أصلاب آبائنا، هذه الفطرة التي لا تقبل التجزئة ولا الانقسام ولا التمرد، حتى وإن جحدنا وعصينا بعد أن شهدنا وأشهدنا الله على أنفسنا طواعية بأنه ربنا الذي لا اله إلا هو (بل على الانسان بصيرة ولو القى معاذيره) مما يوجب على الانسان استفتاء قلبه وإن أفتوه الناس، فيستمع لصوت العقل والفطرة، فإن انصاعت نفسه لدعوة الحق هذه فقد تحرى رشدا، وإلا فذلك هو الخسران المبين.

 ثم إن الله سبحانه بهذه الدعوة للناس بعد أن تبين لهم الرشد من الغي بنور الفطرة وأقروا الوحدانية لله يريد أن يوقظ فيهم فطرتهم، وربط بينها وبين أول بيت وضع للناس على وجه الارض للعبادة باختيار الله، لأنه يشكل رمز التوحيد (لا اله إلا الله)، وأن يتحلقوا جميعاً حول هذا العنوان الأعظم الذي هو الأصل في كل الموجودات، وعموم أعمال الحج بكل ما فيها من تنوع وصور تشير إلى هذه الحقيقة دون لبس أو غموض، لأن التوحيد هو الركن الاعظم في كل العبادات والقاسم المشترك بين كل الأديان من عهد سيدنا آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤيد ذلك رواية الصحابي الجليل معاذ بن جبل حينما كان برفقة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان رديفه على راحلته إذ ناداه ثلاثا وفي كل مرة يرد معاذ لبيك يا رسول الله فقال: يا معاذ، ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال: يا رسول الله، أفلا أخبر بها فيستبشروا قال: (اذن يتكلوا)([15]).  

 فالغاية من هذا الربط بهذا البيت الذي هو أول بيت وضع للناس هو الاعتراف والإقرار بالعبودية والربوبية والألوهية لله وحده لا شريك له كما شهدنا وأشهدنا الله على أنفسنا من قبل، فإن استجابوا وصدقوا وصدقوا الله بتوجههم هذا، كان حقاً على الله هدايتهم إلى صراطه المستقيم وما هذه الخطوة إلا الأولى على طريق الحق تتبعها خطوات ليكتمل عندك التصور. وتتضح لك الصورة بجلائها لمعنى دعوة الله إليك أيها الإنسان، وهي إخراجك من الظلمات إلى النور (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  ) [البقرة/257].

ومن رحمة الله بعباده أن جعل أمر هدايتهم ميسرة، فإن طلبوها بصدق وإخلاص نية بعد إقرارهم الوجداني له بالربوبية، فلا بد وأن يكتب لهم التوفيق بالهداية بصريح ما ورد في الآية الكريمة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) يقول الله (مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) بمعنى: أن الله لا يريد أن يعنتك ويشق عليك ويتركك في حيرة من أمرك وأنت تبحث عنه ولك في الحوار الذي دار بين إبراهيم وقومه وهو يدعوهم للإيمان العظة والعبرة والدرس، وهو الحوار القديم الجديد بين الحق والباطل بين الفطرة النقية والفطرة الملوثة بأدران الكفر (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ)  قال وقد أنكر عليهم هذا الفعل (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ {72} أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) قالوا وقد أدانوا أنفسهم بأنفسهم وهم لا يشعرون، (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) أي أنهم كانوا معطلين لفطرتهم واكتفوا بما وجدوا عليه آباءهم من قبل وانتهى الحوار بدحر الباطل بقول إبراهيم، (قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ {75} أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ {76}  فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ {77} الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ {78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ {79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ {80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ {81} وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ  الدِّين) [الشعراء 75-81] والملاحظ في الآيات الثلاث الأولى من رد إبراهيم إدخال الضمير (هو) والعائد على الله للتأكيد على أن هذه النعم بيد الله وليس للعنصر البشري أي دخل فيها، وأن المسبب والمانح لها هو الله وحده ولا أحد سواه، بينما في الآيتين الأخيرتين حذف الضمير (هو) لأن أمر الإحياء والإماتة وأهلية المغفرة لا تحتاج إلى تأكيد من الله، لأنه لا ولم ولن يجرؤ أحد إلى قيام الساعة تبني مثل هذا الادعاء الباطل الذي لا يجوز نسبته إلا لله وحده لا شريك له، وهذا الدليل الموجز من كتاب الله يدل بما لا يدع مجالا للشك أن من يطلب الهداية بصدق وإخلاص نية لابد وأن يهديه الله إلى سواء السبيل، ولهذا كان الربط بين دعوة الله للناس في الحج والدعوة مفتوحة وأول بيت وضع للناس لماذا؟ لأنه رمز التوحيد (لا اله إلا الله) ولذلك جعله مباركا وهدى للعالمين.

 وعودة للآية من جديد (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) بمعنى أن من يطلب الهداية ما عليه إلا أن يتوجه لهذا البيت الرمز بيت التوحيد مؤمناً وشاهداً لله بالوحدانية بقلبه وعقله ومشاعره بفطرته السوية وهداه على الله (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) وهذا هو المقصود بدعوة الله للناس وليس المقصود دعوتهم للحج كما نعرفه نحن كمسلمين، لأنه لا يستوي دعوتهم وهم مازالوا على غير هدى من الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا) فان طلبوه أي (الهدى) من الله بصدق، فلابد وأن يهديهم إلى ما جاء به خاتم الانبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحق ألا وهي دعوة الناس كافة إلى الاسلام، ومن جميل التفكر أن أجد هذا التوافق وهذه التوليفة الايمانية بين أول بيت وضع للناس وآخر نبي ورسول بعث للناس؛ فأول بيت ارتبط بآخر الانبياء والرسل، وهذا دليل دامغ على أن الدين واحد لم يتبدل من عهد آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الاسلام، والبيت للناس كافة والذي عبرنا عنه بالدعوة للتوحيد والنبي الخاتم للناس كافة، والبيت مباركاً وهدى للعالمين ومحمد صلى الله عليه وسلم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فمن منّ الله عليه بالهداية لن يقبل غير الإسلام ديناً (قُلْ بِفَضْلِ  اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس /58].

 وهذه بمثابة تأشيرة وإذن دخول لعدة سفرات مدى الحياة لآداء فريضة الحج، لأنه انتقل باستجابته هذه لله ورسوله من الضلالة إلى دائرة الإيمان، ولك أن تعجب أخي القارئ حين تجد أن الله استهل سورة الحج بـ (يا أيها الناس) واختتمها بقوله (يا أيها الذين آمنوا)، فالخطاب دعوة للناس كافة أولا على مختلف أديانهم ومعتقداتهم، وفي ختامها الدعوة لخاصته من عباده المؤمنين، والأعجب أن جعلهم شهداء على غيرهم من الناس إكراما لهم بقوله تعالى (وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا  عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) [الأعراف/185].

المحور الخامس: الربط بين دعوة الله للناس ورسالة كل الانبياء وخاتمها الرسالة المحمدية

خلص الباحث فيما سبق إلى أن الدعوة المحمدية هي دعوة كل الانبياء والرسل من عهد سيدنا آدم عليه السلام إلى خاتم الانبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ألا وهي الدعوة إلى الاسلام، أي الاستسلام بمعنى استسلام العبد وانقياده وخضوعه لله وحده وهو دين كل الانبياء والمرسلين، ودعوتهم للناس لم تخرج عن هذا الاطار وإن تنوعت الشرائع، ودليل ذلك ما ورد في كتاب الله بهذا الصدد فالآية 71-72 من سورة يونس يقول تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن  كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ {71} فَإِن  تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

وفي سيدنا إبراهيم عليه السلام يقول تعالى في سورة البقرة الاية/ 127- 128): (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [والبقرة 131-133]: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {131}  وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) والبقرة اية/136: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ  مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

وفي قوم لوط عليه السلام – الذاريات /الآية 35-36: (فَأَخْرَجْنَا  مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {35} فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ).

وفي موسى عليه السلام يونس /84: (وَقَالَ مُوسَى يَا  قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ).

وفي عيسى عليه السلام الآية /52: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى  اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

وفي محمد صلى الله عليه وسلم – غافر/66: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وفي سورة الجن 13-14: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا {13} وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا {14} وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).

فالإسلام دين أهل السموات والارض، يقول تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا  وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران/83].

إذن، يتضح مما تقدم: أن كل الرسالات السماوية جاءت بالإسلام دعوة للبشرية جمعاء، ففيها الهدى والنور على طريق الحق وتحرر الانسان من قيود العبودية لغير الله تعالى (إن الدين عند الله الاسلام) هذا الدين الذي جاء برسالته خاتم الأنبياء والمرسلين للناس كافة على عكس السابقين من الانبياء والمرسلين الذين بعثوا لأقوامهم خاصة وبشرائع متباينة باختلاف الأزمنة والعصور (ولكل جعلنا شريعة ومنهاجا)، فاذا ما استجاب الإنسان لهذه الدعوة فآمن بالله رباً وبمحمد نبياً والتزم بما يقتضيه هذا الدين من طاعة لله ورسوله، فإن في استجابته هذه الفلاح في الحياة الدنيا وفي الآخرة وذلك الفوز الكبير.

المحور السادس: علاقة نداء الحج بالرسالة المحمدية

عرفنا فيما تقدم أن نداء الحج (وأذن في الناس بالحج) ليس بخطاب تكليف وإنما خطاب دعوة وتعريف؛ الدعوة للتوحيد(لا اله إلا الله) والتعريف بما يستوجب علمه بالضرورة من اتباع لدعوة خاتم الأنبياء والمرسلين، الدعوة للهدى والنور والسلام (قُلْ إِن كُنتُمْ  تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {31} قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ  اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (ال عمران31/32).

وأشار الباحث أيضا أنه لا يصح الحج إلا لمن هو على ملة الاسلام، لأن للمزور قدسيته ومكانته وعظمته وشرفه، ومكان بهذا القدر والسمو لا يسمح لزائره شرعاً أن يأتيه بقلب يتسع لغير الله، لأن في ذلك رجس والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا) [التوبة/23]. فجدير بالزائر القادم بقصد الحج صحة العقيدة كشرط للدخول بدائرة الايمان، ليرفع عنه الحظر؛ ففي سلامة العقيدة سلامة الدين ونجاة الأمم، ولذلك جاء الخطاب الالهي بـ ( يا أيها الناس) مع بداية سورة الحج وانتهى بـ (يا أيها الذين آمنوا) بعد أن عرض الله للناس كافة في هذه السورة من الآيات البينات التي توقظ فيهم فطرتهم وتلفت أنظارهم وتحرك فيهم عقولهم وقلوبهم للتفكر والتأمل والاستدلال، فمن استجاب لله ورسوله دخل في زمرة الذين آمنوا، وهنا أصبح مكلفاً شرعاً بأداء هذه الفريضة إن استطاع إليه سبيلا وكان من المسلمين.

وكما أن لكل بناء أركانه وقواعده طلباً لثباته واستقراره، فإن لبناء عقيدة الإسلام في النفس البشرية أركانها وقواعدها التي لا تنهض إلا بها وهي خمس أولها التوحيد وآخرها الحج، فكل أعماله ماهي إلا شهادة لله بالوحدانية، وبذلك يلتقي الركن الأول مع الركن الخامس وهو الأخير ليشكل الإسلام بالتالي وحدة إيمانية واحدة لا تتجزأ، جوهرها (لا اله إلا الله )، ولكن لماذا جاء الحج بالترتيب الخامس، والحكمة من لدن حكيم خبير؛ فلأن الله يعلم أن في الحج من المشقة والعنت ما يحول بين المسلم وأداء هذه الفريضة، فمنهم المريض ومنهم العاجز ومنهم من لا يقدر على تأمين نفقات السفر ومنها بعد الشقة وغيرها كثير ويقبل الله منك ويرضيه عن كل ذلك -في حال عدم الاستطاعة- استقبالك لأول بيت وضع للناس ببكة بصلاتك، ولذلك قال تعالى (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) [آل عمران 97) وهذا من لطف الله ورحمته بعباده، بينما في الركن الأول وهو الأعظم فالأمر ميسر ولا يحتاج لأي جهد سوى التلفظ باللسان لا اله إلا الله مع شرط تصديق القلب بها وطمأنينته، وفي الركن الثاني وهو الصلاة، فيجوز لك أيها المسلم الصلاة حتى إيماءاً بعينيك في حالة مرضك أو عجزك، وفي الزكاة فأنت غير مكلف إن لم تملك من المال ما بلغ عندك النصاب ومضى عليه الحول، ولا حرج عليك في الصيام طالما أنك لا تطيقه لموانع شرعية تضطرك للإفطار فتدفع الكفارة لإفطار يومك (مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [ المائدة/6]. فالإسلام دستوره وأصوله الراسخة وثوابته التي لا تتبدل بتبدل الأحوال ، وعلى كل مسلم أن ينفق عمره يدور في فلكه كما تدور الرحى، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما:، كتاب الله وسنة نبيه)([16]).

        وقد يخطر ببال كثير من مسلمين وغير مسلمين، ترى ما لحكمة من أمر الله لعباده باستقبال هذا المكان بصلاتهم والحج اليه بزيارته؟ أما الحج فذلك لقدسية المكان بوجود أول بيت وضع للناس باختيار الله لعبادته، ومنارة تشع بنور الهداية لتحرير الناس من أغلال الشرك إلى رحابة الاسلام، ولذلك قال الله فيه أنه (مباركًا وهدى للعالمين)، فالكعبة هي المركز ورمز التوحيد (لا اله إلا الله) ومن حولها المسجد الحرام يقف فيه الزائرون لبيت الله متحلقين ومستقبلين لهذا المركز يطوفون به يسبحون الله ويكبرونه ويعظمونه ويمجدونه، يشهدون له بالوحدانية ينزهونه عن الشريك، يدعونه بما أهمهم في الدنيا والاخرة، ويحمدونه ويشكرونه على أن هداهم ومنّ عليهم بنعمة الإسلام، فتكون بذلك الكعبة هي نواة الإيمان وجوهره (لا اله إلا الله)، ولأن الله تعالى لا تحده حدود ولا يتحيز في حيز ولا يتجسد على شكل أو هيئة (ليس كمثله شيء وهو السميع العليم) وضع لنا هذا الرمز في الأرض، تجمعنا فيه كلمة التوحيد، والطواف بها ما هو إلا طواف في فلك هذا العنوان الاعظم.

وللكعبة طرازها الهندسي في البناء فقد جاءت مربعة ومكعبة معاً أي بجدران مسطحة ولم تأخذ شكلاً دائرياً، وهذه إشارة على أن لله ملك الأرض ومن فيها بجهاتها الأربع، وكأن الله يقول لك: في أي جهة كنت يا عبدالله فما عليك إلا أن تتوجه بوجهك شطر هذا البيت الرمز لتكون ممن أنعم الله عليهم وهداهم إلى صراط مستقيم، ولو أخذت الكعبة شكلاً دائرياً لما كان لها صدراً يستقبله المصلي بوجهه، ثم إنه لم تكن لها وجهة يستقبلها المصلون على مساحة الارض الشاسعة المترامية الأطراف في الجهات الأربع، ولأصبحت مسألة تحديد وجهة المصلي إليها ليست بالدقة التي عليها بشكلها الحالي، أضف إلى ذلك أن الشكل الدائري يتطلب تقوساً وانحناءة في صفوف المصلين على بعد منها لاستقبالها وجهاً لصدر.

قلت: إن للمكان قدسيته للسبب الذي ذكرت من ناحية ولارتباطه بوقائع وأحداث ومواقف إيمانية جرت على هذه الساحة المباركة تأصيلاً وخدمةً لعقيدة التوحيد، ورسالة دعوية للناس كافة من ناحية أخرى، ففي هذا المكان كان أول بيت وضع للناس للعبادة هو الحدث الأول على وجه الارض، وآدم عليه السلام هو أول موحد بشري تواجد في هذا المكان، وأول العابدين من الناس لله في البيت الذي أراد، وعلى عرفة أخذ الله من ظهر آدم ذريته ونثرهم بيده (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) وعلى عرفة قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)، وفي هذا المكان كانت أول تضحية غير عادية في تاريخ البشرية حين عزم إبراهيم ذبح ابنه الوحيد إسماعيل تقرباً لله وطاعةً له وامتثالاً لأمره، وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أول من عملا على تجديد بناء الكعبة بأمر من الله كما ورد ذكرهما في الآية (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وإبراهيم هو أبو الانبياء وأول من أقام بهذا المكان، وإسماعيل أول من استوطنه مع أمه هاجر ومن ذرية إسماعيل جاء محمد صلى الله عليه وسلم، كل ما ذكر ومالم يذكر من وقائع وأحداث وآيات بينات كان له ارتباطه الوثيق والعميق برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة/146].

وأما لماذا جعل المسجد الحرام قبلتنا نتوجه إليه بصلواتنا فذلك اختيار الله لرسوله والذين آمنوا معه من عباده المخلصين (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة/143] (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ  تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {147} وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  {148} وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {149} وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ  وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ  تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة 147-150]

على ضوء كل ما تقدم من دلائل بآيات بينات يتضح لنا بجلاء أن للرسالة المحمدية امتدادها وعمقها وارتباطها الوثيق بكل الرسالات السماوية بخيوطها المتشابكة والمتقاطعة في هذا النسيج الإيماني الذي يبلغ من القوة بحيث لا يمكن لأحد نقضه أو تحريفه مهما بلغ من الذكاء والدهاء، فالذين يقولون بأن الحج دعوة عامة يتساوى فيها الناس جميعاً يهوداً ونصارى ومسلمين وغيرهم من الديانات الوضعية الأخرى ما هو إلا ادعاء باطل، وما ورد بسورة الحج فيه الرد الصريح على مثل هذه الافتراءات ودحضا لهذه الاكاذيب، فأول السورة دعوة للتعريف بالله، ومن ثم الدعوة للتوحيد (وأذن في الناس)، ثم الدعوة للإسلام بقوله تعالى: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ {34} الَّذِينَ إِذَا  ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)  [الحج34-35] ليأتي بعد ذلك وعد الله بالدفاع عمن آمن به وصدق برسالة نبيه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج/38]، واختتم الله السورة بخطابه لخاصته من الناس وهم الذين آمنوا فكرمهم بأن جعلهم شهداء على الناس وجعل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم شاهدا عليهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ  تُفْلِحُونَ {77} {س} وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا  عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج77-78].

وأما ما يتردد صداه بين الفينة والأخرى بين أوساط المجتمع المسلم من دعاوى واجتهادات ممجوجة أقول جازماً أنها معدة بخبث ودهاء، ومخطط لها من قبل أعداء الإسلام، وما المراد بها بتقديري إلا تضليل المسلم وتشكيكه بأمور دينه وإبعاده عن كتاب الله وسنة نبيه ليظل المسلمون في شتى أصقاع الارض وعلى الدوام في حالة من الضعف والتخلف والتشرذم، ليسهل عليهم بالتالي قيادتهم والاستئثار بمقدراتهم والهيمنة عليهم بما يتواءم ومصالحهم الاستراتيجية.. يريدون كل ذلك لقناعاتهم الدينية منها والتاريخية بأن مكمن العزة والقوة عند هذه الأمة هو الإسلام، ولهذا تجدهم يصدون عن سبيل الله (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ)   [الاعراف/45] فضلاً عن حسدهم لقوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة/109].

وفي الختام أقول: أنه مهما يكن من استهداف لهذا الدين بهدف النيل منه وتشويه معالمه من أصحاب الأقلام المأجورة، فإنهم لن يفلحوا أبداً، لأن الله بالغ أمره بالنصر الذي وعد عباده المؤمنين بقوله: (فَانتَقَمْنَا  مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم/47]

وكل ما أرجوه باجتهادي المتواضع هذا والذي لم ابتغ فيه غير وجه الله أن أكون قد أصبت في تقويم الفهم لهذه المسألة، وبيان القصد فنفعت به وانتفعت، فإن وفقت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ياأرحم الراحمين.

النتائج :

توصل الباحث فيما تقدم إلى الاستنتاجات التالية :-

1-  أن الزمن في حياتنا الدنيا يأخذنا في طريق بخط مستقيم، فنقول اليوم السبت وغداً الإثنين وبعد غد الثلاثاء، والشهر كانون أول يليه كانون ثاني ثم شباط والسنة 2018 يليها 2019 ومن ثم 2020 .. وهكذا دواليك بينما في حقيقة الأمر أننا بطريق العودة (الرجعة) إلى الله مرغمين، وما الطواف حول الكعبة بلباس الإحرام بهذه الكيفية إلا رمز لرحلة العودة، وإن كل شىء في هذا الوجود ملك لله وحده لا شريك له (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس/83].

2-  الكعبة المشرفة بأوجهها الأربع تشير إلى الجهات الأربع للأرض ولو كانت دائرية مثلاً فلا يصدق عليها هذا التوصيف لتعذر تحديد الوجهة على الشكل المنحني كما لو كان مسطحاً قائماً أمام مستقبلها، ولأن الشكل الدائري لا وجه له ولا صدر نظراً لانحنائه وتقوسه (فَوَلِّ  وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ  تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة/150]

3-  اللباس الأبيض للإحرام يرمز إلى أن الناس أمام الله سواء، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لحسيب على وضيع، ولا لعظيم على حقير، ولا لغني على فقير، فلا أنساب ولا أوصاف ولا ألقاب تغني عنك من الله شيئاً، وكل هذه التصنيفات والمراتب تزول وتتساقط كما هي أوراق الخريف، لأن المعيار المعتمد في عدل الله هو التقوى (لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات/13]. ثم إن الله يريدك يا ابن آدم أن ترجع إليه وأنت نقي خالٍ من الذنوب والخطايا كما هو لون هذا الرداء الذي تلف به جسدك خصوصاً وأنك على يقين بأن رحلة العودة هذه لا مناص عنها ولا مفر (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء/35].

4-  السعي بين الصفا والمروة بهذه الحركة البندولية سبعة أشواط إشارة إلى أن عليك أيها المؤمن أن تستثمر حياتك وأنت تراوح بين أمرين – طلب الطاعة لله أولاً وثانياً طلب الرحمة.

5-  وقوف الحجيج على صعيد عرفة يمجدون الله ويعظمونه ويسبحونه ويكبرونه ويحمدونه ويشكرونه هي عودة للموطن الأصل يوم أن كنا ذرارياً في صلب آدم وتأكيداً منا للعهد الذي قطعناه على أنفسنا حين أشهدنا الله وشهدنا على أنفسنا بالوحدانية والألوهية والعبودية له وحده لا شريك له، ومن ثم الشكر لله على أن جعلنا مسلمين.

6-  أن حقيقة الخطاب الإلهي المتعلق بركن الحج ما هو إلا ليوقظ في الناس فطرتهم التي فطر الناس عليها وهو خطاب ودعوة للتوحيد (لا اله إلا الله)، ومن ثم الدعوة للتعريف بما يترتب على هذا القول أو هذه الشهادة (لا اله إلا الله) من قول أو عمل، ليصل بالتالي إلى فقه المقصود من هذه الدعوة والمتمثلة برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة ألا وهي رسالة الإسلام (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ  فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر/22] ليدخل بذلك دائرة الإيمان وعندها يكون من المكلفين بفريضة الحج إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

7- أن الحج ليس بدعوة عامة يتساوى فيها الناس جميعاً يهوداً ونصارى ومسلمين وغيرهم من أهل الديانات الأخرى، ومن قال بعكس ذلك فهو ادعاء باطل، لأن أداء فريضة الحج تتطلب صحة العقيدة كشرط أساسي لدخول الزائر في دائرة الايمان ليرفع عنه الحظر ويؤذن له من الله تعالى أداء هذه الفريضة على الوجه الذي أراد، لأن في سلامة العقيدة سلامة للدين كله وحفظاً لصورته البديعة رغم أنف الحاقدين.             

التوصيات :

1.    انطلاقاً من قول الله تبارك وتعالى: (وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر]، أرى وأجد لزاماً علي تذكير إخواني في العقيدة مجتهدين ومثقفين ومتخصصين في علوم الشريعة وطلاب علم وبالذات في كليات الشريعة أن يتعاهدوا كتاب الله بحفظه في صدورهم، وتدبر آياته كما ينبغي فقراءة آية مع فقه مقصودها أفضل عند الله من قراءة كامل القرآن دون فهم واستيعاب لما يقرأ.

2.     الأخذ بالسنة كما أمر الله لهي ضرورة لابد منها، ففيها النور والهداية لكل ما يشغل قلب الإنسان وعقله بكل ما يتعلق بأمور دينه ودنياه.

3.     كما وأود التذكير والتأكيد بعدم أخذ المعلومة واعتمادها قبل السؤال والبحث، والتحري لمعرفة المصدر، ومن ثم العودة لمراجع موثوقة والاستعانة بأهل العلم (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) خصوصاً هذه الأيام وقد بدأت الفتنة تطل برأسها على أيدي أشخاص من أبناء جلدتنا وينطقون بألسنتنا، يتسترون بعباءة الدين ابتغاء الفساد وإفساد المجتمع المسلم، وفي أولوياتهم شريحة الشباب للسيطرة على عقولهم، وبالتالي سوقهم قطعاناً كالخراف إلى مستنقع الكفر والإلحاد (وَمِنَ النَّاسِ  مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ  وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة 204/205]. فالحذر الحذر من هؤلاء المنافقين، وألا تأخذكم في نصرة الحق لومة لائم واستعينوا بالله، فإنه نعم المولى ونعم النصير..  

قائمة المصادر والمراجع

القرآن الكريم

§         الأصبحي، مالك بن أنس، الموطأ، دار الحديث، القاهرة، 14025هـ- 2004م.

§         البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع المسند الصحيح المختصر، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.

§         الترمذي، محمد بن عيسى (ت: 279هـ)، سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، وآخرون، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1395هـ -1975.

§         عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر، مقاصد الحج، سلسلة رسائل الفضيلة (18)، دار الفضيلة، د.ط، د.ت.

§         القرطبي، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي (ت:671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384هـ- 1964م.

§         لجنة من العلماء، فقه الحج والعمرة، من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، ط8، 1427هـ- 2006م.

§         مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، المكتبة الاسلامية، تركيا- استانبول، د.ط.

§         المروزي، أبو عبدالله محمد بن مضر بن الحجاج، السنة، تحقيق: سالم احمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1408هـ.

§         مصطفى محمود، حوار مع صديقي الملحد، دار العودة، د.ط، 1406هـ- 1986م.

§         النيسابوري، أبو الحسن مسلم بن الحجاج (ت: 261هـ)، المسند الصحيح المختصر، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار احياء التراث العربي، بيروت، د. ط، د.ت.

§         يوسف الحاج أحمد، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، مكتبة ابن حجر، دمشق، ط2، 1424هـ- 2003م.

[1])) النيسابوري، أبو الحسن مسلم بن الحجاج (ت: 261هـ)، المسند الصحيح المختصر، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار احياء التراث العربي ،بيروت، د. ط، د.ت، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، ج4، ص1984، ح(2577).

[2])) المروزي، أبو عبدالله محمد بن مضر بن الحجاج، السنة، تحقيق: سالم احمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1408هـ، ص13، ح(28)

[3])) انظر: مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، المكتبة الاسلامية، تركيا- استانبول، د.ط، ج1، ص156.

[4])) لجنة من العلماء، فقه الحج والعمرة، من منشورات وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، ط8، 1427هـ- 2006م، ص9.

[5])) للاطلاع والاستزادة انظر: عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر، مقاصد الحج، سلسلة رسائل الفضيلة (18)، دار الفضيلة، د.ط، د.ت، ص5-75.

[6])) انظر صحيفة البيان www.albayan.ae تاريخ 18/11/2018.

[7])) انظر الدكتور مصطفى محمود، حوار مع صديقي الملحد، دار العودة، د.ط، 1406هـ- 1986م، ص47.

[8])) النيسابوري، مسلم بن الحجاج، مرجع سابق، كتاب الجنائز، باب: الدعاء للميت في الصلاة، ج2، ص662، ح(963).

[9])) الترمذي، محمد بن عيسى (ت: 279ه)، سنن الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، وآخرون، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1395هـ -1975 ،كتاب العلم، باب: في الانتهاء وعما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ج5 ،ص47، ح(2679).

[10])) للاطلاع والاستزادة أنظر: يوسف الحاج أحمد، موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، مكتبة ابن حجر، دمشق، ط2، 1424هـ- 2003م، ص350-351.

[11])) النيسابوري، مسلم بن الحجاج، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، ج4، ص2169، ح(2816).

[12])) انظر: القرطبي، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري الخزرجي (ت:671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384هـ- 1964م، ج2، ص 415.

[13])) النيسابوري، مسلم بن الحجاج، المسند الصحيح المختصر، كتاب الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا..، ج2،ص943، ح(1297).

[14])) البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع المسند الصحيح المختصر، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ، كتاب الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين،ج2، ص100، ح(1385).

[15])) النيسابوري، مسلم بن الحجاج، المسند الصحيح المختصر، كتاب الايمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار، ج1، ص61 ح(32).

[16])) الأصبحي، مالك بن أنس، الموطأ، دار الحديث، القاهرة، 14025هـ- 2004م، كتاب القدر، باب: النهي عن القول بالقدر، ج2، ص476، ح(3).

وسوم: العدد 834