المحروم أسير التفكير الدائم فيما حرم منه والتعبيرعنه تصريحا أو تلميحا

الحرمان في هذه الحياة قدر الإنسان الذي لا مفر له  منه . ويختلف الحرمان من شخص إلى آخر ، كما أنه يتراوح بين حرمان من أمور تبلغ أعلى درجات الأهمية وبين أخرى تنحدر إلى أدنى درجة الانحطاط .

والإنسان طيلة حياته لا ينقطع عن التفكير فيما يحرم منه ، ولا ينقطع عن التعبير عنه إما تصريحا أو تلميحا . ويختلف الناس في الحكم على المحروم منه ، ذلك أن ما يعد حرمانا عند البعض لا يكون كذلك عند البعض الآخر ، وقد يسخر البعض من حرمان غيرهم ، ويقللون من شأنه لأنهم لا يعتبرونه ذا أهمية أو خطورة .

ومعلوم أن الحرمان  هو عبارة عن افتقار إلى المحروم منه، وهذا الأخيريكون  إما ماديا محضا ، وإما لا ماديا أو خليطا منهما . والغالب على الناس أنهم يشكون من الحرمان المادي من مأكل ومشرب وملبس ومسكن...، ومن كل لذة حسية، وهم يلتقون في ذلك مع باقي المخلوقات التي تشاركهم الحياة فوق سطح هذا الكوكب . ونظرا لكون الإنسان لا حدود لما يشتهيه من لذات حسية ، فإنه يعتبر ما لا يصيبه منها حرمانا ، وبهذا يصير الحرمان عنده لا حدود له تماما كما أنه لا حدود لما يشتهيه . وقد تخف أحيانا حدة التفكير في الحرمان والتعبير عنه عندما يصيب الإنسان القليل أو الأقل مما يشتهيه ، وهو ما عبر عنه الشاعر بالقول :

فالإنسان يشكو الحرمان بسبب رغبته الجامحة في نيل أكبر قدر ممكن اللذة الحسية ، ولكنه حين يرد إلى القليل منها ،يخف إحساسه بالحرمان، وهو ما يسمى القناعة ، وهي نوع من كبح جماح النفس ، كما أنه شعور مؤقت بالتخلص من ضغط الحرمان الملح الذي يعاود  حدته بعد حين من جديد .

ومن الحرمان المادي أو الحسي  على سبيل المثال الجوع ، وهو إحساس بالرغبة في دفع ألم الجوع ، وهو حرمان طبيعي لدى الناس جميعا وإن اختلفوا في التفكير فيه والتعبير عنه ، ذلك أن من الناس من يجعلون التفكير في إشباع بطونهم همهم الوحيد ، وهؤلاء لا يختلفون عن باقي المخلوقات التي حرمت العقل ، وانصرفت كليا إلى البحث عن  هذا النوع من الإشباع . ومن الناس من تخف حدة شعوره بالتفكير في طرد الحرمان من الطعام والتعبير عن ذلك ، وتكفيه اللقمة واللقمتان للتخلص منه . وما أظن أن الله عز وجل تعبّد المسلمين بالصوم إلا لتدريبهم على التخلص من الشعور بالحرمان المادي أو الحسي . ونفس الشيء يقال عما نهى الله عنه من أنواع الإشباع غير المشروع ،علما بأنه أكثر ضغطا على الإنسان من  النوع المشروع .

وأما الحرمان من اللامادي، فيكاد ينعدم عند الذين يأسرهم الحرمان مما هو مادي ، وهو ما يجعله في خانة واحدة مع باقي المخلوقات التي لا وجود للامادي في حياتها .  وقد يفوق  الشعور بالحرمان المتعلق باللامادي والتفكير فيه والتعبير عنه لدى البعض شعورغيرهم بالحرمان مما هو مادي والتفكير فيه والتعبير عنه .  وقد يتحمل البعض الحرمان مما هو مادي، ولكنهم لا يطيقون الحرمان مما هو لامادي ،وهذا حال طلاّب المعالي من رتب ،ودرجات علمية،  وشواهد، وألقاب ومجد وسمعة  وسؤدد ...وما إلى ذلك مما تتعشقه بعض النفوس، وتعاني من الحرمان ما لم تصب ما تريد منه .

ويتدرج الإنسان في سلم الشعور بالحرمان حسب مراحل عمره ، فهو في صباه يشعر بنوع من الحرمان يعبر في الغالب عن براءته ،ثم ينتقل شعوره بالحرمان في شبابه إلى نوع آخر لا يعبر عن براءة كما كان الحال في مرحلة الطفولة أو الصبا ، ثم ينتقل شعوره بالحرمان في كهولته وشيخوخته إلى نوع ثالث  منه غالبا ما يكون مصحوبا بمرارة وندم وشكوى، وهو ما يعبر عنه لفظة " ليت" كما هو الشأن عند الشاعر أبي العتاهية معبرا عن حرمان ما فاته في مرحلة الشباب:

والشعور بالحرمان في مرحلة المشيب ،هو أقسى أنواع الشعور به عند الإنسان ،لأن هذا الأخير ما دامت في عمره فسحة يعلق الآمال العريضة على هزم الشعور بالحرمان ، لكنه إذا شاب وهرم تضاءلت فرض آماله، واشتدت وطأة الحرمان لديه ، وكثر تفكيره فيه ، وكثر تعبيره عنه تصريحا وتلميحا . ويزداد القلق من الشعور بالحرمان كلما امتد العمر بالإنسان ، وهو امتداد تضيع خلاله الفرص التي لا عوض لها من بعد .

ويمكن بكل سهولة ويسر أن نصل إلى المحروم منه لدى كل شخص حسب تعبيره الذي يكشف عن تفكيره  فيه ، ومن ثم يعرف نوع حرمانه ، ونوع المحروم منه أيضا ، وهو ما يحاول  أطباء علم النفس  وخبراؤه الكشف عنه حين يصير الشعور بالحرمان مزمنا عند من يعالجونهم ، ويوشك أن يوقعهم فيما لا تحمد عقباه ، وأقبحه التفكير في وضع حد للحياة للتخلص من عذاب ذلك الحرمان.

وغالبا ما يرتاح الإنسان الواقع تحت ضغط الحرمان مهما كان نوعه إلى جليس أو جلساء يقتسمون معه شعوره بالحرمان ،وتفكيره فيه ، وتعبيره عنه ، وفي المقابل ينفر النفور الشديد مما لا يشاطره ذلك  .وقد يقبل المحروم على نوع من القراءات أو المشاهدات أو المسموعات أو المصورات  التي يجد فيها عزاء يخفف من شعوره بالحرمان. ولنضرب لذلك بعض الأمثلة على سبيل التمثيل لا الحصر ، ففي مرحلة الشباب عند الذكور والإناث على حد سواء تشتد حدة الشعور بحرمان كل جنس من الآخر ، وهو حرمان يجمع بين ما هو حسي غريزي وما هو نفسي عاطفي ، وهو أشد أنواع الحرمان على الإنسان في مرحلة الشباب  حيث نجد هذه الفئة العمرية ينحصر تفكيرها في هذا الحرمان الملح  بقوة ، ولا تفوتها  فرصة دون التعبير عنه تصريحا أو تلميحا حسب الظروف ، وهي ترتاح إلى سماع  الأحاديث ،وقراءة  الكتب والمقالات والقصص والروايات والأشعار، ومشاهدة الأفلام العاطفية ، واقتناء الصور والمجسمات المعبرة عن ذلك ، وقد تجد العزاء في عبارات وابتسامات ونظرات ورسائل خطية أو رقمية ... يتبادلها بعضهم مع بعض ، وهي ترمز  كلها إلى التعبير تصريحا أو تلميحا عن الشعور بالحرمان الأعظم بالنسبة إليها .

ويشتد الشعور بالحرمان لدى فئة الشابات كلما تقدمت بهن السن ، بينما لا يبلغ نفس الشدة عند الشباب  لوجود فسحة أمل لديهم حسب طبيعة البيئة والثقافة التي يعيشون فيها ،علما بأن حدة الشعور عند هؤلاء أيضا قد تصل أقصى حد لها عندما يتجاوزون فترة الشباب بأشواط معتبرة .

وتسعد الشابات  اللواتي يعانين من الحرمان من دخول الأقفاص الذهبية ويشقين في نفس الوقت عندما يعشن لحظة تخلص بعض الصديقات أو القريبات من هذا النوع من الحرمان ، ويظهر ذلك جليا في مناسبات الزفاف حيث تبدو العازبات اللواتي يتربصن حلول موعد تحقيق أكبر حلم في الحياة عن سعادتهن المشوبة بنوع من الغيرة المبطنة بالحسد حين تزف القريبات والصديقات إلى أقفاصهن الذهبية ، وقد يكون التعبير عن تلك السعادة مجرد تمثيل  مضلل يخفي وراءه مرارة الشعور بالحرمان . وتبدو بعض الشابات أحيانا وكأنهن يستجيدن من يخلصهن من حرمانهن بنظرات وكلمات  ، وتكون طريقة تعبيرهن الرمزية عنه هي المبالغة في الزينة بذريعة ظاهرها حضور الحفلات وباطنها البحث الملح عن الانتصار على أسوأ حرمان على الإطلاق في تلك المرحلة العمرية .

ولكل فئة عمرية نصيبها من الشعور بالحرمان يتجلى من خلال ما تعبر عنه تصريحا أو تلميحا ، ولو بسطنا الحديث عن ذلك لطال بنا الكلام طولا لا يحمد.

وخلاصة القول أن كل إنسان  له حرمانه الخاص به ، وله طريقة التعبير عنه حسب طبيعة المحروم منه ، فإن كان من المباح لم يجد حرجا في التعبير عنه تصريحا ،أما إن كان من المحظور فإنه يضطر إلى التمويه عنه بالتلميح ، وقد يشارك منامه يقظته في التعبير عن المحروم منه ، فيقص  على غيره من الأحلام ما يكشف  ما عنده من مسكوت عنه ، وقد يتخذ من الحديث عن حرمان غيره وسيلة للتعبير عما يعانيه من حرمان . ويظل حاله كذلك إلى أن يرحل من دنياه إلى أخراه ليواجه أكبر حرمان إن خسر أخراه أو يعيش لذة الانتصار عليه إن فاز بها .  

وسوم: العدد 835