في القاع، سنتان في سجن تدمر العسكري، للأستاذ خالد فاضل

لماذا هذا الكتاب المخيف؟

قال بعض الناس: إنه كتاب مخيف رعيب.

ومع ذلك, صدر هذا الكتاب حتى يعلم الناس كل الناس، يساريهم ويمينيهم، عربيّهم وأعجميهم، أبيضهم وأسودهم.. المتعاملون مع أسد ونظامه، والساخطون على أسد وسياسته الطائفية.. حتى يعلم كل هؤلاء، أي نظام ملعون هذا النظام الأسدي الذي رمانا به الصهاينة وأعداء هذه الأمة، ليعزلوا الشعب السوري وجيشه الأبي عن معركة تحرير فلسطين الأسيرة، وليخضدوا شوكة هذا الشعب وهذا الجيش، فهما كانا مصدر قلق وتوجس من قبل دهاقنة بني صهيون، ولم يستطع الاستعمار وظلمه وسياساته المتفاوتة في الشدة، أن يفعلوا شيئاً تجاه هذا الشعب، ولا تجاه الجيش السوري المنبثق من هذا الشعب..

وحتى يعلم سائر العرب والمسلمين ما يلاقي أبناؤهم العرب المسلمون السوريون من ألوان القهر والاضطهاد حتى الموت في سجون ابن الأفاعي حافظ أسد... فلعل اطلاعهم هذا يحفزهم على الثورة بهذا النظام، أو لعله يحفز هممهم لمساعدة الشعب السوري الذي طالما قدّم لهم المساعدات في أيام المحن التي مروا بها، لعلهم يقدّمون شيئاً ذا بال لهذا الشعب المنكوب بأسد ونظامه الطائفي الأجير، يخفف عنه بعض بلواه، ويعينه على التخلص من ظالمه الجزار حافظ أسد.. ولعله يثير نخوة الرجال فينهضوا لتخليص هؤلاء المعتقلين الأسرى من براثن هذا العقور الذي أطلقوا عليه اسم: حافظ أسد..

كما أن إخواننا المعتقلين في سجن تدمر، كان يوصي بعضهم بعضاً بأن ينقل المحكومون بالبراءة ما يجري لهم في سجن تدمر، في حال الإفراج عنهم، ومن يتمكن من تسريب بعض المعلومات عن الجرائم التي ترتكب بحقهم في سجن تدمر، فليفعل، وقد أذن االله بالإفراج عن الأستاذ صاحب هذه الذكريات، وهو لا يزال يذكر وصية إخوانه المعتقلين له، بأن يعمل على فضح هذه المخازي والجرائم، في سائر الأماكن التي يمكنه الوصول إليها، وبشتى الطرائق والأساليب، حتى غدت تلك الوصية هماً يومياً طالما عانى منه الأخ صاحب هذه الذكريات، إلى أن أذن الله بنشرها وإخراجها إلى الناس، بعد أن شرح صدورنا لنشرها.

نحن كنا نعلم مدى الحزن الذي سيخلفه هذا الكتاب الرعيب في نفوس قرّائه، ولكننا كنا نعلم أيضاً التأثير الإيجابي الذي سيكون له على الساحة السورية خاصة، وعلى الساحة العربية والإسلامية والإنسانية عامة.. فقد قامت كوكبة كريمة من سيدات حمص -على أثر سماعهن لبعض هذه الحلقات- بالتظاهر أمام مبنى المحافظة، وطفن في شوارع حمص، ووقفن طويلاً أمام مباني المخابرات العسكرية، والعامة والشعبة السياسية، وطالبن بأزواجهن وأبنائهن وأخواتهن وآبائهن وإخوانهن المعتقلين والمعتقلات منذ بضع سنين.. ثم تلتها مظاهرة نسائية أخرى في دمشق.

ثم ذهبت كوكبة من نسوة حمص الحرائر إلى دمشق، لمقابلة الشيطان الأكبر حافظ أسد الذي رفض استقبالهن، وأرسل أزلامه مهددين متوعدين، وقد تمكنوا من (الانتصار) الساحق على هؤلاء الحرائر، فشتتوا شملهن، وأعادوهن حزينات مهزومات إلى حمص..

فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهنه..

إن هذه الذكريات عن سجن الموت في تدمر، ونقل معاناة أولئك الأحرار الأسرى، تشهد العالم أجمع، وتشهد الدنيا بأسرها، على جرائم هذا الملعون ابن الأفاعي، لعل الحسّ الإنساني يتحرك فيهم، فيبادروا إلى فعل حاسم يجتث هذا السرطان من جسم أمة العرب، لينقذوا العرب والمسلمين من خبائثه وجرائمه..

وقد توخينا تقديم هذه الذكريات بهذا الأسلوب العفوي البعيد عن التزويق والتشذيب، لأننا رأيناه ينبثق من أعماق القلب، ليقع في قلب من يصل إليه، وإن كان ما يحزننا أننا حذفنا بعض مناجياته على الرغم من عفويتها ورقتها ونعومتها وتأثيرها لاعتبارات إ نسانية لا مجال لذكرها الآن.

ولعل قارئ هذه الذكريات المحزنة المؤلمة، الذكريات التي تجعل نفس قارئها تطفح بالرعب.. لعله يلاحظ معنا عدداً كبيراً من المعاني الإسلامية والإنسانية نذكر منها:

1- أن الأمل لم يفارق هؤلاء الأحبة حتى وهم يعانون أقسى أنواع التعذيب، ويعيشون أحلك اللحظات، فقد كان الأمل لديهم ينبثق من بين أسداف الظلم والظلام، وإذا هم شاكرون حامدون، وصابرون محتسبون، يملأ الإيمان قلوبهم، وينير أبصارهم وبصائرهم، وصدق رسول االله صلى االله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير.. إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له..

كان لجوؤهم إلى الله المُلجىء المنجي، هو الذي يجعلهم في هذا الصفاء العجيب.. يسحقون وتسحق معهم أجسامهم وإنسانيتهم، وهم في حالة عروج روحاني عجيب، تصحب حالة السحق والطحن.

2- وقد نتج عن ذلك ثبات الفتية الشباب كثبات قاسيون، ورجولة بزت رجولة الفحول، إلى جانب التقوى الحقيقية والإيثار الذي علّم الكبار.. إنهم فتية آمنوا بربهم، وارتضوا أن يكونوا جيلاً استشهادياً فريداً.. وأنا أذكر الفتية الأشبال، لأن الشيوخ لا تستغرب منهم هذه المواقف التي تمليها عليهم تجاربهم الطويلة وثقافتهم الشرعية، وعبادتهم الخالصة لوجه االله على مدى السنين.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لنبين الفوارق الكبيرة بين هؤلاء الفتية المؤمنين، وبين أترابهم وزملائهم، أولئك الذين ما يزالون تائهين في دروب المراهقة، يلاحقون الفتيات ويمضون أعمارهم، في الخزعبلات والترهات.

كنا ذات يوم في السجن المركزي الكبير في حلب... كان في مهجعنا رقم (1) حوالي خمسين أخاً معتقلاً، وكان من بينهم فتى مهذب.. وكلهم كل الفتيان كانوا مهذبين، ذلك الفتى: فهد تاج الدين من حلب.. شاب في عمر الورود، لم يتجاوز ربيعه السادس عشر، تقي نقي ذكي، لمحني أقف على (البلاط) أرض المهجع، أكلم أحد السجانين، وإذا هو (فهد) يسرع بجلب بطانيته ليمدها تحت قدمي كيلا أتأثر بالبرد في الدقائق التي أحدث فيها ذلك السجان..

أعجب السجان أيما إعجاب بفعل الفتى فهد تاج الدين وقال: اطمئن يا أستاذ، المستقبل لكم، وسوف تحكمون العالم، ما دام عندكم أمثال هؤلاء الشباب..

وكانت هذه الحادثة أحد الأسباب في هداية ذلك السجان...

وأذكر أن الشهيد وليد حماد - رحمه االله تعالى- دخل السجن وهو بريء لا علاقة له بالجماعة.. اعتقل لقرابته من الأخ الحبيب المجاهد الشهيد النقيب إبراهيم اليوسف - تغمده االله، وسائر إخواننا الشهداء بفيض رحمته ورضوانه -.. وقد ثبت لدى المحققين والجلادين هذا عن وليد.

وكان يوم حاول أحد السجانين الاعتداء على أحد الإخوة المعتقلين في السجن المركزي بحلب، فضج الإخوان، وكانت أيامنا أيام عز، وقد كان إخواننا المجاهدون يُصْلون أسداً وأزلامه نيراناً حامية.

فما كان من عناصر المخابرات إلا أن يشتطوا على إخواننا، فتصدى لهم البطل الشهيد وليد حمّاد، فأخرجوه من المهجع ليعذبوه، فهاجمهم وليد -وكان قويّ البنية، مفتول العضلات- وتمكن من صرع ثمانية سجانين.. واستنفرت أجهزة المخابرات، وهاجمت السجن عدة سيارات محملة بالعناصر، واستاقوا الأخ البطل وليداً إلى فرع المخابرات العسكرية بحلب..

وفي فرع المخابرات العسكرية هذا قال له رئيسها آنذاك، العقيد عدنان رام حمداني: يا وليد.. ألم تقل لنا: أنك لا علاقة لك بالإخوان؟

فأجابه وليد بحزم: صحيح قلت لكم هذا، ولكني أدعوك إلى الذهاب إلى السجن، والعيش مع الإخوان مدة أسبوع فقط، وسوف ترى نفسك أنك صرت (خلق) أي صرت إنساناً مسلماً مهذباً لا كما أنت الآن.

وابتلعها العقيد وخرس، ثم أعاده إلى السجن المركزي وقد حقق انتصاراً على السجانين، وانتصاراً على رئيس المخابرات العسكرية بحلب، وانتصاراً على نفسه وانتصاراً لإخوانه على الظالمين، إذ حفظ لهم هيبتهم وكرامتهم..

وكان من نتيجة ذلك، أن أخلوا سبيل وليد وأفرجوا عنه، قبل أن يتأثر بشباب الإخوان وبفكرهم... ولكنه خيّب ظنهم، فقد خرج من السجن إلى العمل المسلح، ولقد شاهدته بعد خروجه وخروجي من السجن، وإذا هو شاب مُرْهق، وقد خفّ وزنه وشحب لونه، وعندما سألته أمام الأخ النقيب عن سبب هذا الضعف وهذا الشحوب أجابني النقيب: انظر إلى كفيه.. إنه يقاتل في الليل، ويبني القواعد في النهار.. ثم ما لبث أن استشهد في القاعدة التي داهمتها عشرات العناصر الأسدية فقتل منها وليد مقتلة عظيمة..

مما يلفت نظر القارئ, هذا الجيل الاستشهادي الفريد من أشبال الإخوان المسلمين، فقد طلّقوا دنياهم طلاقاً بائناً، وأقبلوا على آخرتهم مخلصين منيبين، فكانوا نماذج حيّة للشبان الناشئين في طاعة االله المقبلين على جنته، ليكونوا من الذين يظلهم عرش الرحمن بظله يوم لا ظل إلا ظلّه.

3- ولعل ظاهرة الإيثار التي تميز بها الشباب، من أقوى الإيجابيات في حياة هؤلاء الأحبة الأسرى.. فأي إيثار أعظم من هذا الإيثار؟.. أن يتقدم الفتية الشباب ليكونوا في الصفوف الأولى التي تتلقى أعنف الضربات، وأقسى ألوان التعذيب على أيدي جلاوزة أسد، بينما يبعدون المرضى والعاجزين والكهول والشيوخ إلى الصفوف الخلفية، كيلا تنالهم الصدمة الأولى من التعذيب الوحشي..

يا حسرة عليكم أيها الشباب.. فما أمسّ حاجة الدعوة إليكم وإلى أمثالكم في هذه الأيام العصيبة..

ترى.. أي عقوبة تلكم التي ستترل بهؤلاء الجلادين الذين فعلوا الأفاعيل بأولئك الأحبة؟..

اللهم إني لا أكاد أتصور عقوبة تشفي منهم الغليل..

اللهم مكنّا من هؤلاء الوحوش الأنذال، لنثأر منهم لدينك ولجندك ولنشفي بثأرنا صدور قوم مؤمنين...

يا شباب.. هؤلاء هم إخوانكم الذين سبقوكم إلى الجنة.. هؤلاء هم.. محمود ورامز وهمام وعبد االله وعصام ووائل وفهد.. ادرسوا حياتهم جيداً، ثم اتخذوهم قدوة لكم، وسيروا على نهجهم، لتفوزوا في الدنيا والآخرة.. ودعوا السفلة ودعاة الفتنة والمزايدين في إسفاف.. دعوا رافعي الرايات البيض والمنبطحين والمستسلمين والمستفيدين من هذه الثورة، المثرين على حسابها كما أثرى عملاء أسد... دعوا هؤلاء فهؤلاء ليسوا منكم ولستم منهم... إنهم عمل غير صالح... هؤلاء ليسوا قدوتكم، ولا يستأهلون أن تنظروا إليهم إلا نظرات الإشفاق الحزين، ولا تشغلوا أنفسكم بهم.. لأنهم تافهون.. تافهون.. تافهون..

يا هووووو..

ترى أي ثأر سيكون الثأر لأولئك الأطهار...؟

والموت والعار للجبناء والمستسلمين..

ولنربّ أولادنا وحفدتنا على البطولة..

فليس للعقرب حافظ أسد غير لغة المجاهدين الأبطال..

وليس لنا من مادة نتعامل بها مع تلك الوحوش المسعورة إلا لغة النار..

فانتظروا أيها الجلادون مصيركم المحتوم..

فإننا منتظرون.. 

***

هيه صواعق السماء..

هيه براكين الأرض..

تفجري حمماً، وطهري الأرض من هؤلاء الأوباش..

يا ثارات االله تحفزي..

يا استغاثات الأعراض استوفزي..

يا لوعات المنكوبين في سجون الموت ثوري..

ويا أعداء االله والإنسانية قد جئناكم بأبطال يحبون موتكم..

ويا شعراء العالم اقرؤوا سطوراً من همجية هذه الوحوش في سجن تدمر..

يا فناني العالم اقرؤوا قصة المأساة..

ثم خلّدوا إقدام هؤلاء الشباب..

خلّدوا هؤلاء الشباب الشهداء الأطهار..

واجعل اللهم دماءهم ناراً تلظى، تحرق الظالمين، وتنير الطريق للمجاهدين ولسائر الأحرار الميامين..

اللهم احص أسداً وقبيله وعبيده وأزلامه وأركان نظامه.. اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.. وسلام عليكم إخوة الجهاد في الخالدين.

25/8/1985 م

وسوم: العدد 837