مكان العقل في القرآن الكريم

يعتقد بعض الملاحدة أن القرآن الكريم التفت إلى أهمية القلب واعتبره وعاء التفكير، ولم يلتفت إلى أهمية الدماغ، وهو الذي يفكر بواسطته الإنسان، واكتفى بالحديث عن القلب، وأنه مركز التفكير، وهذا خرافة بزعمهم!

وهذا الاعتقاد باطل من وجوه:

أولاً: يستعمل القرآن الكريم الكلمة الواحدة بمعان عدة، فقد تأتي الكلمة ولها اثنان أو ثلاثة أو عشرة أو أكثر من المعاني المختلفة،  قال ابن الجوزي [نزهة الأعين النواظر، تحقيق الراضي، ص(483-484)]:

"وذكر أهل التفسير أن القلب في القرآن على ثلاثة أوجه:

أحدها: القلب الذي هو محل النفس. ومنه قوله تعالى في الحج: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).

والثاني: الرأي. ومنه قوله تعالى في الحشر: (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) .

والثالث: العقل. ومنه قوله تعالى في ق : (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)".

فليست كلمة قلب في القرآن الكريم حيثما وردت تعني دوماً هذه العضلة التي تضخ الدم.

ثانياً: كما ذكرنا بأن القلب يأتي في القرآن الكريم بمعنى الرأي والعقل، وليس دوماً هذه الجارحة، والرأي والعقل يكونان ويعملان بواسطة الدماغ، والدماغ يشتمل على المخ والمخيخ وجذع الدماغ كما هو معلوم. فالإشارة إلى الرأي والعقل تقتضي ضمناً الإشارة إلى الدماغ، لأنهما أثران من آثار نشاطه. تماماً كما أن الإشارة إلى السقف تتضمن الإشارة إلى البيت، لأن البيت يتضمن السقف والجدران، والإشارة إلى سرعة السيارة تتضمن الإشارة إلى السيارة، لأن السرعة من آثارها، وعليه قوله تعالى: (والعاديات ضبحاً) هي إشارة إلى الخيل لأنها هي التي تعدو، والعدْو من آثارها.

ثالثاً: ومما يؤكد تنويه القرآن بالمخ بشكل صريح وقاطع، وأنه مركز قرارات الإنسان قوله تعالى: (كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) [العلق: 15-16]. والناصية هي مقدمة الرأس، أو الشعر الذي ينبت في مقدمة الرأس، وقد "أثبت العلم الحديث أن الناصية التي تقع في مقدمة الرأس أسفل الجبهة ويقع فيها المخ أي أنها هي المسؤولة عن اتخاذ القرارات، والكذب والخطأ، وبالتالي فإن الناصية هي من تقود الإنسان لأنها هي المسؤولة عن إصدار الأوامر، وهنا يظهر إعجاز القرآن في الكلام عن الناصية ووظيفتها وطبيعة عملها قبل أن يتوصل العلم الحديث إلى هذه الحقيقة" [ماهي الناصية؟ موقع موضوع، على الرابط:

https://bit.ly/2OVuZQr].

رابعاً: وكذلك جاءت إشارة واضحة إلى العقل في قوله تعالى: (لايات لأولي الألباب) : أي أولي العقول، فاللب هو العقل في لغة العرب، وجمعه ألبب وألباب. والعقل معروف لدى كل الأمم أن مستقره في المخ أو الدماغ، ولم يستعمل القرآن كلمة المخ أو الدماغ هنا، فليس كل ذي مخ أو دماغ لبيباً هذا من جهة، وهما كلمتان غير ملائمتان صوتاً وإيقاعاً للتعبير البياني من جهة أخرى، وذلك أن جمع مخ هو: أمخاخ، ومِخاخ، ومِخخة، وجمع دماغ: أَدْمِغة، ودُمُغ، وتصور لو أن القرآن استخدم جمعاً لكلمة مخ، أو دماغ، بدلاً من كلمة ألباب لفقد السياق رونقه، وذهب عن التعبير القرآني جماله.

خامساً: وكل ما في القرآن من عبارات: (يتفكرون)، و(يعقلون)، و(يفقهون)، و(النهى)، ونحو ذلك .. إنما هي إشارة للعقل الذي مستقره في الدماغ، بل إن كلمة قلب لتأتي بهذا المعنى أحياناً، والله أعلم.

سادساً: ولأهمية هذا الجزء من الرأس، قال الله تعالى: (ما من دابة الإ هو آخذ بناصيتها) [هود: 56]، وجاء في الحديث الشريف: (اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك) [جامع الأصول، لابن الأثير، بتحقيق الأرناؤوط،  (4/298)]. والناصية هنا هي مركز القيادة في الإنسان.

سابعاً: وَفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة إلى المخ، فَكان الرسول صلى الله عليه وسلم إِذَا رَكَعَ قَالَ: ((اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي)). رواه مسلم، عن علي [جامع الأصول، لابن الأثير، بتحقيق الأرناؤوط، (4/206-207)].

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم أن ينور الله له أعضاءه كلها: ((ونورًا في لَحمي، ونورًا في دمي، ونوراً في مُخي، [جامع الأصول في أحاديث الرسول، لابن الأثير، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، (4/213-214)].

ثامناً: إن عملية التفكير والسلوك الإنساني يتداخل فيها عمل العقل (الفكر) ومكانه في المخ، مع عمل القلب (العاطفة)، ولذلك لا يمكن فصل عمل العقل عن عمل القلب بشكل كامل، فالإنسان مكون من جسم وعقل وقلب وروح، وقراراته تتحكم فيها هذا الأشياء بشكل متداخل فيما بينها، فليس العقل وحده هو الذي يسيطر على سلوك الفرد وقرارته، وإنما القلب كذلك. وحينما يستخدم القرآن لفظ القلب فإنما يستخدمه بمعانيه المختلفة كما تقدم، ولا يقصد دوماً هذا العضو الذي يضخ الدم بالضرورة.

تاسعاً: ورد عن الإمام أحمد أن العقل محله الدماغ، قال ابن تيمية [مجموع الفتاوى: 9/303-304 طبعة مجمع الملك فهد]: (فَصْلٌ : وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَيْنَ مَسْكَنُ الْعَقْلِ فِيهِ ؟ فَالْعَقْلُ قَائِمٌ بِنَفْسِ الإنْسَانِ الَّتِي تَعْقِلُ وَأَمَّا مِنْ الْبَدَنِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَلْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } وَقِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ : بِمَاذَا نِلْت الْعِلْمَ : قَالَ : " بِلِسَانِ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ " لَكِنَّ لَفْظَ " الْقَلْبِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُضْغَةُ الصَّنَوْبَرِيَّةُ الشَّكْلِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الأَيْسَرِ مِنْ الْبَدَنِ الَّتِي جَوْفُهَا عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ } . وَقَدْ يُرَادُ بِالْقَلْبِ بَاطِنُ الإنْسَانِ مُطْلَقًا فَإِنَّ قَلْبَ الشَّيْءِ بَاطِنُهُ كَقَلْبِ الْحِنْطَةِ وَاللَّوْزَةِ وَالْجَوْزَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَلِيبُ قَلِيبًا لأَنَّهُ أَخْرَجَ قَلْبَهُ وَهُوَ بَاطِنُهُ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقَلْبِ هَذَا فَالْعَقْلُ مُتَعَلِّقٌ بِدِمَاغِهِ أَيْضًا وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ . كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الأَطِبَّاءِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الإمَامِ أَحْمَد وَيَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : إنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ فِي الْقَلْبِ فَإِذَا كَمُلَ انْتَهَى إلَى الدِّمَاغِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ النَّفْسُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا وَهَذَا وَمَا يَتَّصِفُ مِنْ الْعَقْلِ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهَذَا لَكِنَّ مَبْدَأَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّمَاغِ وَمَبْدَأَ الإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ . وَالْعَقْلُ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الِاخْتِيَارِيُّ أَصْلُهُ الإرَادَةُ وَأَصْلُ الإرَادَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْمُرِيدُ لا يَكُونُ مُرِيدًا إلا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُرَادِ فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُتَصَوِّرًا فَيَكُونُ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ الدِّمَاغِ وَآثَارُهُ صَاعِدَةٌ إلَى الدِّمَاغِ فَمِنْهُ الْمُبْتَدَأُ وَإِلَيْهِ الإنْتِهَاءُ وَكِلا الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا مِقْدَارُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الأوْرَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)

فليتق الله من يتقولون على القرآن بغير علم، ويقولون إن القرآن يناقض العلم الحديث، علماً بأنه لا تناقض بين العلم الصحيح والدين الحق، والعلم الحديث لم  يقل كلمته الأخيرة في موضوعات كثيرة، فلا داعي للجرأة على النصوص المقدسة، أو تفسيرها بشكل يصادم المعارف الحديثة.

نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق.

وسوم: العدد 839