رغم أنف أبي ذر

قرأت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه فقال :

(أَتَيْتُ النَّبِيَّ ‏ ‏- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏ ‏وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهُوَ نَائِمٌ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدْ اسْتَيْقَظَ ، فَقَالَ ‏ ‏مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إله إلا الله ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إلا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ ‏أَبِي ذَرٍّ.. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ ‏إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ)

لم يكن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم – على ما فهمت من الحديث الشريف ، وما علق به أبو ذر نفسه حين كرر قول النبي صلى الله عليه وسلم " وإن رغم أنف أبي ذر " – توبيخَ الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، إنما كان هذا التعبير العربي الأصيل توكيداً لأمر أراد النبي الرحيم أن يزرعه في قلوب المسلمين عامة  وعقول بعضهم خاصة ممن يفهمون الأمور بحرفيـّة قاصرة ، ويضّيقون واسعاً ، ويتشددون فيما ينبغي أن يكون يُسراً ، ولم يدروا أن المُنبَتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ، والحبيب المصطفى يقول : " يسّروا ولا تعسّروا وبشروا ولا تـُنَفـّروا " .  وينبغي كذلك أن نعلم أن التقوى أرضى لربنا وأحب إليه ، ومقام المسلم التقيّ أعظم وأقرب إلى المولى جلّ شأنه . وكذلك ينبغي أن نعلم أمرين مهمين ، أما أولهما فالناس ليسوا في تفهّم الأمور سواء ، وهممهم مختلفة ، وتقبّلهم لها درجات متباينة ، وأما ثانيهما فإن الرفق في الدعوة سبيل النجاح ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه " واختيار أوقاتها دليل على فقه الداعية ، فقد كان الداعية الأول صلى الله عليه وسلم يتخوّل أصحابه في الموعظة .

روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان رجلان من بني إسرائيل متواخيين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر مذنب فأبصر المجتهد المذنب على ذنب فقال له: أقصِر فقال له: خلـِّني وربي قال: وكان يعيد ذلك ويقول: خلني وربي، حتى وجده يوما على ذنب فاستعظمه فقال: ويحك أقصر! قال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟! فقال: والله لا يغفر الله لك أو قال لا يدخلك الله الجنة أبدا. فبُعث إليهما ملكٌ فقبض أرواحهما فاجتمعا عند الله – جل وعلا – فقال ربنا للمجتهد: أكنت عالما أم كنت قادرا على ما في يدي، أم تحظر رحمتي على عبدي، اذهب إلى الجنة يريد المذنب، قال للآخر اذهبوا به إلى النار، فوالذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته " رواه ابن حبان في صحيحه . ومعنى أوبقت : أهلكت .

قال صاحبي : إن زوجتي – وهي على ما يظن طيبة الأنفاس ، سليمة القلب ، تحب الخير للناس كما تحبه لنفسها – شديدة على نفسها تأخذها بالعزائم ، وتكلفها أشد السبيلين على عكس ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان من هديه صلى الله عليه وسلم  التيسير دون إثم ، فعن ‏ ‏عائشة ‏ ‏رضي الله عنها ‏ ‏أنها قالت ‏ " ما خـُيـّر رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه"

ولئن كانت تأخذ نفسها بالعزم فتشدد على نفسها إنها تتحمل وتصبر ، أما أن تعنّف الآخرين أو تلوم من لا يسلك طريقتها ، وتتابع تصرفات الآخرين في كل صغيرة وكبيرة فتحطّئ من لا يوافقها فيما تقول أو تفعل فقد سلكت سبيل التنفير ، وضيّقت على من حولها ، فرغبوا عن صحبتها أو التلقي عنها . إنها على ما يبدو سريعة الملاحظة ، سريعة التنبيه ، قوية نبرات الحديث في نصحها ، تكرر النصيحة في المجلس الواحد إن لم تجد استجابة ، فتنقلب النصيحة أوامر،  والتنبيه وعيداً  ، والملاحظة حواراً ونقاشاً . وقد يكون الامر بسيطاً لا يحتاج كل هذه الأمور ، فإذا بالمجلس ينفض ، والزائرين يختصرون زيارتهم ، وأفراد الأسرة يتوزعون إلى غرفهم ، والجو يتكهرب . وتنقلب ليلة الأنس ميدان حرب لا يفوز فيه احد سوى الشيطان الذي كان سبباً في اصفرار الوجوه وانعقاد ما بين العيون ، وتقطيب الجبين ، وارتفاع بعض الأصوات وغمغمة بعضها الآخر ، ويندم السامرون أنْ كرروا هذه اللقاءات والزيارات ، وهم يعلمون أنها ستنتهي هكذا دائماً ، لكنهم يعودون إليها رغبة في صلة الرحم  وأملاً في تغيير الأسلوب – ولن يتغيّر – فمن شبّ على شيء شاب عليه . ومن ظن أنه أذكى من غيره فلن يقبل نصيحته ، ومن اعتقد بصواب ما يقول ويفعل فلن يغيّر مواقفه ، ولن يبدل من عادته .

يقول صاحبي : هذا حالنا – باختصار – منذ خمسة وثلاثين عاماً ، وإني لأخشى أن يحزم الأهل أمرهم ، ويتخذ الأصدقاء والأحباب قرارهم ، فألفي نفسي وحيداً إلا من جليستي أم البنين فقد تزوجوا وبدأو حياتهم الجديدة – سنة الله في عباده - ، أو التلفاز ، فينقطع الجميع عنا ، وأراني بعد هذا أُكثـِرُ من صحبة الحاسوب والكتب ، فساعة أرضى هذه الصحبة وأطلبها ، وساعة أراني مضطراً إليها فليس هناك غيرها ، ولعلك تعلم أن الحديث مع زوجتي - وإن بدأته بالتودد إليها - فإنه عادة ما ينتهي بغير ذلك ،  فهي تفهم على الأغلب ماتريد ، وينتهي الحديث قبل أن ينتهي !!

نظرت إلى صاحبي مبتسماً ابتسامة فهم معناها ، فبادلني بمثلها ، ثم قال : ما عزّاني أحد بمثل ما عزّيتني به .

وسوم: العدد 839