مصابي جليل والعزاء جميل

كثيرا ما أستيقظ وقد طفا على سطح الذاكرة بعض ما أحفظ من المأثور أو من الشعر، محفوظاتي قديمة لعل كل علوم الإنسان لا تعلم حتى اليوم كيف يتم استدعاؤها ، وما هي الآلية التي تدفعها من عمق الوعي إلى أعلاه . وما يطفو على سطح ذاكرتي عند الفجر يغلبني على أمري سائر اليوم ، فأظل أردده بوعي أو بغيره ، حتى أقول ليتني كففت .

استيقظت هذا الصباح وقد طفا على سطح الذاكرة بيت من قصيدة أبي فراس " مصابي جليل والعزاء جميل "ثم أخذت الأبيات تتوالى فقد كانت قصائد أبي فراس من جميل ما حفظت منذ نصف قرن . . وتتلكأ الذاكرة حينا فأحثها حتى إذا أجبلت رجعت إلى الديوان فوجدتها كأنها تحكي عن حالنا نحن السوريين اليوم ، حال كل أسير بل حال كل مهجر وغريب وحال كل من خُدع واستُزل فزل..

وكان أبو فراس الحمداني قد وقع في أسر الروم ، وهو يحارب في جيش ابن عمه سيف الدولة ، وأبطأ سيف الدولة في فدائه في قصة طويلة تستحق الإفراد بالدراسة فنظم من محبسه ما سمي " الروميات " من أروع القصائد الموشاة بالنزعة الإنسانية ، والشكوى من تقلب الزمان بأهله ، مع اعتزاز بالمروءة وكرم النفس..

القصيدة التي قالها فارس حلب في القرن الرابع الهجري كأنها قيلت اليوم . يستطيع كل سوري أن ينشدها ويسقطها على حاله : عظم المصاب ، وتقلب الزمان ، وتغير الأصحاب ، وقلة الوفاء ، ونكران المعروف ، ثم التأسي بأمير المؤمنين علي وأخيه عقيل ، وبالزبير وأخيه ، وأسماء وابنها ويعطف الشاعر على ذكر أمه ومأساتها وبلاءه وما نزل به ثم العودة إلى الأم الصابرة المنتظرة ..

أعلم أن كثيرا من أبناء هذا الجيل لا يهتمون بالشعر ، ولا يطربون له ، ولا يتفاعلون معه ، ولكنني أزعم أن حكاية الوفاء والنكران في هذه القصيدة حكاية لحالة إنسانية عامة مكرورة على مر الزمان ..ما شذ عنها إلا محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، يوم قال للأنصار رضي الله عنهم ، بعد أن لقي قومه ففرحوا به وفرح بهم : بل الدم الدم ..والهدم الهدم . يقصد دمكم دمي . وهدمكم هدمي ..

ويبقى الناس هم الناس . ينظر أحدهم إلى الآخر كأنه البرتقالة فإذا تمكن منه ، تحت أي عنوان ، أثخنه عصرا ثم قالوا : تفل ورموها . والمغرور من غره منهم أحد .

أترككم مع الأبيات .. وأتمنى على كل من رزقه الله صوتا جميلا أن يسمعنا هذه الأبيات آهات وأنات ، لعلها تكون تأساء وتعزية للقلوب المعذبة الكسيرة ...

مُصَابي جَلِيلٌ، وَالعَزَاءُ جَمِيلُ

مُصَـابي جَلِيـلٌ، وَالعَزَاءُ جَمِيلُ

وَظَنّي بِأنّ الله سَــوْفَ يُدِيـلُ

جِرَاحٌ، تحَامَاهـا الأُسَاةُ، مَخوفَةٌ

وسقمانِ : بـادٍ ، منهما ودخيلُ

وأسرٌ أقاسـيهِ ، وليـلٌ نجومـهُ

أرَى كُلّ شَيْءٍ، غَيرَهُـنّ، يَزُولُ

تطولُ بي الساعاتُ ، وهي قصيرة

وفي كلِّ دهرٍ لا يسـركَ طـولُ

تَنَاسَانيَ الأصْحَابُ، إلاّ عُصَيْبَـةً

ستلحقُ بالأخرى ، غداً ، وتحولُ

ومن ذا الذي يبقى على العهدِ إنهمْ

وإنْ كثرتْ دعواهـمُ ، لقليـلُ

أقلبُ طرفي لا أرى غيرَ صاحبٍ

يميلُ معَ النعمـاءِ حيثُ تميـلُ

وصرنا نرى أن المتاركَ محسـنُ

وَأنّ صَدِيقــاً لا يُضِرّ خَلِيـلُ

فكلُّ خليلٍ ، هكذا غيرُ منصفٍ

وَكُلّ زَمَـانٍ بِالكِـرَامِ بَخِيـلُ

نعمْ ، دعتِ الدنيا إلى الغدرِ دعوةً

أجابَ إليهـا عالمٌ ، وجهـولُ

وَفَارَقَ عَمْرُو بنُ الزّبَيرِ شَـقِيقَهُ،

وَخَلى أمِيـرَ المُؤمِنِيـنَ عَقِيـلُ

فَيَا حَسْرَتَا، مَنْ لي بخِلٍّ مُوَافِـقٍ

أقُولُ بِشَجوِي، مَـرّةً، وَيَقُـولُ

وَإنّ، وَرَاءَ السّتْرِ، أُمّاً بُكَاؤهَـا

عَلَيّ، وَإنْ طالَ الزّمَانُ، طَوِيـلُ

فَيَا أُمّتَـا، لا تَعْدَمي الصّبرَ، إنّهُ

إلى الخَيرِ وَالنُّجْحِ القَرِيبِ رَسُولُ

وَيَا أُمّتَا، لا تُخْطِئي الأجْرَ إنّـهُ

على قدرِ الصبرِ الجميلِ جزيـلُ

أما لكِ في "ذاتِ النطاقينِ" أسوةٌ

"بمكةَ" والحـربُ العوانُ تجـولُ

أرَادَ ابنُها أخْذَ الأمَانِ فَلَمْ تُجبْ

وتعلـمُ ، علمـاً أنـهُ لقتيـلُ

تأسّيْ كَفَاكِ الله ما تَحْـذَرِينَهُ،

فقَـد غالَ هذا النّاسَ قبلكِ غُولُ

وكوني كما كانتْ "بأحدٍ" صفيةٌ

ولمْ يشفَ منها بالبكـاءِ غليـلُ

ولوْ ردَّ يومـاً حمزةَ الخيـرِ حزنها

إذاً مَـا عَلَتْهَـا رَنّةٌ وَعَـوِيـلُ

لَقِيتُ نُجُومَ الأفقِ وَهيَ صَـوارِمٌ،

وَخُضْتُ سَوَادَ اللّيْلِ، وَهْوَ خيولُ

وَلمْ أرْعَ للنّفْسِ الكَرِيمَـةِ خِلّـةً،

عشيةَ لمْ يعطـفْ عليَّ خليـلُ

ولكنْ لقيتُ الموتَ، حتى تركتها

وَفِيها وَفي حَدّ الحُسَـامِ فُلـولُ

ومـنْ لمْ يوقَ اللهُ فهـوَ ممـزقٌ

ومـنْ لمْ يعـزِّ اللهُ ، فهوَ ذليـلُ

ومنْ لمْ يردهُ اللهُ ، في الأمرِ كـلهِ

فليـسَ لمخلوقٍ إليـهِ ســبيلُ

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 842