نحو مشرق الشمس

أ.د أحمد حسن فرحات

لقد بدأت هذه الأمة مسيرتها نحو مشرق الشمس يوم أن هبط جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتحنث في غار حراء , وكانت كلمة "إقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم " هي الإكسير الذي بدأ يفعل فعله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في حياة من استجاب لدعوته من أمته .

وانتقلت هذه الأمة بتأثير القرآن وقوته الفاعلة من الجاهلية إلى الإسلام ، فكانت أول أمة تولد من خلال نصوص كتاب , وتنبثق من بين حروفه وكلماته , وتقوم على إيحاءاته وتوجيهاته , ثم تخرج به إلى الناس وحياً إلهياً يحرك القلوب , ويهز النفوس , ويعيد صياغة الحياة وصناعة التاريخ ...........

ولقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم– حريصاً على هذه الطاقة الهائلة أن تتبدد, أو يقل تأثيرها في نفوس أصحابه, فقصرهم على الاستمداد منها , والاستقاء من معينها, ونهاهم عن الالتفات إلى غيرها ، والتطلع إلى سواها.

ومن ثم فقد اشتد غضبه حينما رأى صحيفة من التوراة في يد عمر – رضي الله عنه– وقال: " لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعنى " بل إنه نهى أصحابه – صلى الله علية وسلم – أن يكتبوا عنه شيئاً غير القرآن وقال  : " من كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه ".

كل ذلك إدراكاً منه – صلى الله عليه وسلم- لقوة كلمة الوحي التي يمحو الله بها مايشاء ويثبت.....وحفظاً لها من أن يشاركها ما يقلل من تأثيرها أويضعفها في مرحلةالإنطلاق الأولى.

ولقد كان العرب في عصر نزول القرآن في مستوىً يمكنهم من التفاعل مع النص القرآني , والاستجابة لإيحاءاته, والتأثر ببلاغته وسحر بيانه , ولم يكن هناك ما يحول بينهم وبين ذلك . فقد كانوا يفهمون معانيه ,ويتذوقون حلاوته , ويعرفون أساليبه .

فعكفوا على قراءته ودراسته , وأمعنوا في تدبر آياته ، واستكشاف أسراره . فغاصوا في أعماقه باحثين عن درره , مستنبطين لأحكامه , مستلهمين لتوجيهاته .فوجدوا فيه حلاً لمشكلاتهم , وشفاءً لما في صدورهم , ونوراً لأبصارهم وبصائرهم , وهداية في كل شأن من شؤون حياتهم .

ثم بدأهذاالمستوى يتدنى شيأً فشيأً ، بفعل اختلاط العرب بغيرهم, وبدخول الأمم والشعوب في دين الله أفواجًا, فتطرق الضعف إلى اللغة , وفشا اللحن في اللسان , وظهرت الحاجة إلى ضبط القراءة ، وإلى ضبط الفهم والاستنباط .

فنشأت نتيجة لذلك علوم العربية من نحو و صرف وبلاغة .. ونشأت علوم القرآن من رسم وقراءات وتفسير، كما نشأت العلوم الشرعية الأخرى ، من حديث وفقه وأصول ... إلى غير ذلك من علوم العربية وعلوم الشريعة , والتي تهدف كلها إلى خدمة القرآن الكريم وتمكين المسلم من أن يرتفع بمستواه ، للتعامل مع القرآن والتفاعل معه والتأثر به , وليكون قادراً على فهم معانيه واستنباط أحكامه واستلهام توجيهاته ... كما كان الشأن في جيل الصحابة رضوان الله عليهم ..

وسارت الأمور في هذا الاتجاه الصحيح فترة من الزمن , حيث كانت كل تلك العلوم في خدمة القرآن ، والمساعدة على فهمه ..

ثم بدأت هذه العلوم مع الزمن تتسع شيئـًا فشيئـًا ، وتنحو منحى الاستقلال, وأصبح في كل علم من العلوم مالايحصي من الكتب والمؤلفات . وغدت الثروة العلمية والفقهية التي خلفها لنا علماؤنا، تنوء بها العصبة أولو القوة , وتفنى الأعمار دون الإحاطة بها وإدراكها وتمثلها . على الرغم من أنها تتفاوت صحة، وضعفاً , وخطأً

وشذوذاً , وبعداً عن الجادة، واستقامة عليها ...

ومع تطاول الزمن , واتساع العلوم , وتنامي استقلاليتها وتخصصها . أصبحت هذه العلوم محور الدراسة، وموضع الاهتمام . فبعد أن كانت وسيلة مساعدة على فهم القرآن , غدت غاية بحد ذاتها, ومن ثم انصرف إليها الدارسون، وطلبةالعلم، يولونها كلَ اهتمامهم , ويوجهون إليها معظم نشاطهم , وينفقون في سبيلها جلَّ أوقاتهم، و أعمارهم .

ولم يعد الاهتمام بالقرآن و السنة في المقام الأول، وإنما أصبح في المقام الثاني ، ومن ثم ضعفت الصلة بالقرآن، والسنة . ولم يعد لهما ذلك الأثر الفعال، في تغيير السلوك ، الذي عرفناه في الأجيال السابقة . فتوقف العقل المسلم عن النشاط ، وفقد كثيراً من فاعليته، التي أفاضها عليه القرآن، نتيجة تفاعله معه . وظهر من ينادي بإغلاق باب الاجتهاد، نتيجة العجز العقلي، الذي ألقى بظلاله على المجتمع الإسلامي ...

ثم في مرحلة من مراحل تاريخ هذه الأمة ، يغدو القرآن – في واقع بعض المنتسبين إلى العلم – وسيلة يستعان بها على إيضاح بعض العلوم ، التي كانت وسيلة لإيضاحه . فكأن مهمته: تُقْصر على تقديم شواهد، لتوضيح القواعد النحوية، والبلاغية ، وغيرها من العلوم الأخرى .

ولو طلب إلى من يقرر هذه القواعد النحوية، أو البلاغية ، أن يعرفنا بمعنى الآية التي يستشهد بها ، لللاستدلال على قاعدته , لوقف أمامنا فاغرًا فاه متعجباً , ولألفيناه يقول : بأن اختصاصه انما هو النحو، أو البلاغة . وأنه لا يعرف من الآية إلا موضع الشاهد ...

وهكذا يغدو القرآن _ في نظر أمثال هؤلاء _ مجموعة من الشواهد التي يستخدمها علماء هذا الزمان لتوضيح قواعدهم ...

ومثل هذا الذي قيل في شأن علوم العربية ، يمكن أن يقال في بعض العلوم الشرعية : كعلم الكلام " علم التوحيد " الذي تأثر بمنطق أرسطو، و فلسفة يونان , وتحول إلى مدارس فكرية، واتجاهات مذهبية , تنحو مناحي مختلفة ، وتتخذ طرائق قدداً . فغدت كل فرقة تبحث في القرآن، عن شاهد يؤيد وجهة نظرها , ويشهد لقولها ومذهبها . وبذلك وقعت الأمة في داء الفرقة، والاختلاف , وكل يريد أن يقول بأن ما ذهب إليه: هو الذي جاء به القرآن .....

أما ما انتهى إليه الأمر، في شأن هذه العلوم ، فقد تجاوز ذلك كله . حيث أصبحت كثير من هذه العلوم بدائل للقرآن , تدرس في غيابه ، و في منأىً عنه , ظناً منهم: أن كل العلوم التي حواها القرآن ، قد استخرجت منه، وأفردت بالتأليف، بكتب مستقلة . ومن ثم لم يعد في القرآن: إلا نصوص تتلى، بقصد البركة، والثواب الأخروي .

إن ما آلت إليه الأمور من انحطاط في العقل , وجمود في الفهم , وعكوف على كتب المتأخرين، حفظـًا وتسميعاً , واختصاراً وتلخيصاً , أو شرحاً وتَحْشِيةً , أو صياغة على طريقة النظم . أو غير ذلك مما شغل به الناس أنفسهم في العصور المتأخرة, لن يحلَّ مشكلة , ولن يبعث نهضة ، ولا يمكن أن يكون سبيلاً لاستنقاذ أمة ، ولاباعثاً على استئناف حياة جديدة .......

إن الحياة لايمكن أن تدب في هذه الأمة إلا بوحي الله :

" وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان "

ولا يمكن أن تكون إلا في الاستجابة لهذا الوحي :

" ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"

فكلمات الله، ووحيه ، هما القادران على بعث الحياة من جديد، في هذه الأمة . وهما القادران على إمدادها، بما تحتاجه من القوة، والطاقة ....

إن نصوص القرآن الكريم ، غنية بالمعاني التي لاتحد . والتوجيهات التي لاتنفد. والأحكام التي تلبي حاجة الأمة، إلى يوم القيامة .

ومن ثم: فلا بد من العودة إليها ، ودراستها في سياقها وسباقها ، واستلهامها في حل مشكلاتنا ، ومعالجة قضايانا . وبدون ذلك، لا يمكننا أن نفهم حكمة الأمر الإلهي بكثرة قراءة القرآن , وتدبر معانيه ، والتفكير في آياته ، واستخلاص عبره وعظاته .

وليس من حقنا أبداً أن ننهي مهمة القرآن ، ووظيفته الأساسية ، بقصره على مجرد التلاوة . واحتساب الثواب على ذلك عند الله ... ثم الاستغناء عنه، بما كتبة الناس ، واستبدال الذي هو أدنى، بالذي هو خير ....

إن ما كتبه العلماء، واستنبطه الفقهاء ، يعتبر ثروة كبرى لهذه الأمة، في مجال العلم، والمعرفة . لا يمكننا أن نفرط فيها، أو نتجاهلها. ولكننا في نفس الوقت ، لا يمكننا أن نعتبرها: بديلة للقرآن ، أو مغنية عنه . كما لايمكننا: أن نعتبرها الكلمة االأخيرة، التي ليس بعدها مقال .

وإنما ينبغي دراستها في ضوء النصوص القرآنية، والحديثية , وليس بمنأى عنها. وهذه الدراسة في ضوء النصوص ، كفيلة بتوسيع دائرة الرؤية ، وتوضيح كثير من الجوانب، التي لا يمكن أن تتضح في غيبة النصوص . مما يؤدي إلى ترجيح بعض الأقوال، على بعض . أو ظهور فهم جديد، نتيجة لمراعاة سياق الكلام ، أو لمراعاة مجموع النصوص الواردة، في القضية . أو غير ذلك من المقتضيات التي تحكم الفهم، والاستنباط .

ثم إن هناك جوانب كثيرة ، مما عرض له القرآن . لاتزال بكراً ، تحتاج إلى بحث ودرس . وذلك فيما يتصل بالدراسات النفسية ، والإنسانية ، والاجتماعية. والتي لم تأخذ حظها الكافي، من البحث والدرس ، في تراثنا الثقافي، والعلمي .

وما مُسَّ منها مُسَّ مسَّا رفيقاً , وما يزال بحاجة إلى المزيد، من البحث والنظر , وبخاصة في ضوء الدراسات الحديثة، التي توسعت كثيراً في هذه الجوانب , وأصبحت لها علوم مستقلة .... ودراسات مستفيضة ...

إن على الباحثين الإسلاميين ، أن يأخذوا هذا كله، بعين الاعتبار . وأن تكون اجتهاداتهم في ضوء النصوص ، وألا يكتفوا من النص، بالجزء الظاهرالدلالة على الغرض . إنما عليهم أن يوسعوا نظرهم، في سياق الكلام وسباقه . وأن يتعرفوا مناسبته التي نزل بها , ويراعوا مقاصده، وحكمه ، ويضموا إليه أشباهه ونظائره.  إلى غير ذلك من الأمور، التي لابد من مراعاتها ، لمن أراد أن يجانب الخطأ، ويقارب الصواب .

هذا بالإضافة إلى ما سبق أن أشرنا إليه ، من ضرورة الاطلاع، على كتب التراث والتعرف على ما قاله الأئمة العلماء ، والجتهدون السابقون . وتفهم وجهة نظرهم وطريقة استنباطهم . فإنهم القدوة لنا في أصول الفهم ، ومناهج الاستدلال . وإن اختلفنا معهم في الاستنتاجات، والمسائل ، كما اختلفوا هم فيما بينهم ...

" وعلى الله قصد السبيل ومنا جائر ولو شاء لهداكم أجمعين "

- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين -

وسوم: العدد 844