ويبقى الإسلام

خلق الله الخلق ليعبدوه وحده لاشريك له ، قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، وبيَّن الله سبحانه مناهج الحق والفوز وسعادة الدارين فيما أنزل من الكتب السماوية  على أنبيائه على مدار الحقب ، ليجتنب الإنسان مكائد الشيطان وتضليله يقول عزَّ وجلَّ ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ) ، والإنسان يدين لله بالعبودية ، ولذا فليس له أن يُحكَم أو يَحكُم بغير ما أنزل الله ، فإن رضي بغير ما أنزل الله فقد كفر أو ظلم نفسه وغيره أو فسق وخرج عن طاعة ربه  . يقول  الله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). لأن الله سبحانه وتعالى هو أعلم بحال خلقه وهو العليم الحكيم : ( ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللطِيفُ الخَبير ) ، فالأصل قيام الخلق بما أمر الخالق ، وكل اختلاف يجب أن يُردَّ إلى كتاب الله سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ، بل لن يكون المؤمن مؤمنا خالصا لله إلا إذا رضي واستسلم لحكم الله يقول عزَّ وجلَّ : ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾.

وهذه دعوة صريحة تؤكد على أن صحة الإيمان تكون بالرضا المطلق بما حكم به الله ، وفي أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي: ( إن الكفر والظلم والفسق، كل واحد منها أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ﴾ معارضاً للرسل، وإبطالاً لأحكام الله؛ فظلمه وفسقه وكفره كلها مُخرجٌ من الملة. ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ﴾ معتقداً أنه مرتكب حراماً، وأنه فاعل قبيحاً، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج من الملة". ناهيك عمَّن جاء الأمة بدساتير الإفرنج المبنية على آراء الزناديق والكفار الذين بثُّوا جهلهم  ومافيه من سموم ، وأرادوا للأمة أن تحكم بها . يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى : (  والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه أو حرم الحرام المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين : ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ 44/المائدة أي: المستحل للحكم بغير ما أنزل الله. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية  : ( من جحد ما أنزل الله، فقد كفر، ومن أقرّبه، لم يحكم به فهو ظالم فاسق)  رواه الطبري . وجاء في كتاب مدارج السالكين: ( أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين: الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مُخيّر فيه، مع تيقُنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. إن جهله وأخطأه، فهذا مخطئ، له حكم المخطئين ). على أن أعداء الإسلام في العصور المتأخرة راحوا ينقضون عراه عروة عروة ، تساندهم في ذلك غفلة المسلمين ، والسكوت عما يُهضم من حقوقهم في الحياة الكريمة ، والسكوت على ظلم الطغاة المتجبرين من الحكام ، وقد شهدنا ظلمهم وبغيهم بأعيننا وما زلنا نشهد تنكيلهم بجميع المواطنين هنا وهناك ، بل هم يمعنون في التنكيل والبطش بكل بشاعة وحقد ، ولقد صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حين وصف الطاغية منهم بالظلوم الغشوم ، فقد جاء في الحديث الشريف : (صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم و كل غال مارق )  رواه الطبراني .

إن الأمة أفاقت من غفلتها ، وتحررت من قيودها ، وآمنت بأن لاخلاص لها إلا بهذا الإسلام الذي اختارها الله له ، لتدين به ، وتسعد بأحكامه ، وتنال العزة والفوز في الدنيا والآخرة باتباع هُداه ، ولم تعبأ بهذه السياسات الفارغة المضللة من قِبل الانتهازيين أعداء الإسلام ، الذين راحوا يتفلسفون ويتحدثون ويكتبون عما تجيش به عقولهم التي لم تعد تتحمل ثقل العودة إلى الله من جانب الشعوب ، ولم تعد تتحمل قوة المد الشعبي وهو يرنو إلى الأعلى ، إلى الله خالق الخلق ، منزل الحق الذي يأتي من خلال تشريعاته  بالإرشادات والمناهج التي تهيئ الظروف المكانية والزمانية للأمن وللعيش الرغيد بإذن الله . إن الذين يشهدون بسمو الرسالة الربانية ، وعظمة الشريعة المحمدية ثم يحاولون صياغة أساليبهم المضللة على بريق سراب زائف ، فالاجتهادات في أمور الدنيا من كيفيات للزراعة والصناعة والتجارة ، والتجاوب مع متطلبات النهضات والتطورات ... لاتؤثر على حقيقة اختيار الإسلام  ليكون الحل الأمثل والوحيد للحياة الفاضلة للبشرية ، وعلى هؤلاء أن يتقوا الله في شعوبهم ، وفيما يتكلمون به من هذا الباطل ، وعند ذلك لهم ولغيرهم من دعاة الإسلام وعلمائه الأبرار الأخيار الحق في قيادة الأمة على نور من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم . إن مايختلقه هؤلاء الأفاكون لايأتي إلا بالويل والثبور عليهم آخر المطاف ، إن الله بالغ أمره ، قد جعل الله لكل شيء قدرا . إن مايسمونه بالنضج السياسي الشعبي يلزمه شيء من التفسير الصحيح ، وقد فسَّرته الشعوب في ميادين عدم الركون للطغيان والاستعباد ، ولكن يظهر أن هؤلاء لايسمعون صوت الحق ، ولا هدير الصدور التي عانت من الويلات والمصيبات ، إن هؤلاء ــ بسطاء ــ كما يحلو لهؤلاء أن يسموهم ، ونسوا مرة أخرى أن الفطرة السليمة هي التي أنطقتهم ، وهي التي ألهبت حناياهم بهذا الضرام ، فلم يبالوا بالموت وهو محدق بهم من كل جانب ، ولم يبالوا بالغالي والنفيس من متاع الدنيا وقد ذهب من بين أيديهم ، فالشهداء لايحصون والجرحى لايُعَدُّون ، والأسرى لاحصر لهم ، لقد عاش الناس من قبل ورؤوسهم مطأطئة صوب الأرض ، لاعن تواضع ...  ولكن لثقل الأهوال والإرهاب والتخويف الذي أحدق بهم في بيوتهم وفي مكان عملهم . بل إن هؤلاء الموتورين يعتبرون هذه الثورات أعمال فوضى وشغب ، ولكنهم خابوا إنها فعلا الحنين إلى أيام المجد والسؤدد ، إلى أيام الخلافة الراشدة القادمة بمشيئة الله . إلى دولة الإسلام البريئة من كل الضلالات والحسابات الشيطانية ، دولة الإسلام التي عاش في ظلالها أهل الكتاب وغير أهل الكتاب في أمن وأمان وسعادة وتكافل اجتماعي لايوجد له نظير في أي حكم على وجه المعمورة . وإننا لن نتشاءم ــ كهؤلاء ــ الموتورين بمستقبل الأمة في ظلال الإسلام ، ولن نخشى من العثرات ولا من الذين يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر ، فستكون الدائرة عليهم بحول الله وقوته ، فالمسلم الصادق لايعتريه الفشل الذي هو نتيجة حتمية للعمل الذي يتبنَّاه غير أهل الإسلام ، وهاهي نتائج أعمال الأحزاب والاتجاهات اليسارية واليمينية كما يحلو لهم أن يسموها ماثلة أمام أعيننا في ثمراتها المرَّة التي جلبت للأمة الأوجاع والتقهقر والضياع . وقد خابت آمال المتفرنجين وهم يشاهدون مصارع الاشتراكية والعلمانية والحداثة والأفكار العبثية المستوردة من الشرق أو الغرب . إن الأمة التي يقودها علماؤُها الأطهار وفطرتها النقية ... هي التي أنتجت طائفة الحق التي تضحي لإعادة الخلافة الراشدة ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق حتى يأتي أمر الله ) رواه البخاري ومسلم. فأنَّى لهؤلاء أن يُطفئوا نور الله ، لقد وعد الله بإظهار هذا الدين ، وبنصر هذه الأمة ، يقول المولى تبارك وتعالى : ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نورَه ولو كَرِهَ الكافرون * هو الذي أَرسل رسولَه بالهدى ودينِ الحق ليُظْهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون)  32/33/التوبة ، إن مَن يستعرض تاريخ الطغاة قديما وحديثا ، ويعلم ماكانوا عليه من جَور وجبروت ، ثم ماحل بهم من خزي وإهانة ليتأكد من أن التمكين في الأرض لن يكون إلا للإسلام ولأهله مهما علت أصوات الغربان ، يقول عزَّ وجلَّ : ( وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمَكِّنَنَّ لهم دينَهمُ الذي ارتضى لهم ولَيُبدّلنّهم من بعد خوفهم أَمْناً يَعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومَن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) 55 / النور  . ويلاقي أهل الإسلام من أعدائه الجناة العتاة من القتل والسجن والنفي والحصار مايلاقون ، ولكنهم ماعلموا غير الصبر والثبات ، وما وهنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، فدافع الله عنهم ، ورمى أعداءَهم  ، وأنجاهم ونصرهم وأهلك الفراعنة الصغار والكبار ، وكانت العاقبة لهذه الأمة ولرجالها الأبرار ، يقول تعالى : ( وكان حقّاً علينا نصرُ المؤمنين ) 47 / الروم .

إن ماشعرت به الشعوب الإسلامية في العصور المتأخرة من ضعف ومهانة ، ومن وهن أقعدها عن الجهاد وحُسن الأداء في معاملاتها وسيرتها ، بات يحفِّزها اليوم للتغيير ولدفع أثقال الرزايا ، وكان لابد للطغاة الذين لم يحكموا بما أنزل الله من أن يضربوا بيد من حديد ، وأن يسجنوا الأمة كلها غير عابئين بسُنة الله في الانتقام من الجبابرة على مدار الحقب التاريخية . وإن الله ينتصر لدينه ولعباده الصالحين ، ويمد جنوده في الأرض بجنود من السماء ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( رأيت جبريل وعلى ثناياه النقع ) ، فقال رجل من بني غفار: أقبلت أنا وابن عم لي فصعدنا جبلا يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننظر لمن تكون الدائرة فننتهب ، فدنت منا سحابة فسمعت فيها حمحمة الخيل ، وسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، قال: فأما ابن عمي فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت،

وكان الصحابي يوم بدر يلحق بالمشرك ليقتله ، فيرى رأسه وقد تدحرج أمامه ، ولا يعرف مَن قتله . إن الإيمان بالله يصنع الأعاجيب ، ويجعل صاحبه يشتم ريح الجنة ، فحين أقسم النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ) ، فقال أحد عشَّاق الجنة وهو عمير بن الحمام الأنصاري وكانت بيده تمرات يأكلهن: بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قُتل.

هذا من أسرار خلود الإسلام ، وهذا من معالم صلاحه لكل زمان ومكان وقوم وللإنسانية كلها ، وأن فيه الحل لكل مافي حياة الناس من متطلبات ، ثم إن الأمة الإسلامية لم تعد تقبل هذا الخنوع وهذا الذل الذي خيَّم عليها ، فدفعت بشبابها الوثاب على مدارج العزة والكرامة ليجابهوا قوى الشر والاستكبار مهما كانت ، هذا الشباب التائب إلى الله فتح أبواب العودة إلى الإسلام لينقذ الأمة مما حلَّ بها ، ولعلها بشارات النصر والفتح ، يقول الله تعالى : ( إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ١ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ٢ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) 1/3/النصر  .  ولقد كفى الأمة استسلاما لحكم العسكر ، وهيمنة المنكر ، واستباحة ما حرَّم الله ، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يمكِّن للأمة ، وأن يتقدم لقيادتها أبناؤُها الصالحون ، ولعل بشائر التأييد الرباني لامست أرواح أبناء الأمة ، وحانت أيام التمكين ، فهذه الثورات المباركة ، وهذه الدماء الزكية ، وهذه المعاناة التي لاتطيقها الجبال الراسيات ، وهذا الوعد الإلهي المكين وغيرها ...  نبتهل بها إلى الله ليرفع الغمة ويكشف الخطوب عن الأمة ، يقول المولى تبارك وتعالى : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) 5/6/القصص .

وسوم: العدد 844