تاريخ مجيد ينتظر من يكتبه

أ. محب الدين الخطيب

الحمد لله، وصلى الله على واسطة عقد الإنسانية سيدنا محمد، وعلى القائمين برسالته من خلفائه وأوليائهم وأنصارهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد: فإن تاريخ الأمة هو الأمة. وكل جيل من أجيالها حلقة من حلقاتها الممتدة بين الأزل والأبد. والجيل المعاصر إحدى هذه الحلقات، وسيكون له تاريخ، وسيكون تاريخه فصلاً من تاريخ أمته، وسيكون من تاريخه علمه بتاريخ أمته ووفاؤه لها أو جهله بها وبغيه عليها.

وكما ينبغي للمرء أن يعرف نفسه وما مرّ به من يسر وعُسر، ينبغي للجيل كذلك أن يعرف ماضي أمته وما صدر عنها من خير وشر، وما قامت به للحق والفضيلة من نصرة أو تقصير. لأن الجيل امتداد لأمته، وهو منها وقبيح به أن يجهلها، كما أنه قبيح بالمرء أن يجهل نفسه. وتاريخ كل أمة فيه الأمجاد والفضائل وما تثمره من أسوة وقدوة وفيه الأخطاء والزلات وما تفيده من عظة وعبرة.

والمؤرخ هو مربي الجيل الرفيق به الذي يحسن تنبيه الجيل إلى مواطن الأسوة والقدوة من رسالة أمته وسننها وأمجاد عظمائها وفضائلهم، ويترفق بإيقاظه للاعتبار بأخطاء الماضي وزلاته والاتعاظ بها.

حدثني القائد العسكري الكبير عزيز علي المصري في إحدى زياراته لدار المطبعة السلفية ومكتبتها لما كانت في شارع خيرت بالقاهرة قبل نحو ثلاثين عاماً قال: لقد لاحظت عجباً في هذه الكتب العربية التي دوّن فيها المؤرخون تاريخ أمتنا، إنهم يختلفون كل الاختلاف عن مؤرخي الأمم الأخرى. لقد قرأت كثيراً من كتب التاريخ الفرنسية والألمانية والإنكليزية، فرأيت المحققين من مؤلفيها يلتزمون الحقيقة غالباً في عرض الوقائع، غير أنهم يحيطون أخطاء الماضي بالظروف التي أدت إلى وقوع تلك الأخطاء، حتى ليكاد القارئ يعذر المخطئين فيما صدر عنهم، ثم يستنتجون العبرة من ذلك ليستفيد الخَلف من أخطاء السلف فيتفادوا تكررها ويجتنبوا الوقوع في أمثالها، ويخرج المؤلفون والقراء من مثل هذه المواقف بالاحترام التام لسلفهم حتى عندما يكونون مخطئين. وإنما جنح الغربيون إلى التزام هذا الأسلوب في كتابة تاريخهم لأنهم يعتبرون أنفسهم جزءاً من الأمة التي يدونون تاريخها، إن لم يكونوا جزءاً من الإنسانية التي يصفون أطوارها وأحوالها.

فالمحققون منهم لا يخرجون عن مقتضى الأمانة في تسمية الصواب صواباً والخطأ خطأ، غير أنهم يحسنون عرض الصواب فيراه القارئ بجماله الرائع، ويدرسون ظروف الخطأ ونواحي العذر فيه لمن صدر عنهم، كما يُدلون بأعذارهم لو كانوا هم المخطئين، وبهذا تستفيد الأجيال العبرة، وبهذا يؤدي التاريخ مهمته.

وأحب أن يعرف شباب الجيل أن الأمة العربية الممتازة بصفاء فطرتها وجودة مداركها وكريم معدنها، وأن الملة الإسلامية التي تحمل أكمل رسالات الله وأصدقها وأسماها، لم يُكتب تاريخهما بعد.. ولكن من نعم الله علينا نحن الخلف لذلك السلف، أن المادة الجيدة النقية – التي سنشعر بالحاجة إليها عند تدوين تاريخ أمتنا وملتنا – موجودة ولله الحمد في تضاعيف كتب الأخبار، وفي تحقيقات أئمة السنة وعلماء الحديث، وفي كل منها سمة جودته، ونورٌ من الله يرشد إليه.

غير أن مما يؤسف له كون هذه المادة الجيدة من مواد تاريخنا مشوبة بغيرها من سقيم الأخبار، وبالأكاذيب المفتراة على عظماء الأمة الذين صنعوا التاريخ ونشروا الإسلام، وأوجدوا هذا العالم الإسلامي الذي نعيش فيه ونحن المسلمين إذا تحدثنا في خطبنا ومحاضراتنا ومقالاتنا عن صدر الإسلام نعترف جميعاً بأنه معجزة من معجزات التاريخ الإنساني، وأن أهله نشروا دعوة الحق وحرروا الإنسانية من عبوديتها للأرباب المخلوقة، والأوهام الزائفة، وطغيان الحكم، وطغيان المال، وطغيان البغي بكل أنواعه، وأنهم جددوا شباب العلم والمعرفة، وأقاموا معالم العمران، ووطدوا دعائم العدل، وعمموا التعامل بالأخلاق الحسنة والفضائل.

كل هذا نذكره ونتغنى به في مجامعنا وجمعياتنا ومنشوراتنا، لكننا إذا أردنا أن نتحدث عن شخصيات التاريخ التي صنعت ذلك كله، كالشخصية التي تمت هذه المعجزة على يدها في مصر(1) والشخصية التي أنشأت الأسطول الإسلامي الأول(2) لنشر دعوة الحق في ظل الشراع بحراً، كانتشارها في ظل اللواء براً، والشخصيات التي توغلت جيوشها في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا غرباً، وفي فارس والسند والقفقاس وما وراء ذلك شرقاً، فإننا ننسى حينئذٍ أن هؤلاء هم الذين صنعوا المعجزة التي كنا نتغنى بها، وننسى أنهم هم الذين ترك لنا التاريخ في تضاعيفه أصدق الثناء عليهم في المادة الجيدة النقية التي عليها نورٌ من الله يرشد إليها، فنعرض عن هذا كله، ونتعلق بسقيم الأخبار، وبالأكاذيب المفتراة على هؤلاء العظماء، فنكون منها صوراً لهم في أذهاننا لا تمثل حقيقتهم، ولا تتفق مع أخلاقهم وعدلهم وبطولتهم وآثارهم الماثلة أمام أنظارنا في دنيا الواقع.

إن الذين صوروا لنا شخصيات صدر الإسلام في الكتب التي بين أيدينا، والذين رووا لنا أخبارهم أو دونوها، ينقسمون إلى أصناف متعددة:

منهم الأخيار الذين عاصروا الصدر الأول وكانوا يرون أبا  بكر وعمر هما المثل الأعلى للحاكم المسلم، فحكموا بالتقصير على من قصرت سيرته عن سيرتهما ممن جاء بعدهما، مع أن هؤلاء الذين جاؤوا بعد أبي بكر وعمر هم الذين صنعوا المعجزة التي نتغنى بها، وهم الذين نشروا دعوة الإسلام، وهم الذين جددوا للإنسانية شبابها بالإسلام، وهم الذين حملت أساطيلهم وجيوشهم راياته فخفقت في آفاق أوروبا غرباً، وأعماق آسيا شرقاً، وأرست قواعد الرسالة المحمدية في العالم الإسلامي الذي نعيش فيه.

والذين يناقضون أنفسهم منا في مدح المعجزة وذم أصحابها قد خدعتهم الأخبار المكذوبة التي بُثت في تضاعيف الروايات لغرض مذهبي، أو تملقاً لمقامات سياسية كانت تشجع على ذلك. فصرنا إذا رأينا إمام السنة سليمان بن مهران الأعمش – وكان يسمى "المصحف" لصدقه – يثني على معاوية في صدر دولة بني العباس ويقول: "إن معاوية كان والله أعدل من عمر بن عبد العزيز" نتعجب من هذا القول إذا سمعناه، لأنه يخالف الصورة المزيفة التي كوناها في أذهاننا لمعاوية ولكثير من الشخصيات التي تمت على أيديها معجزة تكوين هذا العالم الإسلامي. والآن وقد أصبح التاريخ حاجة من حاجات الثقافة القومية والملِّيِّة للعرب والمسلمين، فقد آن لعلمائنا أن يعيدوا النظر فيه، لينشؤوه، من جديد إنشاءً منزهاً عن الأغراض المذهبية والملق السياسي، ويتفق مع نتائج الأحداث، وحسن التقدير لمقوماتها، والوفاء لكل من أحسن تمثيل دوره في إقامة بنيان الحق، وحمل نصيبه من رسالة الإسلام وأخلص النصيحة للإنسانية بتعميم دعوة الحق والتقدم بها إلى أقصى الآفاق.

ومما امتاز به أعلام الأخبار بين قدماء علماء المسلمين إيراد الأخبار معزوة إلى رواتها، وقد التزموا ذلك فيما يتعلق بأحداث صدر الإسلام على الأخص، غير أنهم أوردوا روايات أهل النزعات والمشارب المختلفة، فمن الواجب على من يتخصصون بعد الآن في بعث التاريخ الإسلامي أن يستقصوا الروايات فيما يتعلق بكل حادث، ثم يدرسون مكانة رواتها من الصدق والأمانة واحداً واحداً، وهل لقي كل واحد منهم الراوي الذي يدعي أنه تلقى هذا الخبر عنه، وهل كانت سنه وظروفه التاريخية والجغرافية تؤيده في ذلك.؟

وتقارن هذه الأخبار بعضها مع بعض، وترجح منها روايات أعلام المحققين من الرجال الذين يشق بهم علماء الحديث النبوي ويأتمنونهم على ما يرونه منه. وبذلك تمحص تراجم عظماء الأمة وقادتها الذين تمت الأحداث على أيديهم.

ومتى خرجنا من هذه الدراسات بتنظيف ما طرأ على سير هؤلاء العظماء من دسائس المغرضين بدوافع مذهبية أو سياسية على قاعدة "أنّى لك هذا؟!" أمكننا أن نستعين بهذه التراجم النظيفة على تدوين حوادث التاريخ الإسلامي العام بأمانة وطمأنينة وتحقيق كما لو كنا معاصرين لها.

ومما ينبغي لنا الاعتراف به من مظاهر تقصيرنا في الوفاء لمن نحن الآن مسلمون بسببهم، أننا – بقدر إهمالنا لبقعة الفسطاط التي ظهر منها نور الإسلام في مصر، والتي منها انتشر هذا النور إلى ليبيا وتونس وما وراءها حتى دخل أوروبا، فبلغ من إهمالنا لهذه البقعة أن تحولت إلى جيَّارات ومقابر للأرمن والروم واليهود – قد أهملنا بقدر ذلك وبأكثر منه معرفة أقدار العلماء الذين أقاموا مدينة الفسطاط وحملوا إليها دعوة الإسلام، ثم نشروا منها هذه الدعوة في مصر وشمال إفريقيا، وكان من تمام عظمتهم أن تمكنوا من إحداث أعظم انقلاب اجتماعي في قومية مصر ولغتها وأدبها ونظام حياتها، ولو لم يفعلوا إلا هذا لكان هو بنفسه معجزة تستحق أن تقيم له مصر حفلات التذكير السنوي باليوم الذي صارت فيه مصر بمكان القلادة من وطن العروبة والإسلام. فتقصيرنا في معرفة أقدار العظماء الذين صنعوا ذلك هو الذي أدى بنا إلى بقاء تاريخنا كالجثة الميتة، فبقينا بعده كالأموات، لأن بعثنا متوقف على بعثه، فإذا عرفناه عرفنا من نحن وعرفنا طريقنا إلى المستقبل.

يقول هادينا الأعظم صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" والذين صنعوا أعظم مفاخر التاريخ الإنساني هم ولاة أمر المسلمين من الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان.. وتاريخ هؤلاء العظماء كُتب مشوهاً، ودُسّ فيه ما أفسد عظمته. وفي تضاعيف كتبنا من الحقائق ما نستطيع أن نصلح به هذا الفساد بإخراج كتب في سير أعلام الإسلام وتراجمهم ترد الحق إلى نصابه.

إن التعليم الاستعماري كان يعلم أن بعث التاريخ الإسلامي على حقيقته في مدارس الأوطان الإسلامية سيترتب عليه البعث الحقيقي للإسلام وسننه وأهدافه في نفوس المسلمين، ولذلك كان حريصاً على أن يحول بين المسلمين وبين بعث تاريخهم.

فهل آن لنا أن ندرك هذه الحقيقة، وأن نتحرر من هذا الكيد الاستعماري؟

أظن أنه قد آن لنا ذلك، وأرجو أن نفعل.

(1) عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(2) معاوية بن  أبي سفيان رضي الله عنه.

وسوم: العدد 845