الولي الفقيه وأطفاله القصّر

أياً كانت الصلة بين محمد خاتمي (الرئيس الإيراني الأسبق، 1997 وحتى 2005)، وأحمد خاتمي (خطيب صلاة الجمعة هذه الأيام)؛ فإنهما، كما تقول مؤشرات كثيرة، ليسا على صلة متماثلة مع إيران الشعبية، رغم انتمائهما إلى إيران الوطن ذاته. الأوّل سعى مراراً، وفشل تكراراً، في تمرير إصلاحات سياسية وإدارية وحقوقية وثقافية، واكتفى بإصدار بيانات التأييد للإصلاحيين بين فينة وأخرى؛ والثاني، في مناسبة التعليق على الاحتجاجات العارمة التي عمّت مؤخراً قرابة 100 مدينة وبلدة في إيران، طالب بفرض العقوبة القصوى (الإعدام، في تعبير أوضح) بحقّ قادة “أعمال الشغب والفوضى”، ولم يكتفِ باتهام أمريكا بالوقوف خلف التظاهرات، بل أكد ضلوع فرنسا وألمانيا أيضاً، معتبراً أنّ “إحباط مؤامرات العدو من مظاهر النصرة الإلهية”.

ثمة حقيقة أولى تستوجب التأكيد هنا، تخصّ العقوبات المختلفة التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الاقتصاد الإيراني، في أعقاب انسحاب إدارته من الاتفاق النووي المعروف. وهذه عقوبات تشمل صادرات إيران من النفط والمنتجات البتروكيميائية، وصناعة الطيران، والملاحة البحرية، وقطاعات المصارف والتأمين، وشراء العملة الأمريكية، والمتاجرة بالذهب والعملات الثمينة؛ كما تشمل، إلى ذلك، الجهات العالمية التي تتعامل مع الاقتصاد الإيراني في هذه الميادين. وهي عقوبات، مثل سائر ما فرضته وتفرضه الولايات المتحدة على الأنظمة، تمسّ المواطن الإيراني في مأكله وملبسه وصحته وتعليمه وسائر مظاهر العيش اليومي؛ قبل أن تعضّ رجال السلطة وآيات الله وجنرالات الجيش والحرس الثوري والأجهزة الأمنية. صحيح أنّ الاحتجاجات لم ترفع شعار “الموت لأمريكا”، لأنه ببساطة علامة مسجّلة باسم السلطة، ولكن جوهر الحراك انبثق من إقدام النظام على رفع سعر المحروقات على نحو زاد طين العقوبات بلّة وضاعف عذابات المواطنين.

ليس مستغرباً، أيضاً، أن تحاول الأجهزة الأمريكية استغلال الحراك، أو بالأحرى كامل تطلعات الإيرانيين إلى نظام ديمقراطي أكثر تمدّناً وعصرنة يتجاوز استبداد آيات الله؛ وتجارب الاحتجاج السابقة علّمتنا أن لا ننزّه البيت الأبيض عن محاولات اختراق صفوف المتظاهرين، وتجنيد عملاء من أنصار الشاه (وهم ليسوا قلّة أبداً)، والتدخّل في تنظيم وتسيير التظاهرات بالمعنى اللوجستي والمادّي. غير أنّ للحقيقة وجهها الآخر الأكثر أهمية، وأمثال خطيب الجمعة خير مَن يعرف أنّ هذه المطالب الإصلاحية ليست بنت اليوم، ولا هي من صنع الولايات المتحدة (مهندسة الإطاحة برئيس الوزراء الإيرانيّ الوطني الديمقراطي محمد مصدّق)؛ بل هي تعود بجذورها إلى مطالع القرن الماضي من جهة أولى، وكان أبرز روّادها رجال الدين الإيرانيون أنفسهم من جهة ثانية.

وذات يوم غير بعيد كانت مجموعة مؤلفة من 842 شخصية إصلاحية قد أعلنت في بيان صريح بأنّ “وضع أشخاص في موضع السلطة المطلقة والألوهية هو هرطقة واضحة تجاه الله وتحدّ واضح لكرامة الإنسان”، في إشارة عدائية ضدّ مبدأ ولاية الفقيه. ولقد بات جلياً، عبر تجارب متعاقبة، أنّ أيّ فريق إصلاحي سوف يظلّ مشلولاً قاصر الفعل والنفوذ، ما دام يواصل عجزه التامّ إزاء المساس بالمبدأ ذاك. والمرء يستعيد، هنا، ذلك الردّ التوبيخي الشهير الذي أرسله الإمام الخميني إلى علي خامنئي، مطلع عام 1988؛ وجاء فيه: “الوليّ الفقيه مخوّل، وحده، بإبطال مفعول أيّ التزامات دينية أبرمها مع الشعب في حال اقتناعه أنها مناهضة لمصالح أمّة الإسلام. وفي وسعه أن يحظر أية مسألة دينية أو غير دينية إذا ارتأى أنها مناهضة لمصالح أمّة الإسلام”. وآنذاك أيضاً، شبّه الإمام الخميني سلطة الوليّ الفقيه على الشعب بسلطة المرشد المكلف برعاية طفل قاصر: “إنّ ولاية الفقيه أشبه بتعيين مرشد لرعاية طفل قاصر. وبمعنى مسؤوليته وموقعه، لا يختلف مرشد الأمّة عن مرشد الطفل القاصر”.

.. الأمر الذي يبرر إطلاق الرصاص الحيّ على هذا “الطفل القاصر”، بل الحكم عليه بالإعدام؛ إذا جاع وخرج على الناس شاهراً… معدة خاوية!

وسوم: العدد 852